في البداية لاحظت حنان أن ابنها يعاني تراجعاً في الحركة، شقاوته الصاخبة التي لا تنقطع هدأت فجأة، والابتسامة غادرته بعدما زحف على جسمه الوهن. إذّاك دفعها قلقها على زيارة الأطباء لفهم ما ألم بالصغير "سعيد"، وقد أضحت سعادتها وسعادة أسرتها على المحك.
"قضينا سبعة أشهر نزور الأطباء بغية تشخيص مرضه. شخصه الأطباء في البداية بالحمى الروماتيزمية، وبدأنا خطة العلاج والمتابعة، لكن الأمور لم تتحسن، على العكس زادت صعوبة الحركة وتكرار السقوط، لم يعد حتى قادراً على صعود السلم. عدنا للبحث عن تشخيص وعلاج افضل لأفاجأ بالحقيقة المرة". علمت حنان أن سعيداً البالغ من العمر عشر سنوات يعاني مرض ضمور العضلات "دوشين". تقول: "تلقيت صدمة عمري، خاصة أنه لا يوجد تاريخ وراثي للمرض في عائلتنا".
الطفل سعيد واحد من عشرات الآلاف ممن ابتلوا بهذا المرض الذي ترتفع نسب الإصابة به في مصر ضمن حزمة من الأمراض الوراثية التي تنجم عادة عن زواج الأقارب، وإن كان يظهر في غير هذه الحالات. وعلى الرغم من إطلاق مبادرة رئاسية في يونيو/ حزيران 2021 لعلاج مرضى ضمور العضلات، لا يزال المبتلون بهذا المرض ينتظرون تفعيل المبادرة لإنقاذهم منه.
بعد عدة أشهر من صدور القرار الرئاسي، لا يزال مئات المصابين بالمرض ينتظرون أن يأتي دورهم في الحصول على العلاج كي يستأنفوا أو يبدأوا حياة حرموا منها
أين المبادرة؟
في مطلع مارس/ آذار 2021، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في مصر حملة لجمع التبرعات من أجل شراء علاج قادر على تحييد الطفرة الجينية التي سببت مرض ضمور العضلات لطفل دون العامين.
في البدء طالبت الحملة وزارة التضامن الاجتماعي السماح لأسرة الطفل بجمع التبرعات، إذ تحظر القوانين جمع التبرعات إلا بإذن خاص من السلطات أو من خلال الجمعيات الأهلية المشهرة وفقاً للقانون المختص. وتطوعت جمعيات أهلية لمساعدة الأسرة في جمع التبرعات، إلا أن قراراً رئاسياً صدر على الهواء في أحد برامج التوك شو فاجأ الأسرة، إذ قرر الرئيس عبدالفتاح السيسي تبني حالة الطفل.
لاحقاً أصدر الرئيس قراراً آخر خلاصته أن تتحمل الدولة علاج المصابين بمرض ضمور العضلات أياً كانت فئاتهم العمرية، على أن تتولى وزارة الصحة الإجراءات الطبية ويتم العلاج من خلال التبرعات التي يتلقاها صندوق "تحيا مصر".
إلا أنه بعد عدة أشهر من صدور القرار الرئاسي، لا يزال مئات المصابين بالمرض ينتظرون أن يأتي دورهم في الحصول على العلاج كي يستأنفوا أو يبدأوا حياة حرموا منها.
"الدوشين" القاتل
يروي علي أحمد 55 عاماً ابن محافظة الفيوم بصعيد مصر تفاصيل معاناته لرصيف22: "لم أكن أعلم أن أبنائي الثلاثة سيعانون معاناة أخوالهم يوماً ما ويموت الأكبر بسببها، بينما يعيش شقيقاه معاناة مستمرة، فلا يستطيعان السير أو صعود السلم، حتى بات الأوسط جليس كرسي متحرك، يأتي ذلك في وقت يحتاجان إلى نفقات باهظة، وأنا عامل بمصنع سيراميك".
ويتابع: "شاء الله أن يختطف المرض حياة الابن الأكبر، أحمد، وهو في الثالثة والعشرين من العمر بعد أن فتك الضمور بعضلات جهازه التنفسي، أما الأوسط يوسف، فلم يعد يتحمل تنمر زملائه فترك التعليم، والصغير محمد التلميذ في الصف الثالث الابتدائي، ترك الدراسة بعد أن أعياه الوهن".
يتذكر الحاج علي أول صدمة تلقاها حينما علم أن ابنه الأكبر مصاب بضمور العضلات "عندما بلغ ابني الأكبر رحمه الله ست سنوات، فوجئت به يعاني أشد المعاناة عند صعود السلم، لذا اصطحبته إلى أحد المستشفيات الحكومية الكبرى، وهناك طمأنني الطبيب أن ابني لا يعاني أي مرض، وأنه مجرد تعب، فلم نعرف أنه يتعين علينا التحرك سريعاً لطلب العلاج مبكراً".
بعد "مشوار طويل" بين الأطباء، علمت الأسرة حقيقة الأمر، وكانت أعراض المرض قد بدأت في الظهور على جسد الطفل التالي: "أنا عايش ميت، الحسرة تملكت من قلبي وعقلي مات سندي الكبير ومنتظر وفاة أشقائه في أي لحظة أنا. وزوجتي بنموت وإحنا شايفين ولادنا بيتعذبوا والمرض يأكل جسدهم".
رغم توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن تتولي وزارة الصحة علاج المرضى بالتعاون مع المجتمع المدني وصندوق تحيا مصر، فوجئ مصابون برفض هيئة التأمين الصحي التابعة للوزارة صرف العلاج
حكم قضائي
استطاعت أسرة الطفلة ليلى عمرو، البالغة من العمر ست سنوات، أن تحصل على حكم قضائي يلزم وزارة الصحة بتوفير عقار "سبينرازا" المخصص لعلاج مرضى الضمور الشوكي لمن هم أكبر من عامين.
ورغم صدور الحكم في عام 2020ىبإلغاء القرار السلبي بامتناع الجهة الإدارية المدعى عليها (هيئة التأمين الصحي) من صرف العقار مدى الحياة، فإن الهيئة لم تصرف العقار بعد رغم عرض الحالات المصابة على اللجنة العليا المعنية بمتابعة حالات الضمور في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وصدور قرار بصرف العلاج.
وأقام والد الطفلة الدعوى القضائية أمام الدائرة التاسعة بمحكمة القضاء الإداري بمحافظة القاهرة ضد رئاسة الوزراء ووزارة الصحة وهيئة التأمين الصحي، ليصدر الحكم الملزم بتوفير العلاج للمرضى. ورغم المبادرة الرئاسية القاضية بعلاج المصابين بالمرض عبر وزارة الصحة وبتمويل من صندوق تحيا مصر، لم يصرف العلاج بعد للمصابين، رغم أن العلاجات الموجهة لمن تخطوا سن العامين مطروحة في الأسواق العالمية منذ عام 2016، ودخلت مصر عام 2021 تزامناً مع المبادرة الرئاسية، إلا أن المصابين لم يحصلوا عليها.
تقول آية زويد والدة ليلى لرصيف22: "ظهرت أعراض المرض على ابنتي بعد عام ونصف من الولادة، وتدهورت حتى باتت غير قادرة على المشي أو الوقوف مطلقاً". ويمكن علاج كل أنواع ضمور النخاع الشوكي بعقار سبينرازا، من خلال حقن المريض بـأربع جرعات في النخاع الشوكي خلال شهرين، ثم يحصل على جرعة كل أربعة أشهر. ويساعد هذا الدواء على منع تفاقم المرض، وعلى التقليل من ضعف العضلات وإعادة بنائها ووقف تدهور الحالة. ويبلغ سعر الجرعة الواحدة 118 ألف دولار.
10 ماتوا خلال أسبوع
يقول أحمد عجاج منسق حملة مرضى ضمور العضلات - حملة غير رسمية- لرصيف22 إن المرضى نظموا أربع وقفات أمام مجلس الوزراء للمطالبة بحقهم في العلاج، آخرها في 21 ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وخلالها، تلقى المحتجون وعوداً بالاستجابة لمطالبهم "ولكن ظلت مجرد وعود".
ويصيف: "تواصلنا مع نواب عدة لعرض مطالبنا المتمثلة في توفير العلاج الجيني لمصابي دوشين، وتوفير عيادات للكشف المبكر وتلقي العلاج في المحافظات، وتقديم خدمة العلاج المائي بمختلف المحافظات، وتوفير الفحوص والتحاليل الجينية ضمن المبادرة الرئاسية وتوفير الأدوية الجينية الحديثة".
يطالب مرضى الضمور بتوفير مراكز رعاية بالمحافظات، على أن تشمل تخصصات أمراض القلب والصدر والمخ والأعصاب والعلاج الطبيعي والتغذية العلاجية، إضافة إلى إنشاء مستشفى متخصص لأمراض العضلات والأعصاب وتبني مبادرة جادة للقضاء عليها
وعلى الرغم من الإعلان في أغسطس/ آب 2021 عن مبادرة رئاسية للكشف المبكر عن أمراض ضمور العضلات في المحافظات المختلفة، فإن هذه المبادرة الرئاسية لم تفعّل إلى الآن بحسب شهادات المرضى. ويضطر المصابون إلى القدوم إلى القاهرة لتلقي العلاج الذي لا يتوفر إلا في مركز الأمراض الوراثية التابع لمستشفى الدمرداش جامعة عين شمس.
