الايدلوجيا هي مصطلح يجسد كل المشكلات المرتبطة بتعقيد اللغة، لها تاريخ طويل اتخذت فيه معاني متنوعة وأحياناً متناقضة، المصطلح يستخدم عادة للاشارة إلى منظومة متماسكة بشدة من الأفكار السياسية، لها رؤية للعالم، حيث يتم سحب هذا الغرض السياسي على جميع مناحي الحياة، وبهذا المعنى الايدلوجيا لها دلالة احتقارية تستخدم الكلمة بمثابة السبة، ولكن تبعًا لكارل مانهايم عالم الاجتماع الألماني قد يكون للأيديولوجيا معنى آخر، فيه تقدم رؤى شاملة مميزة لمجموعات اجتماعية معينة، عندما يكون الهدف منها هو توضيح السمات وتركيب البناء الكلي لعقلية عصر أو جماعة من البشر.
وهناك طرق مختلفة للتعبير عن الأيدلوجيات المختلفة، أهمها الإعلام بصوره المتعددة، والوسائط الفنية، مثل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وفي رمضان 2022 عُرض عمل محمل برائحة الإيديولوجيا بشدة، عملًا يحمل فكره الخاص، يحارب كاتبه من خلاله إيدلوجيا مناقضة له، وهو فاتن أمل حربي.
الفن والإيديولوجيا وإبراهيم عيسى
الفن وعاء يحمل أيديولوجيا صاحبه، خاصة لو كان صاحب أفكار واضحة تمامًا مثل كاتب "فاتن أمل حربي" إبراهيم عيسى، الذي وصل إلى السيناريو بعد مسيرة صحفية طويلة، ومحطات مثل الرواية والإعلام المتلفز، بالنسبة له السيناريوهات ما هي إلا مقالات يتم كتابتها على هيئة حوار ومناظرة بين شخصيات تحمل صوته وشخصيات تحمل أصوات خصومه.
نجح إبراهيم عيسى، كاتب "فاتن أمل حربي"، في تعبئة أفكاره في عمل مصور، ولكن فشل مثل كل مرة في جعله عمل فني صالح للمشاهدة
أيدلوجيا إبراهيم عيسى -التي يعتبرها تنويرية- خصمها التقليدي التدين المنغلق، الذي لا يحمل روح الدين، بل أحكام حادة مطلقة، فينطلق هو مدافعًا عن فهمه الخاص الدين، ظهر ذلك في أعماله السابقة مثل "الضيف" الذي فيه البطل مفكر مصري، يواجه عدوه، وهو شاب متطرف دينيًا يحاول إجباره على الظهور في فيديو يتراجع فيه عن أفكاره، بينما في فيلم "صاحب المقام" يركز على فكرة التدين الشعبي المصري، الذي يعلي التبرك بالأضرحة، ضد الفكر المتشدد الذي يعتبر هذه الأضرحة ضلالة تؤدي إلى النار.
أما عند أحدث أعماله فاتن أمل حربي فهو عن فاتن المرأة في منتصف العمر التي تُطلق في الحلقة الأولى من زوجها، لكن تكتشف أن تلك ليست نهاية المطاف في هذه العلاقة السامة، بل بداية معارك لا تنتهي بينها وبينه في ساحة المحاكم، حيث يستغل مع محاميه كل ثغرات قانون الأحوال الشخصية للضغط عليها والتنكيل بها، أملًا في أن يدفعها ذلك للعودة له مرة أخرى.
في جلستها القضائية الأولى أمام محكمة الأسرة، وأمام القاضي تنهار فاتن لأول مرة، صارخة في وجه الجميع بأن هذا القانون ظالم، مقررة رفع قضية على قانون الأحوال الشخصية نفسه.
إلى هنا تكون الخصومة بين فاتن التي تمثل صوت الكاتب إبراهيم عيسى وبين القانون المصري، لكن الكاتب قرر أن يوجه الدفة قصرًا إلى خصمه المعتاد، فبدأت البطلة بالتردد على دار الإفتاء وإلقاء أسئلة عن جانب محدد، وهو حق المرأة في حضانة أطفالها بعد الزواج مرة أخرى.
وبالتالي تحول الصراع في المسلسل من ذلك بين فاتن والقانون، الذي يرهق المطلقات بمتاعب وإجراءات قبل أن يضمن لهن وأبنائهن الحد الأدنى من المعيشة الإنسانية، إلى تفسير أحكام الدين الإسلامي فيما يخص حالات الطلاق، بتعدد لقاءات البطلة مع أحد الشيوخ الشباب الذي يمثل كذلك لسان لأفكار المؤلف المتفتحة اتجاه إعادة قراءة القرآن والسنة، والتي تتعارض مع زملائه في دار الإفتاء والشائع لدى الكثيرين.
مطاردة خيط دخان
تجاهل المسلسل حل سهل للغاية مثل طلب الكثير من الحقوقيات والنسويات قوانين أحوال شخصية مدنية لا ترجع إلى الشريعة من الأساس، ولكن ورجوعًا إلى المقدمة فإن إبراهيم عيسى قادم إلى عالم التلفزيون حاملًا معه أيديولوجيا محددة مسبقًا، هذا لا يعيبه، لكن الأزمة تركزت في لي عنق الشخصيات وأحداث المسلسل حتى تتلاءم مع هذه الإيديولوجيا.
واحدة من أزمات الكتابة لدى إبراهيم عيسى هي وضعه شخصياته في أنماط مبسطة مختزلة
أيضًا هناك سؤال يطرح نفسه بشدة خلال مشاهدة فاتن أمل حربي، لماذا ثارت البطلة بسبب قانون حضانة الأطفال فقط بعد الزواج من آخر، على الرغم من وجود الكثير من التفاصيل المجحفة للغاية في حقها، والتي ظهرت خلال الأحداث، مثل نفقة الأطفال أو مصاريف المدرسة.
الإجابة هي أن تلك النقطة التي يمكن عبرها إحداث صدام -محددة تفاصيله سلفًا- بين البطلة وتفسيرات الأحكام الإسلامية، لأن ذلك هو الميدان الذي اختاره الكاتب لنفسه، حتى لو كان ذلك يجانب منطق الشخصيات والعمل نفسه.
فالبطلة لا ترغب في الزواج ثانية، ومن الطبيعي أن يحتل تفكيرها احتياجات الحياة الضرورية، مثل المسكن والمأكل والمشرب، بدلًا من الاتجاه لدار الإفتاء لقضاء وقتها بحثًا عن إجابات لأسئلة غير مهمة في هذه المرحلة من حياتها.
نمط الزوج الشرير
واحدة من أزمات الكتابة لدى إبراهيم عيسى هي وضعه شخصياته في أنماط مبسطة مختزلة، كما في أعماله السابقة، ففي صاحب المقام لدينا البطل رجل الأعمال الشاب الذي يجري وراء المال مهملًا زوجته وابنه، ويفتتح الفيلم على مشهد له وهو يقفز في حوض السباحة ليمارس تمارينه الرياضية متجاهلًا رغبات عائلته في قضاء وقت معه، أو حضور الحفل المدرسي لطفله الوحيد، هذه ليست شخصية من لحم ودم، تتميز كما يفترض من الشخصيات الدرامية بتدرجات اللون الرمادي، لها عيوبها ومزاياها، هذا نمط أقرب ما يكون إلى الصورة الكاريكاتورية.
هناك سؤال يطرح نفسه بشدة خلال مشاهدة فاتن أمل حربي، لماذا ثارت البطلة بسبب قانون حضانة الأطفال فقط بعد الزواج من آخر، على الرغم من وجود الكثير من التفاصيل المجحفة للغاية في حقها، والتي ظهرت خلال الأحداث، مثل نفقة الأطفال أو مصاريف المدرسة
تكرر الأمر في فاتن أم حربي، وأيضًا في شخصية الأب والزوج السابق "سيف"، فعبر الفلاش باك في بداية كل حلقة نرجع إلى جزء من ماضي فاتن وسيف، والذي يظهر من خلاله طبيعة هذا الزوج الذي جمع كل كليشيهات الأزواج المعنفين لزوجاتهم المهملين لعائلاتهم، فهو بخيل، يضرب زوجته، له علاقات نسائية خارج الزواج، خانع أمام شخصية والدته، يصاحب اصدقاء السوء.
شخصية سيف لم تحمل أي طبيعة تجعلها ثرية من الناحية الدرامية، فهي اللون الأسود فقط، هي صورة مختزلة من الرجال الأشرار، الأمر الذي تكرر في العديد من شخصيات المسلسل الأخرى التي وقفت عند كونها أنماط جاهزة دون أي تطوير يفيد الحبكة أو المسلسل، فهناك الأم الشريرة المحرضة، الصديقة الداعمة، القاضي الصارم، الشيخ السمح والآخر المتعنت، صور ثابتة لا تحمل أي ديناميكية قابلة للتطوير، جعلت العمل على الرغم من مرور ثلثيه حتى الآن ليس سوى تكرار لذات البناء والأفكار بشكل يومي.
الفن بالفعل وعاء للأيديولوجيا، بل يجزم بعض الفلاسفة والمنظرين أن كل فن هو حامل لأيدلوجية صنّاعه حتى لو حاولوا عدم القيام بذلك، لكن ما يبقى في النهاية هو هل هو فن جيد؟ هل تم استخدام الوسيط الفني بشكل صحيح ليصل إلى المتلقي "فيلم/ مسلسل" حامل لأفكار محددة، لكن في ذات الوقت ممتع ومسلي؟ لو وضعنا مسلسل فاتن أمل حربي في هذا الميزان لن يكسب بالتأكيد، إبراهيم عيسى نجح مرة أخرى في تعبئة أفكاره في عمل مصور، ولكن فشل مثل كل مرة في جعله عمل فني صالح للمشاهدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون