شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كآبة تنتظرنا تحت سجّادة الصالون

كآبة تنتظرنا تحت سجّادة الصالون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 30 أبريل 202201:06 م


 أشباح الغربة

 بالتعاون مع مسعود حيون، المحرر الضيف لشهر نيسان/أبريل



لم أكن صغيرة حينما سمعت بخبر انتحار سارة حجازي. كان ذاك قبل عامين تقريباً حينما كنت أعلم أغلب ما أعلمه اليوم. نتشارك أنا وسارة العديد من الأمور، منها الهوية ومنها الشجاعة أحياناً، ومنها الكآبة ومنها الصدمات. لا أعلم كيف أعلم كل هذا، لكنّني فكرت بسارة كثيراً حينما رحلت، فكرت بها حتى اليوم، وبما مرّت به.

لا أعرفها، قد تكون كل هذه الأفكار من مخيلتي أو أفكاري. أعلم أنّنا نتشارك الكثير من الأمور، أشعر بذلك على الأقل. لكن هناك فكرة واحدة لم تغادرني، إنّها فكرة المنفى، أو كيف رحلت سارة بعيداً عن "جحيمها"، كيف أخذت حياتها في ملجأها حيث نظن أنّه المكان الذي لا يربطها بالصدمات والخيبات، مكان آمن وجميل، بعيد عن القتل والتحرش والخوف والرهاب والسجن. فكرت كم أنّه مكان بشع.

متى نرحل

سارة بالطبع أحبت مصر، فكيف كانت لترفع علم قوس قزح في مصر لو لم تحب أنّها من هذه الأرض؟

أسئلة كثيرة دارت برأسي حول سارة وحول ما دفعها للرحيل وأحاديث كثيرة درتها مع أصدقائي حول ما قد يدفعنا للاستسلام في الملجأ حيث سنتخلص من كل الكوابيس. لكن الإجابة بالسؤال. الملجأ بشع والمنفى حزين والبعد غريب ونحن نحب أن نكمل الطريق، ألّا نجبر على أن نقطع هذه الصلة، ألّا نجبر على شيء. أن نختار الذهاب وأن نقع بحب الملجأ. أن نرحل لا للجوء، بل للانتماء ربما. لا أعلم.

هل أرحل حينما أقع بحب بلدٍ ما، أم حينما أكره بلدي؟ هل أرحل لأجل العلم والوظيفة، أو لأنّني فقدت قدرتي على تغيير أي شيء هنا؟... مجاز أشباح الغربة في رصيف22

غالباً لا أعلم لماذا يختار البعض الرحيل. هل أرحل حينما أقع بحب بلدٍ ما، أم حينما أكره بلدي؟ هل أرحل لأجل العلم والوظيفة، أو لأنّني فقدت قدرتي على تغيير أي شيء هنا؟ ربما أرحل لكل هذا، وربما أرحل حينما أصل للنقطة صفر، حيث يصبح الرحيل هروباً. خُذلت سارة بالطبع، هي أجبرت على الرحيل. هذا كان أكثر ما يشبهني في قصتها.

سأنتحر حينما أجبر على الرحيل. قد تكون هذه الفكرة مخيفة. ربما لمن يقرأها، لكن ليس لي. كان من الصعب أن أتخلص من كآبتي وأفكاري الانتحارية، لكن أعلم أنّها كانت لتعود لو أجبرت على الرحيل، لو غادرت لاجئة، ولو غادرت بسبب كره الوطن لي، ليس بسبب كرهي له. هذا ما يشبهني بسارة، أكثر فكرة مخيفة.

قبل شهر غادرت لرحلة عمل قصيرة، وفجأة عاد الاكتئاب في اليوم السادس من الرحلة. كنت وحيدة، في غرفة فندق جميلة، والبؤس في كل هذا هو أنّني اكتشفت كيف أنّني أنتمي لوطني في هذه الساعة المشؤومة.

عالجت الكآبة في بيروت، كوّنت دائرة جميلة وآمنة وعشت بها رغم أنّ كل شيء حولي بشع. كانت أفكاري أبشع، لا شيء أبشع من أفكار المكتئب، فماذا سيحدث حينما يعالج أفكاره بمحيطه؟ سيلد هذا الانتماء الغريب وسيصبح الرحيل أبشع من كل شيء، من كل فكرة انتحار وكلّ أدوية الكآبة. كيف أعلم أنّني عالجت الكآبة ببيروت لا بالعمل ولا بالأصدقاء؟ أعلم لأنّها الشيء الملموس الوحيد أمامي. شيء جغرافي مرسوم له اسم وهوية وطابع. شيء ثابت لا يتغير رغم انهياراته ورغم خيباته.

خيبات مكررة

لقد مللت من الخيبات هنا ومن الكتابة عنها، سواء هي خيبات خارجية مثل انفجار كبير أو ثورة فاشلة أو انهيار اقتصادي، أو خيبات داخلية مثل قلب مكسور ووحدة غريبة.

يغادر الجميع واحداً تلو الآخر من أصدقائي ويبقى المكتئبون. إنّهم نحن الباقون، دائماً نتحدث عن الحزن وقلوبنا المكسورة، لا شيء آخر. لا طموح ولا أحلام ولا مخططات. من لديه وقت لهذا؟ نتحدث عن خوفنا وعن هموم والدتنا، عن أيّ حفلة ستلمّ جراحنا أو أي "كلوب" سينسينا ما سنفكر به بداية الأسبوع.

ستحتفل وكأنّك في آخر حفلة لك. هذا ما علمتنا إيّاه بيروت. أن نحزن لنحتفل لنحزن مجدداً ونحتفل لننسى. نحتفل لنجد الحبيبة التي كسرت قلوبنا ربما، لنغوص بهذا الانكسار، ربما نتناسى هموم والدتنا... مجاز أشباح الغربة

على فكرة، هل جربت أن تذهب إلى حفلة في بيروت؟ إنّه أجمل ما ستفعله هنا. ستحتفل وكأنّك في آخر حفلة لك. هذا ما علمتنا إيّاه بيروت. أن نحزن لنحتفل لنحزن مجدداً ونحتفل لننسى. نحتفل لنجد الحبيبة التي كسرت قلوبنا ربما، لنغوص بهذا الانكسار، ربما نتناسى هموم والدتنا. هذه إحدى ديناميكياتي.

كيف يمكن أن أرحل من هنا؟ كيف سأبني ديناميكا جديدة أقوى من كآبتي. كيف سأنسى أنّني في المنفى حيث ألجأ من الانهيار والانفجار، كيف أنسى أنّني أشبه المستسلمين، وأنّ هناك حفلة في بيروت تجري من دوني وهناك قلب مكسور يُشفى هناك بعيداً عنّي.

كيف أرحل فقط لأنّني استسلمت. قد يقلل الاستسلام من شأن الشعور العام. هو أكثر من استسلام، هو أن تكون مجبوراً وغير قادر على فعل شيء. هو أن تجبر على الاستسلام. كيف سيحدث هذا؟ كيف سيحدث وأنا أربطه بفكرة الانتحار.

لا أعلم ما الإجابة عن كل هذه الأسئلة، أعلم أنّ سارة تشبهني وهناك حفلة في نهاية الأسبوع تنتظرني، هناك كآبة سأضعها تحت سجادة الغرفة، وهناك أصدقاء في المنفى وفي الغربة يشتاقون لبيروت، هناك أصدقائي المكتئبين، ورصيف سيحملنا سوياً. هناك أفكار لا إجابة عنها، وقلب مكسور جديد علينا أن نواسيه، وهناك أنا أحاول أن أكون نفسي وسط الخراب، أن أحافظ على دائرة طردت منها كآبتي. هناك بقعة جغرافية تتغير ومشاعري لها ثابتة، مشاعر تواسيني لأنّها ثابتة. لم أقع بالحب يوماً، لكن المدينة هذه تذكرني بالحب لأنّني أحبها رغم أنّها تتغير كثيراً. قد أحبها وقد أكره الرحيل عنها، كل هذه الأفكار متشابهة.

أنهي هذا بشعور من الأنانية. لقد قصصت مخاوفي وقلقي. نسيت من لم يبنِ دائرة آمنة، من لم يحتفل، من لم يشفِ كآبته بالمدينة. نسيت أمثال سارة وأمثال من عليه أن يرحل لحياة أفضل. لم أنس، بل تناسيت، خوفاً من أن أصبح مثلهم. أفكر بهم كثيراً، أحياناً أراهم أمامي وأحياناً أشعر مثلهم. أدفن القلق وأهرب من خوف الخيبات وأبقى هنا حتى يأتي ما يقتل الشعور ويجبرني على الرحيل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image