للعبّاد تسكنها
"مين المرة اللي شغلت المروحة؟"... كانت تلك الجملة هي شرارة البدء في مشادة كلامية شديدة، تخللتها بعض الألفاظ النابية، امرأة قررت أن تفصل المراوح بالكامل، في وقت اشتكى فيه جلّ الموجودين من ارتفاع درجة حرارة الجوّ، فضلاً عن ضرورة توفير تهوية جيدة بسبب وجود وباء عالمي يعلم عنه الجميع.
كانت حجّة تلك المرأة أنها مريضة ويجب ألّا تتعرض لهواء المروحة بشكل مباشر، نصحها الجميع بأن تبتعد عن المروحة وتتخلى عن ذلك المكان، فما كان منها إلا أن شتمتنا جميعاً- حتى من لم يدخل معها بنقاش مباشر مثلي- بأن: "محدش بيشوفكم غير في رمضان، واحنا طول السنة اللي بنيجي الجامع!".
لا تندهش قارئي العزيز ، فالمشهد المروي في السطور الفائتة كان في أحد المساجد التي توجّهت إليها في أول أيام رمضان هذا العام لتأدية صلاة التراويح.
في الحقيقة إن المسجد بداخلي ليس مكاناً للعبادة فقط، بل مكان كان شاهداً على مراحل كثيرة وتغيرات نفسية كبيرة في حياتي. فرحت عندما دخلته لأول مرة، وأصابني الخوف من الناس مرات، احتقرت نفسي مرات ورضيت عن نفسي أخيراً.
المسجد في ذهني يعد انعكاساً لحياتي خارجه، لفترة كنت أبحث فيها عن التميز، وفترة كنت أفتقد فيها الحب، وأوقات طويلة كنت أخاف من مواجهة الناس.
أول مرة في المسجد
نشأت في بيت يصلي فيه الأب والأم وتقام فيه الشعائر الدينية بهدوء ودون تشنج، لم يفرض علي أحد صيام رمضان، أنا من طلبت الصيام، ولم تفرض أمي علي الصلاة، بل طلبت منها أن تعلمني الصلاة بعد أن عدت من المسجد لأول مرة.
نصحها الجميع المرأة بأن تبتعد عن المروحة وتتخلى عن ذلك المكان، فما كان منها إلا أن شتمتنا جميعاً بأن: "محدش بيشوفكم غير في رمضان، واحنا طول السنة اللي بنيجي الجامع!"... مجاز في رصيف22
أعود بذاكرتي لأجد أن أول صورة في عقلي للمسجد عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي: فتاة طويلة بشعر قصير ترتدي "عوينات" تساعدها على تبيان الحروف بوضوح، خرجت ومجموعة من زميلاتي من الدرس الخصوصي للغة العربية، وقرّرت إحدانا أن تدخل المسجد لتصلي العصر، بحسب تعليمات والدها.
دخلت معها، فلا مانع لدي من تأدية الصلاة، خرجت بحالة من السرور الداخلي، وخرجت هي خائفة تبكي.
أما عن سبب فرحي فكان لأن امرأة لا أعرفها أعطتني، دون أن أطلب منها، غطاء للرأس، كانت ترتديه كطبقة داخلية تحت خمارها، لألبسه لتأدية الصلاة. فرحت كطفلة لأنها اختارتني، أما عن حزن صديقتي كان بسبب بعض نقاط الماء التي خرجت من حوض المياه أثناء الوضوء، وأخبرتها سيدة عجوز أنها ستحرق يوم القيامة مكان تلك النقاط التي أسقطتها.
بالطبع لم نسألها عن السبب، فالكبار دائماً يملكون الحقيقة، ولكننا فهمنا الآن أنها كانت مسؤولة تنظيف الحمامات، وأن تلك النقاط كان سيتطلب منها تجفيفها من على الأرض.
لا أستطيع الآن تحديد مشاعري تجاه المسجد في أول زيارة ولكنني يمكن أن أسميها مشاعر طفلة فرحت بدخول مكان كانت تظنه مخصصاً للكبار، وطفلة رأت بعض التمييز في المعاملة انعكاساً لما يسمعه والداها دائماً بأنها مميزة.
في المسجد علمت أنني أطلب رضا الناس وأخافهم
"معيطيش من خشية الله؟"، جاءني ذلك السؤال الاستنكاري من امرأة كانت تسمي نفسها "شيخة" تعطينا دروساً في المسجد.
لم أعد فتاة صغيرة كالتي دخلت المسجد لأول مرة، بل فتاة تحت الخامسة عشر ترتدي لباساً واسعاً ولا يظهر منها عند المشي بالشارع سوى عينيها، جاء السؤال استنكاري بدرجة أشعرتني أن بي خللاً ما لأنني لم أبك من خشية الله، وكفتاة مراهقة، بها عناد المرحلة مع عناد بحكم شخصيتها، أخذت قراراً بأنني لا بد أن أفعل.
لا أحب أن أتذكر تلك المرحلة إطلاقاً ولكنني أود الحكي عنها لأتخفف من عبئها بداخلي، أود أن أعالج نفسي بالحكي.
كنت في منزلي وحياتي الخاصة في تلك الفترة أشعر بتخبط شديد، فبين أم زلزلني موتها، وزوجة أب لم تراعي الحد الأدنى من الإنسانية في معاملتي ولا تضيع فرصة للتقليل من شأني، ترسّب بداخلي شعور مبطن بالدناءة وبأنني "قليلة" أقلّ من الجميع، كان هناك إنعكاس لكل تلك المشاعر في كل تعاملاتي وكل الأماكن التي أتردد عليها، ومن بينها المسجد، كنت أشعر أن الجميع أفضل مني والجميع يمكنه أن يفعل ما لا أستطيع فعله.
بكيت أثناء الصلاة
في الحقيقة في معظم الأوقات التي بكيت فيها في تلك المرحلة من حياتي عند سماعي آيات القرآن لم تكن من خشية الله أو من التأثر بها، ولكنني لألتحق بـ" الجماعة الناجية" التي تهزها كلمات الله فتبكي وتتنحنح في الصلاة.
في ذلك المسجد تعرفت على عالم بعيد كل البعد عن عالمي، رأيت فتيات لا يعرفن شكل رئيس الجمهورية، لأنهن يعتقدن أن في ذلك تقرباً إلى الله... مجاز في رصيف22
الغريب أنني بعد كل مرة بكيت فيها بتلك الدموع المزعومة لم أشعر أبداً لا بالتمييز أو بالنجاة، ولكني كنت أشعر بالاحتقار وبعدم الرضا عن نفسي، كما في حياتي خارج المسجد تماماً.
"وبتحطي إايدك تحت الطرحة بقى؟"
في الإجازة الفاصلة بين الصف الأول الثانوي والعام الذي يليه، قررت أن أذهب يومياً إلى مسجد يمتلكه أحد الشيوخ الذين يظهرون في التلفاز في أحد القنوات السلفية، لم أحب الشيخ يوماً ولم أطق سماعه. كنت أذهب إلى المسجد فقط هرباً من التواجد في المنزل.
في ذلك المسجد تعرفت على عالم بعيد كل البعد عن عالمي، رأيت فتيات لا يعرفن شكل رئيس الجمهورية، لأنهن يعتقدن أن في ذلك تقرباً إلى الله، من خلال غض البصر عن النظر إلى محارمهن من الرجال. كنت أشعر بالغربة، ولكن أكثر ما كنت أحسه وقتها هو ضعفي، ضعفي أن أوجههم برفضي لما يقولون وما يعتقدون.
ما زلت أتذكر تلك المرة الي نهتني إحداهن عن لبس الطرحة لأنها تجسّد كتفي، ثم تابعت لتلقي نكتة سخيفة عن كيفية تغطية يدي بأنني بالتأكيد لا أرتدي شيئاً يغطيها، ولكنني أكتفي بوضعها " تحت الطرحة"... ضحك الجميع، أما أنا فانسحبت وبكيت.
ما زلت أذكر كل المرات التي بكيت فيها للأنني لم أقل ما يجب قوله في العديد من المواقف، سواء مع الأصدقاء أو مع العائلة.
قضيت فترة طويلة من حياتي أخاف من المواجهة- أعتقد أن ما زال بي بعض من آثار الخوف- حتى في أمور لم أعتقد يوماً في صحتها، وعندما كان يرتبط الرفض بمعتقدات دينية كنت أخاف أكثر.
تغيرت فتغيرت مشاعري تجاه المسجد
من كل ما ذكرت يمكنني أن أقول إن مشاعري تجاه المسجد لم تكن مشاعر تجاه مكان للعبادة بقدر ما كان مكان انعكست فيه شخصيتي المتذبذبة، الخائفة، غير الواثقة، التي تبحث عن أي جماعة تنتمي إليها لتشعر بوجود حتى ولو كان وجوداً باهتاً زائفاً.
لم تكن الحياة خائفة ممكنة أكثر مما كان، أخذت قراراً بالتعافي والخروج للحياة، التعافي من إساءات الطفولة ومن الخذلان ومن فقد الأحبة، كان انعكاس في الشخصية فانعكس على كل جوانب الحياة والأماكن التي أزورها، بما فيها المساجد.
تزوجت الرجل الذي أحببته وذهبنا معاً للصلاة لأول مرة في المسجد، بعد زواجنا بحوالي شهرين، حينها كنت أشعر بالعالم بين يدي حرفياً.
كنت قد اتخذت قراراً في بداية زواجي، أو بالأحرى عندما وقعت في الحب، بأن أحاول قدر استطاعتي ألا أصطحب شيئاً من حياتي الفائتة إلى حياتي الجديدة، انعكس ذلك على ردود أفعالي داخل المسجد.
في المسجد نهتني فتاة تصغرني في السن عن لبس جوارب شفافة لأن ذلك يبطل الصلاة، لم أعلق في حينها لأنني كنت أعلم ما سيحدث في اليوم التالي.
في اليوم التالي نهرتني الفتاة" مش قلتلك امبارح متلبسيش الشراب ده؟". بابتسامة واثقة وصوت هادئ للغاية جاوبتها: "ملكيش دعوة".
على تفاهة الموقف إلا أنه عكس جزءاً ما بداخلي، أصبح يقبل ويرفض ولا ينساق وراء القطيع، شخص لم يعد يملك غضباً داخلياً باستمرار، شخص أكثر هدوءاً ومعرفة لما يريد.
مشاعري تجاه المساجد
ككل مكان دخلته مراراً وكان شاهداً على مراحل مختلفة من حياتي، لم أكرهه ولم أحبه، يثير بداخلي بعض الأوقات شجوناً وحزناً للشخص الذي كنته، ويشعرني بالفرح لما أحاول أن أصبح عليه الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...