شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يا شيخ... أنا لست ضعيف الإيمان، لكن أنت المخطئ

يا شيخ... أنا لست ضعيف الإيمان، لكن أنت المخطئ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 29 أبريل 202207:33 ص


صار بعيداً، هذا الوقت الذي كنت أنتقي فيه أبعد مسجد لأداء صلاة التهجد في أواخر رمضان، حسب ما تعلّمت. ففي كل خطوة نحو بيت الله حسنة أحصدها. أما في المسجد، فكان الشيخ يبدأ صلاته بعد منتصف الليل، ولا يُنهيها إلا قبل الفجر بوقت كافٍ فقط للسحور الذي أتناوله إما في البيت أو في الشارع أحياناً.

ذهبت إلى الشيخ في أحد الأيام أبحث عنده عن سبب "جمود" قلبي إلى هذا الحد، فنصحني بأن أستمع أكثر إلى خطب تتحدث عن العذاب والجحيم، لأن ذلك يرقق القلوب، وهوّن عليّ الحديث بوصفه إياي بأني "ضعيف الإيمان".

لم يكن يهمني طول الوقت، وتورّم قدميّ أحياناً. ما شغلني لمدة عامين آنذاك، هو عدم بكائي في أثناء الصلاة، خاصةً في "ليلة القدر" التي كان يدّخر لها الشيخ آيات، قليلها يتحدث عن الجنة وكثيرها يروي عن النار والعذاب الذي ينتظر الكافرين. وما أن يبدأ في تلاوتها، حتى يبكي في وقت كان البكاء فيه شرطاً أساسياً لجودة القارئ ودليلاً على خشوعه. تصدّر قائمة البكّائين حينها، قرّاء مثل صلاح الجمل ومحمد جبريل، وكان يقصدهما ملايين فقط لإسالة الدموع.

بالطبع لهذا سبب، حفظت فتىً، الحديث المنسوب إلى النبي، ونصّه: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". السبب الأول هو ما يدفع المصلين في مثل تلك الأوقات إلى البكاء، لأن ذلك يعني "وفق مفهومهم"، أنهم يخشون الله. وبالرغم من أني لا أعلم سبب هذا الربط، لكن مشكلتي كانت أنني لم أبكِ بالرغم من سماعي نشيج كل من حولي. حاولت أكثر من مرة تقليدهم وفشلت، لذا لجأت إلى اصطناع البكاء، لكني سئمت من تلك المسرحية، فذهبت إلى الشيخ في أحد الأيام أبحث عنده عن سبب "جمود" قلبي إلى هذا الحد، فنصحني بأن أستمع أكثر إلى خطب تتحدث عن العذاب والجحيم، لأن ذلك يرقق القلوب، وهوّن عليّ الحديث بوصفه إياي بأني "ضعيف الإيمان".

حفظت فتىً، الحديث المنسوب إلى النبي، ونصّه: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". السبب الأول هو ما يدفع المصلين في مثل تلك الأوقات إلى البكاء، لأن ذلك يعني "وفق مفهومهم"، أنهم يخشون الله. وبالرغم من أني لا أعلم سبب هذا الربط، لكن مشكلتي كانت أنني لم أبكِ

ظللت لسنوات مقتنعاً برأي الشيخ؛ لا يمكن أن يكون العيب في كل البكّائين. لكن كل هذا تبدد في أحد الأيام، حين وجدتني من دون صلاة تهجد أو "ليلة قدر"، أبكي وحدي، والسبب آية في سورة النساء تقول: "لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظُلم"، وبالرغم من أني قرأتها مراراً إلا أني لم أتوقف عندها إلا في هذا اليوم، ربما لأني وقتها اهتممت أكثر بالفهم لا بالترديد. أما لماذا بكيت، فلأنني ببساطة استشعرت مدى رحمة الله ومعرفته بالنفس البشرية إلى الدرجة التي دفعته لإباحة الجهر بالسوء مثل "الشتيمة" وغيرها، طالما أن الإنسان يشعر بالظلم. تخيّلت لو كنت مظلوماً ولم يبِح الله لي هذا، بالتأكيد كان الأمر سيصبح أصعب بكثير.

لكن لم تكن تلك سوى بداية، لأني بكيت حين قرأت قول الله: "فعفونا عن ذلك"، قاصداً من اتخذوا العجل ربّاً لهم، وبكيت مرةً أخرى حين فكرت في مصير امرأة العزيز التي وقعت في حب نبي الله يوسف وراودته عن نفسه وسجنته، وكيف لم يذكر الله أن لها عقاباً. ربما قدّر مشاعرها وعرف ماذا يفعل الحب حين يسيطر على القلوب فرحم ضعفها الإنساني.

لماذا يحصرنا الشيوخ بين الثواب والعقاب؟ أليست هناك وسيلة أخرى للخشية من الله؟

إذاً أنا أبكي، هكذا قلت لنفسي، لكني أبكي حين أفكر في معنى الآية لا حين أسمعها من شيخ يعلو نشيجه، وأبكي بسبب آيات تدور كلها حول حب الله لعباده ومعرفته بضعف النفس البشرية وإلزامية ارتكابها الأخطاء، ولذلك كتب على نفسه الرحمة قبل العذاب. حين اكتشفت في نفسي ذلك، تساءلت: من الذي ربط بين الخشية والدموع؟ ومن ربط الدموع بآيات العذاب والنار؟ فالمفهوم أوسع من ذلك بكثير.

في رأيي، يعود ذلك إلى الحالة الدرامية التي يقدّمها الشيوخ وقرّاء القرآن، فهم حين يتحدثون عن النار يصرخون ويبكون ويفزعون الناس من مصير مُظلم، ويجيدون فعل ذلك بنبرات الصوت وتعبيرات الوجه، وينقلبون تماماً حين يتحدثون عن الجنة أو ما يُعرف بـ"التغريب"، فأصواتهم تكسوها النبرة الرقيقة والابتسامات التي تعلو وجوههم، وبسبب هذا الأداء التمثيلي، باتت لدى الكثيرين قناعة بأن الخشية تعني البكاء وما دون ذلك يعني أن هناك خللاً ما في إيماننا.

إذاً أنا أبكي، هكذا قلت لنفسي، لكني أبكي حين أفكر في معنى الآية لا حين أسمعها من شيخ يعلو نشيجه، وأبكي بسبب آيات تدور كلها حول حب الله لعباده ومعرفته بضعف النفس البشرية وإلزامية ارتكابها الأخطاء، ولذلك كتب على نفسه الرحمة قبل العذاب

وبالرغم من أني لست ضد هذه التصرفات، فللإنسان الحق في التعبير عن خشيته بالشكل الذي يريد، لكني ضد أن تتمّ من خلالها التصنيف أو تُعد مقياساً للحكم على إيمان البشر ومدى قوته وضعفه، كما فعل الشيخ معي حين كنت صغيراً. والأهم، لماذا يحصرنا الشيوخ بين الثواب والعقاب؟ أليست هناك وسيلة أخرى للخشية من الله؟ لماذا لم يتلُ آيات الحب في أي مرة صليت فيها وراءه، تلك التي تشير إلى أن ما نسمعه ليل نهار من أناس يحرّمون علينا حياتنا لا يمتوّن إلى الإسلام بصلة، ولا إلى أي دين، وأن من خلق هذا الكون أرحم بكثير مما يحاولون تصويره ليتحكّموا في أقدارنا؟

والآن أقول للشيخ الذي لا أعرف أين أراضيه: إنك مخطئ، وقد عشت سنوات بسبب رأيك الخطأ أسأل نفسي عن سبب ضعف إيماني، قبل أن أتوصل إلى نتيجة أني لست ضعيف الإيمان. هذا رأيك فقط، وإن من يبكون بسبب آيات العذاب أو النعيم غير مخطئين أيضاً، وكل ما هنالك أنني أحببت الله لذاته، ولإحساسي بعظمته التي نص عليها في القرآن، كأنه يقول لا تكترث بأي شيء، أنا أفهمك، وأعرف أن لك أخطاءً، وأتجاوز عنها، وذلك ما يبكيني يا شيخ. فهل تُعدّ ذلك ضعفاً في الإيمان أيضاً؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image