شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
فيلم

فيلم "أوروبا" ... ما أكثر من ابتلعهم البحر والغابات فيما كانوا يحلمون بمصير أفضل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 27 أبريل 202203:01 م

يأتي هذا المقال ضمن تغطية رصيف22 لمهرجان الفيلم العربي- برلين (الفيلم) بدورته الثالثة عشر، والتي تُقام ما بين 20 إلى 26 من نيسان/ أبريل 2022.

يروي فيلم "أوروبا" لمخرجه حيدر رشيد رحلة اللجوء المضنية التي يمضي فيها اللاجئون الذين اختاروا طريق البر، إذ تتنوع طرق اللجوء وتختلف صعوباتها. نرافق البطل العراقي الذي لا نعرف اسمه في رحلة قاسية، تنطلق في مشهد يقطع الأنفاس عند الحدود التركية البلغارية، ونسير معه في الغابات في محاولته اليائسة للنجاة والوصول إلى بر الأمان. 

يختار المخرج لفيلمه خياراً شديد التعقيد، إذ ينطلق البطل في رحلته وحيداً دون رفيق، فيتحول الفيلم إلى فيلم شبه صامت لولا المؤثرات الصوتية المشغولة باحتراف. يقدم الممثل آدم علي أداء تمثيلياً مشحوناً ولكنه يثقل على المشاهد بعد بعض الوقت لأن الظرف المختار ضاغط وقاهر بلا توقف. يبدو لنا البطل منذ بداية الرحلة مرهقاً جائعاً، ولعل أداءه كان يمكن أن يختلف لو اختار المخرج أن تتدهور حالة البطل تدريجياً خلال الرحلة، رغم أن تعبه مبرر بسبب الليلة الأولى القاسية التي أمضاها هرباً من شرطة الحدود.

نرافق البطل العراقي في رحلة قاسية، تنطلق في مشهد يقطع الأنفاس عند الحدود التركية البلغارية، ونسير معه في الغابات في محاولته اليائسة للنجاة والوصول إلى بر الأمان

يظهر في الفيلم رجال مسلحون يلاحقون اللاجئين ويطلقون عليهم الرصاص مباشرة، ولم نكن لنفهم من هؤلاء لولا بيان كتابي يفتتح الفيلم ويشرح لنا أن عصابات التهريب تتعاون مع حرس الحدود الذين يشكلون مجموعات "صيد اللاجئين". ويتشكل صراع الفيلم الأساسي من محاولة البطل الدائمة للهرب منهم، فيما يحاول التغلب على الجوع والعطش. ويخطر لي أننا كنا، نحن المشاهدون، سنتأثر أكثر بموت اللاجئين الملاحقين لو أن البطل كان معهم في مجموعة، ولو أننا تعرفنا إلى قصة أي منهم.

يصادف البطل أحد اللاجئين الذين قضوا في الطريق، وبسبب عجزه عن دفنه يجر الجثة إلى مكان محمي ويضع أمام الصخرة التي تؤوي اللاجئ أغصاناً لحماية الجثة، إلا أن المسلحين يكتشفون المكان. وعند محاولة أحدهم سحب الجثة، يهجم البطل عليه ويشتبك معه في صراع عنيف، يظن البطل في نهايته أنه قتل المسلح.

تظهر في النصف الثاني من الفيلم شخصيتان، الأولى امرأة يستنجد بها البطل، ويبدو لنا في البداية أنها تتعاطف معه إلا أنها لاحقاً وبعد أن تسمع كلاماً لم يترجم في الراديو، تنظر إلى البطل بقلق وشك وتسرع بالسيارة مما يدفعه للهرب، والثانية هي الرجل الذي يقتحم اللاجئ بيته. 

يظهر في الفيلم رجال مسلحون يلاحقون اللاجئين ويطلقون الرصاص، ويتبين لنا أنهم أفراد عصابات التهريب التي تتعاون مع حرس الحدود الذين يشكلون مجموعات "صيد اللاجئين".

يخسر البطل كل أغراضه منذ المشاهد الأولى، ولا يبقى من ممتلكاته سوى جواز السفر، الذي نشاهد محاولاته للحفاظ عليه طوال الرحلة. يبدو الجواز للاجئ وسيلته الوحيدة للوجود، والإثبات الوحيد على من يكون، لذا يحاول الحفاظ عليه بشتى الوسائل، ويبدو محزناً أنه بمجرد الحصول على حق اللجوء لاحقاً تصبح تلك الوثيقة بلا قيمة. وخلال الفيلم، يقضي البطل وقته في الحفاظ على وثيقته التي تهترئ فيما تتفتت روحه في رحلته المتعبة.

