يأتي هذا المقال ضمن تغطية رصيف22 لمهرجان الفيلم العربي- برلين (الفيلم) بدورته الثالثة عشر، والتي تُقام ما بين 20 إلى 26 من نيسان/ أبريل 2022.
تزوجت في مطلع عشرينياتي وانتقلت إلى منطقة الزاهرة في جنوب دمشق، وكانت تمتاز بقربها من مخيم اليرموك، حيث كنت أقضي كل حوائجي. قبل العرس، كنا بحاجة لتجهيز البيت الجديد. ذهبنا إلى أسواق المخيم لاختيار الأرضيات الجديدة ومواد الطلاء وخلاطات المغاسل وسواها. بعد الزواج، كنت كلما شعرتُ بالملل، أذهب للتجول في شوارع المخيم، لأراقب الناس وحيواتهم التي تغلي في زواياه، وكلما احتجت ملابس جديدة، ذهبت إلى محال المخيم التي كانت تحتوي على كل أشكال الموضة وأنواع الأقمشة والألوان، وكلما اشتهيت طعاماً ذهبت إلى المخيم حيث الطعام الجاهز يوضع على صوانٍ أمام المحال ويعرض ليجذب المشترين، أو أذهب إلى سوق الخضار الممتد الذي يمتلئ بالمواد الطازجة ورائحة الأعشاب العطرية.
نرافق الفئتين الأكثر هشاشة في مخيم اليرموك أثناء الحصار في مشاهد تمزق القلب لأطفال يقطفون حشائش الأرض ويأكلونها، ولعجائز بقوا وحيدين في المخيم جائعين محتاجين.
لذلك كانت مشاهدة فيلم "فلسطين الصغرى: يوميات الحصار"، قاسية للغاية عليّ، كانت الصورة التي أشاهدها غير قابلة للتصديق، المحال كلها مغلقة والناس تجر أقدامها في الشوارع حزينة جائعة، ولا يتوفر في بسطات المخيم التي كنت أعرفها سوى أوراق الصبارة.
"كانت مشاهدة فيلم فلسطين الصغرى: يوميات الحصار، قاسية للغاية عليّ، كانت الصورة التي أشاهدها غير قابلة للتصديق، المحال كلها مغلقة والناس تجر أقدامها في الشوارع حزينة جائعة، ولا يتوفر في بسطات المخيم التي كنت أعرفها سوى أوراق الصبارة"على مدار الفيلم، نلاحظ تدهور وضع السكان وتراجع أحوالهم الصحية إلى الدرجات القصوى، تصل في حالتين إلى الموت جوعاً، ونرافق المخرج أيضاً في جنازات الموجوعين حتى الموت، مما يدفع الأهالي إلى محاولات فك الحصار اليائسة التي تنتهي دوماً بإطلاق النار مباشرة على المطالبين إن اقتربوا من الحاجز حتى على وفد الهلال الأحمر الذي يحاول إدخال المساعدات أو بتركهم يتظاهرون ويهتفون ويطالبون داخل أرضهم المحاصرة.
تظل القضية الفلسطينية حاضرة في الفيلم، فكل هؤلاء كان يفترض أن وجودهم في المخيم (مؤقت)، والدليل أن اسمه ما يزال مخيم اليرموك رغم خلوه من الخيام. تقول طفلة للمخرج أن للحصار حلان، إما فتح الطريق أو نقل اللاجئين بالطائرات إلى فلسطين، كما نشاهد في الفيلم عجوزاً تقول للمخرج إنها غاضبة جداً من كل من خرج من المخيم، وفي ذلك مرجعية حتمية للندم على الخروج من فلسطين، كما ينتهي الفيلم برجل يغني لفلسطين فيما يغص بالدموع.
استطاع النظام السوري محاصرة المخيم وتجويعه، ولكنه لم يستطع كسر جوهر أهل المخيم، وهو التكافل والعيش المشترك.يلتقط الفيلم بشكل لافت عنصراً ظل حياً في المخيم منذ عرفته وهو تضامن أهل المخيم وعيشهم بشكل جماعي، بما فيه عيشهم خلال الحصار. تتوقف أم محمود أمام كل طفل صغير يمر في طريقها لتناوله بالوناً من حقيبتها. يجتمع شباب المخيم وعجائزه في عرس ويحتفلون معاً في ظل الجوع والحصار، كما نرى قِدراً كبيرة يطبخ فيها رجل الماء مع البهارات ويوزع الطبخة على الجميع. استطاع النظام السوري محاصرة المخيم وتجويعه، ولكنه لم يستطع كسر جوهر أهل المخيم، وهو التكافل والعيش المشترك.
يتجمع أهل المخيم في الفيلم للتظاهر والمطالبة بدخول الأدوية والمساعدات ويهتفون بعد كل قصف هتافهم الشهير: واحد واحد واحد، فلسطيني وسوري واحد. ويتحد المصير حقاً خلال الفيلم وقبله وبعده، فلم يوفر النظام السوري وسائل القهر والقتل التي استخدمها ضد السوريين وشغل آلة العنف في تدمير المخيم كما فعل في بقية المناطق السورية التي تجرأت على المشاركة في الثورة.
شكّل المخيم عبر تاريخه حالة استثنائية في سوريا الأسد، إذ كان المكان الوحيد الذي ترفع فيه صور زعيم غير حافظ الأسد. كانت صور ياسر عرفات وأعلام فلسطين تملأ شوارع المخيم، وكان أهل المخيم يتظاهرون نصرة لفلسطين فيما كان التظاهر في كل سوريا محرماً. وأذكر الأمل والاطمئنان اللذين شعرت بهما القوى الثورية السورية بمجرد انضمام المخيم إلى الثورة. فقد كان رمزاً للقوة التي لا تقهر، ورغم صور الدمار، ورغم أن الطائرات هدمت المخيم، ورغم الجوع، فإن النبل والقدرة على الصمود ظلا موجودين على مر الفيلم.
يجمع المخرج الأطفال في باحة المدرسة ويسألهم عن أحلامهم. يحلمون بالخبز والشاورما والدجاج والسكر، إلا أن طفلاً بعينين كبيرتين يقول: "أحلم أن يعود أخي للحياة. فقد اشتقت له كثيراً"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي