شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"فلسطين الصغرى: يوميات الحصار"... فيلم قاسي لكنه "صفعة" لمن نسيَ أهل المخيّم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 24 أبريل 202208:19 ص

يأتي هذا المقال ضمن تغطية رصيف22 لمهرجان الفيلم العربي- برلين (الفيلم) بدورته الثالثة عشر، والتي تُقام ما بين 20 إلى 26 من نيسان/ أبريل 2022.

تزوجت في مطلع عشرينياتي وانتقلت إلى منطقة الزاهرة في جنوب دمشق، وكانت تمتاز بقربها من مخيم اليرموك، حيث كنت أقضي كل حوائجي. قبل العرس، كنا بحاجة لتجهيز البيت الجديد. ذهبنا إلى أسواق المخيم لاختيار الأرضيات الجديدة ومواد الطلاء وخلاطات المغاسل وسواها. بعد الزواج، كنت كلما شعرتُ بالملل، أذهب للتجول في شوارع المخيم، لأراقب الناس وحيواتهم التي تغلي في زواياه، وكلما احتجت ملابس جديدة، ذهبت إلى محال المخيم التي كانت تحتوي على كل أشكال الموضة وأنواع الأقمشة والألوان، وكلما اشتهيت طعاماً ذهبت إلى المخيم حيث الطعام الجاهز يوضع على صوانٍ أمام المحال ويعرض ليجذب المشترين، أو أذهب إلى سوق الخضار الممتد الذي يمتلئ بالمواد الطازجة ورائحة الأعشاب العطرية.

نرافق الفئتين الأكثر هشاشة في مخيم اليرموك أثناء الحصار في مشاهد تمزق القلب لأطفال يقطفون حشائش الأرض ويأكلونها، ولعجائز بقوا وحيدين في المخيم جائعين محتاجين.

لذلك كانت مشاهدة فيلم "فلسطين الصغرى: يوميات الحصار"،  قاسية للغاية عليّ، كانت الصورة التي أشاهدها غير قابلة للتصديق، المحال كلها مغلقة والناس تجر أقدامها في الشوارع حزينة جائعة، ولا يتوفر في بسطات المخيم التي كنت أعرفها سوى أوراق الصبارة. 

يقدّم فيلم "فلسطين الصغرى"، لمخرجه عبد الله الخطيب حكاية أيام الحصار في مخيم اليرموك التي عاشها مع والدته أم محمود التي تعمل ممرضة متطوعة، ويتخلل تلك اليوميات سرد لنصوص أدبية كتبها المخرج نفسه خلال الحصار عن الوضع الذي يعيشونه، وفي الوقت نفسه يقدم من خلالها تأملات عن الحصار والموت.
في حكاية الفيلم الرئيسية، نرافق المخرج في أيام الحصار، ونكتشف معه آثار الجوع الذي يعيشه المخيم، وبسبب اهتمام المخرج بأطفال المخيم، نرافق الأطفال في رحلة الجوع الرهيبة ومحاولة الحفاظ على شكل من أشكال المدرسة، وفي نفس الوقت، بسبب اهتمام أم محمود بعجائز المخيم، نرافق الفئتين الأكثر هشاشة في المخيم أثناء الحصار في مشاهد تمزق القلب لأطفال يقطفون حشائش الأرض ويأكلونها، ولعجائز بقوا وحيدين في المخيم جائعين محتاجين.
"كانت مشاهدة فيلم فلسطين الصغرى: يوميات الحصار،  قاسية للغاية عليّ، كانت الصورة التي أشاهدها غير قابلة للتصديق، المحال كلها مغلقة والناس تجر أقدامها في الشوارع حزينة جائعة، ولا يتوفر في بسطات المخيم التي كنت أعرفها سوى أوراق الصبارة"
على مدار الفيلم، نلاحظ تدهور وضع السكان وتراجع أحوالهم الصحية إلى الدرجات القصوى، تصل في حالتين إلى الموت جوعاً، ونرافق المخرج أيضاً في جنازات الموجوعين حتى الموت، مما يدفع الأهالي إلى محاولات فك الحصار اليائسة التي تنتهي دوماً بإطلاق النار مباشرة على المطالبين إن اقتربوا من الحاجز حتى على وفد الهلال الأحمر الذي يحاول إدخال المساعدات أو بتركهم يتظاهرون ويهتفون ويطالبون داخل أرضهم المحاصرة. 
تظل القضية الفلسطينية حاضرة في الفيلم، فكل هؤلاء كان يفترض أن وجودهم في المخيم (مؤقت)، والدليل أن اسمه ما يزال مخيم اليرموك رغم خلوه من الخيام. تقول طفلة للمخرج أن للحصار حلان، إما فتح الطريق أو نقل اللاجئين بالطائرات إلى فلسطين، كما نشاهد في الفيلم عجوزاً تقول للمخرج إنها غاضبة جداً من كل من خرج من المخيم، وفي ذلك مرجعية حتمية للندم على الخروج من فلسطين، كما ينتهي الفيلم برجل يغني لفلسطين فيما يغص بالدموع. 
استطاع النظام السوري محاصرة المخيم وتجويعه، ولكنه لم يستطع كسر جوهر أهل المخيم، وهو التكافل والعيش المشترك.
يلتقط الفيلم بشكل لافت عنصراً ظل حياً في المخيم منذ عرفته وهو تضامن أهل المخيم وعيشهم بشكل جماعي، بما فيه عيشهم خلال الحصار. تتوقف أم محمود أمام كل طفل صغير يمر في طريقها لتناوله بالوناً من حقيبتها. يجتمع شباب المخيم وعجائزه في عرس ويحتفلون معاً في ظل الجوع والحصار، كما نرى قِدراً كبيرة يطبخ فيها رجل الماء مع البهارات ويوزع الطبخة على الجميع. استطاع النظام السوري محاصرة المخيم وتجويعه، ولكنه لم يستطع كسر جوهر أهل المخيم، وهو التكافل والعيش المشترك. 
يتجمع أهل المخيم في الفيلم للتظاهر والمطالبة بدخول الأدوية والمساعدات ويهتفون بعد كل قصف هتافهم الشهير: واحد واحد واحد، فلسطيني وسوري واحد. ويتحد المصير حقاً خلال الفيلم وقبله وبعده، فلم يوفر النظام السوري وسائل القهر والقتل التي استخدمها ضد السوريين وشغل آلة العنف في تدمير المخيم كما فعل في بقية المناطق السورية التي تجرأت على المشاركة في الثورة.  
شكّل المخيم عبر تاريخه حالة استثنائية في سوريا الأسد، إذ كان المكان الوحيد الذي ترفع فيه صور زعيم غير حافظ الأسد. كانت صور ياسر عرفات وأعلام فلسطين تملأ شوارع المخيم، وكان أهل المخيم يتظاهرون نصرة لفلسطين فيما كان التظاهر في كل سوريا محرماً. وأذكر الأمل والاطمئنان اللذين شعرت بهما القوى الثورية السورية بمجرد انضمام المخيم إلى الثورة. فقد كان رمزاً للقوة التي لا تقهر، ورغم صور الدمار، ورغم أن الطائرات هدمت المخيم، ورغم الجوع،  فإن النبل والقدرة على الصمود ظلا موجودين على مر الفيلم. 
يجمع المخرج الأطفال في باحة المدرسة ويسألهم عن أحلامهم. يحلمون بالخبز والشاورما والدجاج والسكر، إلا أن طفلاً بعينين كبيرتين يقول: "أحلم أن يعود أخي للحياة. فقد اشتقت له كثيراً"
يجمع المخرج الأطفال في باحة المدرسة ويسألهم عن أحلامهم. يحلمون بالخبز والشاورما والدجاج والسكر، إلا أن طفلاً بعينين كبيرتين يقول: "أحلم أن يعود أخي للحياة. فقد اشتقت له كثيراً". 
يروي الفيلم حكاية هؤلاء الأطفال الذين كبروا في الحصار، وبعضهم لم يعرف سوى الحرب طوال حياته. تروي الطفلة الصغيرة التي تقطف الأعشاب لأمها التي تنتظرها في المنزل. أن أخاها الصغير تعلم قطف الأعشاب وأكلها وهو لم يتجاوز عامه الأول، فيما يجلس طفل آخر في أنقاض منزل ليلتقط حبات العدس التي تختبئ بين الركام. ولا يمكن للمرء حين يشاهد كل ذلك إلا أن يتمنى لهؤلاء الأطفال حياة أخرى مختلفة، في مكان آخر، حيث لا يمكن أن يجوعوا دون أن يعرفوا السبب.
الفيلم وثيقة مهمة عن تجربة شديدة القسوة، ولعل المخرج أراد له أن يكون بهذه القسوة كي يكون صفعة لكل من نسي هؤلاء المتروكين بلا دولة، بلا جنسية، بلا جوازات سفر. ولكن ما زالوا يحتفظون بكثير من الحب وبضحكات وبأحلام كبيرة بغد زاهر. 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image