اتّخذ موقعي في المسجد في أثناء صلاة الجمعة، وكلّي آذان مصغية لسماع الخطبة. وما أن يعتلي الإمام المنبر، ويبدأ بالخطابة، حتى أعضّ أصابع الندم، وأتلوّى كمن لدغته أفعى للتوّ، فالرجل الذي جاء يعلّمنا أمور ديننا، يجهل أبسط قواعد اللغة.
في المرة الأولى، التمست للشيخ عذراً، وقلت إنه ربما ارتجل الخطبة، ولم يعدّ للأمر عدّته، ولكن بعد ذلك أدركت الحقيقة المرة، فثمة قطيعة كاملة بين إمام مسجدنا وبين اللغة العربية، التي يُفترض ألا يُسمح له باعتلاء المنبر، إلا بعد التأكّد من إجادته التامّة لها.
كلّ أسبوعٍ، يقترف الشيخ، مع سبق الإصرار والترصّد، جريمةً على مسمعٍ ومرأى من الجميع، بانتهاك حرمات اللغة، فهو لا يتورّع أبداً عن نصب الفاعل، ورفع المفعول به. يقترف ذلك الإثم، وهو يرفع من نبرة صوته حيناً، ويخفضها في أحيانٍ أخرى.
تخرج الكلمات من فم الشيخ، فنحار في تمييز حقيقتها؛ فمخارج ألفاظه تنضح بالقبح والتشوّه، وعبر مكبّرات الصوت تتداخل حروف غريبة، أبعد ما تكون عن العربية التي نعرفها، محدثةً ضوضاء تصيب الرأس بدوارٍ يتمنّى معه المرء لو ينتهي الخطيب من مهمته سريعاً، قبل أن نفقد القدرة على السماع.
لا يعبأ الشيخ بالطنين الذى ينهش آذاننا، نحن المصلّين، فيواصل مهمته وهو يشيح بيده ذات اليمين وذات اليسار، ويدوي صوته مزلزلاً وهو ينكر علينا تقصيرنا في حق اللغة التي أُنزل بها القرآن الكريم، وإقبالنا على تعلّم اللغات الأجنبية.
كلّ أسبوعٍ، يقترف الشيخ، مع سبق الإصرار والترصّد، جريمةً على مسمعٍ ومرأى من الجميع، بانتهاك حرمات اللغة، فهو لا يتورّع أبداً عن نصب الفاعل، ورفع المفعول به. يقترف ذلك الإثم، وهو يرفع من نبرة صوته حيناً، ويخفضها في أحيانٍ أخرى
يصول ويجول
الشيخ الذي يجهل ألف باء قواعد النحو، يصول ويجول من فوق المنبر، لكي يحذّرنا من عدم الاهتمام بلغةٍ لا يحسن التحدّث بها. عبث ما بعده عبث، فمن يتحدث وعن ماذا؟ ومن يقول، وماذا؟ وهل إلى هذا الحدّ هانت علينا لغة الضاد، فسمحنا لمن ليس له أدنى علمٍ بها، بأن يحدّث الناس عنها؟
أحسب أننا لو تركنا المجال في المقابل، لولدٍ في الصف الرابع الابتدائي، فإن الوضع سيكون أفضل حالاً من التيه الذي نرزح فيه الآن، على يد هذا الشيخ، إذ لن يتطلّب منه الأمر سوى أن يحفظ الخطبة قبل أن يعيد تلاوتها على أسماعنا بلغةٍ عربيةٍ بسيطةٍ، تضمن للحرف وقاره، وجماله، وهو يلقيها على الأسماع.
ما يثير الحيرة هو كيف يُسمح لشيخٍ بصعود المنبر، ولم يتم التثبّت من درايته بأبسط مبادئ اللغة العربية التي يُفترض أنه يعتمد عليها بشكلٍ كاملٍ في وعظ الناس.
في كلّ مرة أدعو الله من كلّ قلبي، أن يلجأ الخطيب إلى تسكين الحروف، وعدم تشكيلها، حتى تخفّ نسبياً حدّة الفاجعة، ولكنه لا يفعل، وتدفعه ثقته المفرطة بنفسه، والتي أحار في فهم مبرراتها، إلى أن يهدم كلّ قواعد النحو ومخارج الألفاظ، وهو قرير العين، مرتاح الضمير، وكأنّه يؤدي فرضاً مقدّساً.