سمعت الكثير من القصص من أصدقاء ومعارف قطعوا الطريق الطويل والمضني، وكان المشترك بينها كلها هو تقرحات الأقدام. وبالرغم من أن المكياج في الفيلم متقن للغاية فإن المشهد الذي يغسل فيه البطل قدميه يبدو غريباً بسبب سلامتهما تماماً من آثار السير الطويل ولا سيما في ظل أننا نرى في مشهد سابق كيف يتمزق حذاؤه منذ بداية الرحلة. بينما تبدو بقية تفاصيل الفيلم منسجمة تماماً مع الروايات التي سمعناها من الذين قطعوا هذه الطريق الصعبة والتي غالباً ما توصف بأنها أكثر الخيارات المتاحة استحالة.  

يحاول البطل الصمود في وجه الجوع بتناول ما تقع عليه يده في الغابة، فنراه يأكل ما يجده، وفي أحد المشاهد، يعثر على شجرة توت، ويخرج من جيبه منديلاً، طرزت عليه عبارة: "حظاً سعيداً" ويضع بداخله ثلاث حبات من التوت ويعيده إلى جيبه. لا يبدو مقنعاً أن يضع البطل حبات التوت في جيبه داخل منديل، إذ من المنطقي أنها ستُهرس وتخرب المنديل، إلا أن الفكرة على ما يبدو هي استخدام المنديل لكي نتذكر أن من خلّفهم البطل وراءه يتمنون له السلامة. 

ينقضي زمن الفيلم ونحن نتأمل مع البطل رحلته الصامتة، وندخل إلى عالمه الداخلي فقط حينما يغني مرتين أغنية عن الأم، ولعل نوع الفيلم وخياره كانا يسمحان باستخدام تقنية السرد لنعرف أكثر ما يدور في خلد هذا الشاب، ولكنني أتفهم الخيار الفني للمخرج، فالتحدي مغر للغاية، إذ يمكننا أن ننسج في خيالنا هذا العالم الداخلي حسبما نتمنى، كما بإمكاننا في النهاية أن ننسج نهاية البطل كما نرغب. 

يذكرنا الفيلم أنه لا يوجد إنسان عاقل يمكن أن يختار اجتياز هذه الرحلة الخطيرة لولا تقطع كل سبل الحياة، ولولا الوصول إلى مرحلة من اليأس تتساوى فيها خيارات الموت

يبدو المخرج معنياً في فيلمه بالحقائق المرتبطة بموضوع الفيلم، فيعزز فيلمه ببيان مكتوب في البداية وبشهادة أحد اللاجئين في النهاية وحتى بمشهد وثائقي مصور على الحدود ضمن شارة النهاية، وقد بدت لي هذه البيانات والمعلومات غير ضرورية، إذ نعلم أن الرواية التي يرويها الفيلم حقيقية، يكفي أن نصدق البطل كي يصبح كل ما يمر به حقيقة ملموسة دون الحاجة لتأكيد صدقيتها، أما ضرورة شرح من هم هؤلاء المسلحون الذين يلاحقون اللاجئين فكان يكفي أن يضاف حوار للمهرب الذي يجمع منهم النقود في الافتتاح يحذرهم فيه من خطر هؤلاء الذي يتصيدون بهم. 

ختاماً، تبدو رواية قصص اللاجئين خاصة للمجتمعات المضيفة ضرورة ملحة اليوم، في ظل مزاج عام وسردية يطلقها اليمين المتطرف عبر أوروبا توحي بأن هؤلاء اللاجئين يختارون الخيارات اللاقانونية في ظل توفر سفارات تمنح حق العبور القانوني في دولهم، وتتجاهل هذه الرواية تماماً أن اللاجئين يحاولون مراراً الحصول على فيزا قبل تعريض حياتهم للخطر.

 كذلك يذكرنا الفيلم أنه لا يوجد إنسان عاقل يمكن أن يختار اجتياز هذه الرحلة الخطيرة لولا تقطع كل سبل الحياة، ولولا الوصول إلى مرحلة من اليأس تتساوى فيها خيارات الموت. ولولا ذلك لما حاول اللاجئ إعطاء نفسه فرصة أخيرة للنجاة، وما أكثر أولئك الذين ابتلعهم البحر والغابات فيما كانوا يحلمون بمصير أفضل لهم ولأولادهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image