ويطالب مرضى الضمور بتوفير مراكز رعاية بالمحافظات، على أن تشمل تخصصات أمراض القلب والصدر والمخ والأعصاب والعلاج الطبيعي والتغذية العلاجية، إضافة إلى إنشاء مستشفى متخصص لأمراض العضلات والأعصاب وتبني مبادرة جادة للقضاء عليها.
وبحسب عجاج، شهدت الأشهر الماضية وفاة عدد من مرضى الضمور نتيجة مضاعفات المرض، وعلى رأسها فشل الجهاز التنفسي، "حتى وصل عدد من فقدوا حياتهم خلال أسبوع واحد إلى عشرة".
حالات الوفيات المتعددة والمتقاربة دفعت مرضى الضمور إلى تنظيم وقفة جديدة في 13 فبراير/ شباط الماضي، لتذكير الحكومة بوعودها والضغط من أجل إنشاء مراكز في المحافظات لرعاية المرضى، ودراسة إنشاء مستشفى متخصصة لعلاج الضمور، وصرف العلاج لمرضى الدوشين وضمهم إلى الحملة الرئاسية.
وفي 30 يونيو/ حزيران 2021 أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي سعي الدولة لعلاج مرضى ضمور العضلات رغم التكلفة الباهظة التي تصل لـ 2.1 مليون دولار للطفل الواحد، كاشفاً عن تحمل الدولة تكاليف العلاج بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والتبرعات لصالح صندوق تحيا مصر، مشيراً إلى أن هناك اختبار وفحص ما بعد الولادة للكشف عن الأمراض الوراثية.
ويعالج عقار zolgensma المصابين بضمور العضلات الشوكي من النوع الأول وهو علاج جيني أنتجته شركة نوفارتيس بسويسرا، ويعد أغلى علاج في العالم لدى إنتاجه عام 2019 قدّر ثمنه بـ2.1 مليون فرنك، ويعالج به الأطفال دون سن العامين، وهو عبارة عن تغذية وريدية لمرة واحدة يستغرق حقن الطفل بها ساعة. أما بديل هذا العلاج فهو Spinraza الذي يتعين على المريض تناوله أربع مرات على مدار السنة مدى الحياة ويبلغ سعر الدواء في السنة الأولى 750 ألف دولار ثم 350 ألفاً في السنة الثانية أي حوالى أربعة ملايين دولار في العقد الواحد.
بدورها، طالبت شريفة مطاوع رئيس جمعية مرضى ضمور العضلات بمحافظة السويس بضم مرضى ضمور العضلات الدوشين للمبادرة الرئاسية والبدء في علاج حالات الضمور الشوكي لمن هم أكبر من عامين.
وتعد جمعية ضمور العضلات أول جمعية غير حكومية دشنت لمساعدة المصابين بالضمور وتوفير مساعدات ووجبات غذائية وكراسٍ متحركة.
وتواصل رصيف22 مع الدكتور حسام عبد الغفار المتحدث باسم وزارة الصحة للتعرف على تفاصيل عن الخاضعين للعلاج ضمن المبادرة الرئاسية من مرضى ضمور العضلات فكان رده "ليس لدي معلومات حول هذا الملف ولست المعني به".
طلب برلماني
في سياق متصل، تقدمت الدكتورة هناء سرور عضو مجلس النواب بطلب إحاطة لوزير الصحة، تبنت خلاله مطالب مرضى الضمور. وقالت لرصيف22: "طالبت بأن تشمل المبادرة الرئاسية مرضى ضمور العضلات، الدوشين، وأن تتحمل الدولة تكلفة الفحوص اللازمة، من الكشف الجيني ورسم العضلات والأعصاب والعلاج أسوة بمرضى الضمور الشوكي".
كما طالبت سرور بإقامة مستشفى نوعي متخصص لرعاية مرضى ضمور العضلات والأعصاب لرعايتهم ، على أن يشمل تخصصات القلب والصدر والعظام والأمراض الوراثية والتغذية العلاجية والعلاج الطبيعي والمائي.
وأكدت سرور عزمها تقديم طلب إحاطة جديد خلال الأيام المقبلة لوزير الصحة بشأن إنشاء المستشفى، والتأكيد على صرف الأدوية اللازمة وإجراء التحاليل الجينية لمرضى ضمور العضلات، مع متابعة الأمر مع مدير التأمين الصحي، مختتمة حديثها قائلة: "ما أرصده على أرض الواقع سأكتبه في طلب الإحاطة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...