ألتفت حولي، فأجد الناس بين نائمٍ ومتظاهرٍ بالخشوع والإنصات، وكأننا أمام خطبة جمعة كما يجب أن تكون، وفي يقيني أعلم أن هذا ليس سوى نوع من التمثيل الذي نلجأ إليه كعرب، عندما نحاول أن نهرب من حقيقة لا تروق لنا. فالشيخ على المنبر، يتقمّص دور الخطيب المفوّه واسع العلم، غزير الاطّلاع، المتفقّه في علوم الدنيا، والمتبحّر في علوم الدين، ونحن كمصلّين نرتدي ثياب الأتقياء الذين ينفعلون بالموعظة، ويتباكون عندما يذكّرهم الشيخ الورع بأمور الدين.
أظن أن حالة خطيب الجمعة في مسجدنا، ليست فريدةً من نوعها، وما يثير الحيرة هو كيف يُسمح لشيخٍ بصعود المنبر، ولم يتم التثبّت من درايته بأبسط مبادئ اللغة العربية التي يُفترض أنه يعتمد عليها بشكلٍ كاملٍ في وعظ الناس.
لمن المنبر اليوم؟
ليس خطيب الجمعة الذي أتحدّث عنه هاوياً، أو شابّاً حديث التخرّج، كما يمكن أن يظنّ البعض، ولكنه إمام معيّن من قبل وزارة الأوقاف، أمضى سنواتٍ طويلةً في مراحل التعليم الأزهري المختلفة، ويُفترض أنه خضع بعدها لمسابقةٍ لقياس مهارات اللغة، والقدرة على التواصل، قبل أن يُسمَح له باعتلاء المنبر.
في كلّ مرة أدعو الله من كلّ قلبي، أن يلجأ الخطيب إلى تسكين الحروف، وعدم تشكيلها، حتى تخفّ نسبياً حدّة الفاجعة، ولكنه لا يفعل، وتدفعه ثقته المفرطة بنفسه، والتي أحار في فهم مبرراتها، إلى أن يهدم كلّ قواعد النحو ومخارج الألفاظ، وهو قرير العين، مرتاح الضمير، وكأنّه يؤدي فرضاً مقدّساً
حدّثتني نفسي الأمّارة بالسوء يوماً، بأن أفاتح الشيخ في الأمر، وأن أهديه كتاباً، أو أكثر، يختصّ بقواعد اللغة العربية، ولكنّي خشيت عاقبة إغضابه، وقبلت بنصيحة صديقٍ همس في أذني قائلاً: "الخطيب يرى أن هذا هو مسجده، ما دام يوقّع على دفاتر الحضور، والانصراف. ومسؤولو الأوقاف وحدهم من يختصّون بتوجيه أيّ ملاحظةٍ له. أما بالنسبة إلينا، نحن معشر المصلّين، فالأمر جدّ بسيط: من لا يروق له هذا الخطيب، فليبحث عن غيره، في مسجدٍ آخر".
بالنسبة إليّ، في ظلّ الأعباء الحياتية التي لا ترحم، يبقى المسجد الأقرب مفضّلاً في صلاة الجمعة، وأقصى الأمنيات أن نصادف يوماً خطيباً يرفع الفاعل، وينصب المفعول به، ويُحسن مخارج الألفاظ، لكننا كعربٍ تربينا على أننا لا نجد أبداً كلّ ما نتمنى.
لكن أحداً لم يصادر الأحلام حتى الساعة، حسب ما أعلم، فهل يمكن أن نستيقظ، ولو بعد حينٍ من الدهر، فنجد من خطا خطوةً إلى الأمام، لدرء المفسدة، عبر حصر ضعاف اللغة من بين خطباء المساجد، تمهيداً لإلحاقهم بمجموعةٍ من الدورات، لإعادة تأهيلهم، أو نقلهم إلى وظائف أخرى، وترك الخطابة لمن يجيدها؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...