"الأكل غالي جداً، وأحياناً باستبدل في المنتجات"، "كيس المعكرونة 400 غرام بـ60 جنيه (ما يقارب 4 دولارات)"، "وزارة الصحة بتصرف لبن ودقيق، بس دايماً ناقصين من مراكز الصحة"، "من حقنا يتوفر لنا جزء مجاني من منتجات الأغذية الخاصة بولادنا".
هكذا تحدث آباء وأمهات لرصيف22 عن معاناتهم مع إصابة أبنائهم بمرض الـ PKU، وهو مرض وراثي يصيب الأطفال، ويسبب عدداً من المشاكل الصحية، أبرزها ضمور المخ وتأخر النمو، وتعاني العائلات من ارتفاع أسعار الأطعمة المخصصة لهم، مع عدم توفير بدائل أخرى.
تعيش ل. م. (لا تعمل) من محافظة الجيزة، مأساة مع طفلها ذي السنة وعشرة أشهر منذ تشخيصه بمرض البي كي يو، قائلة: "لقد شُخّص مرض ابني منذ ولادته، بعد سحب عينة كعب القدم في الوحدة الصحية بعد ثلاثة أيام من ولادته، ومنذ ذلك الوقت حُولت أوراقه إلى مستشفى الدمرداش لصرف اللبن الخاص بمرضى البي كي يو”.
وتشكو من أن اللبن غير متوفر بصورة دائمة في مراكز الصحة المختلفة، بجانب عدم توفير أي أنواع أخرى من الأطعمة الخاصة بهؤلاء الأطفال، باستثناء اللبن، وتم توفير الدقيق منذ فترة وجيزة.
وطالبت وزارة الصحة بضرورة توفير أطعمة متنوعة، كالجبن والأرز والمعكرونة، والخبز، بجانب اللبن والدقيق، لأن المنتجات الخارجية غالية الثمن، وتحمّل الأهالي أعباءً مادية إضافية لما كانوا يعانونه مع أطفالهم.
"الأطفال يرفضون تناول الأكل المقدم في المستشفيات لأنه سيىء، مما يضطرني إلى شراء منتجات خاصة بطعام طفلتي على حسابي الشخصي، الأمر الذي يسبب للأسرة عبئاً مادياً كبيراً، ولكن ليس باليد حيلة"
وتضيف أنّها توفر لابنها كل ما تستطيع من أطعمة مخصصة لحالته، عن طريق شرائها من خارج منظومة وزارة الصحة، ولكنها غالية الثمن، فكيس المعكرونة 400 غرام يصل سعره إلى 60 جنيهاً (ما يقارب 4 دولارات)، وطبق بسكويت يزن 250 غراماً يصل سعره إلى 25 جنيهاً (أقل من دولارين)، وطبق العيش الفينو من أربعة أرغفة بـ 15 جنيهاً (ما يقارب الدولار)، مؤكدة أنها تستبدل بعض المنتجات شهرياً حتى تستطيع تنويع الطعام لطفلها، فيمكن أن تلغي المعكرونة في أحد الشهور، لتزيد من الفينو والبيتزا.
"عذاب فوق الوصف"
يعاني محمد صلاح (43 سنة)، منتج فني في مكتب دعاية وإعلان، ينحدر من محافظة الأقصر ومقيم بالقاهرة، مع طفليه (الأول 9 سنوات، والثاني 6 سنوات) منذ ست سنوات حين اكتشف إصابتهما بمرض البي كي يو. ويشكو من تأخر وصول اللبن في بعض الأوقات نظراً لاستيراده من الخارج، وهو يتابع حالة طفليه بمستشفى الدمرداش بالقاهرة، حيث يتم صرف اللبن والطعام المخصص لهما.
"الآباء والأمهات يعانون عذاباً لتوفير متطلبات الأبناء من الطعام، فيضطرون أحياناً إلى تقليل الوجبة حتى يكفي اللبن والطعام إلى حين توفير عبوات جديدة من الجمعيات، التي تنتج مواد غذائية خالية من البروتين كالمعكرونة والخبز"، يقول محمد لرصيف22.
ولم تكن معاناة محمد مع طفليه في توفير الطعام المخصص لهما فقط، فقبل تشخيصهما بمرض البي كي يو، كانا يتابعان العلاج مع طبيب مختص في المخ والأعصاب، نظراً لتشابه الأعراض مع مرض التوحد.
ويعلّق طبيب الأطفال بمستشفى الأطفال التخصصي في بنها، محمد حاتم لرصيف22: "يتم تشخيص المرض في مصر عن طريق مجموعة من التحاليل الروتينية لحديثي الولادة، وعند تشخيص أحد الأطفال بالمرض، تبدأ رحلة علاجه".
ويوضح حاتم أنّ مرض PKU وراثي من أمراض التمثيل الغذائي، يصيب الأطفال نتيجة حمل الأب والأم جين المرض بصورة ضعيفة، إلا أنه يتحد ويظهر في الأبناء، وينتج بسبب غياب حمض الفينيل ألانين هيدروكسيلاز، الذي يحول الفينيل ألانين إلى ميلانين، مما يؤدي إلى زيادة نسبة حمض الفينيل ألانين في الجسم.
ويضيف: "أكبر مشكلة يمكن أن تصيب الأطفال ضمور المخ، وتأخر النمو، وعدد من الأعراض الأخرى كتغير لون الجلد، ولون الشعر، وأحياناً يصاب الأطفال ببعض التشنجات"، ويؤكد أن هناك بعض الحالات تشفى من المرض، ولكن لا يعرف سبب الشفاء إلى الآن".
ويشير حاتم إلى عدم وجود علاج فعلي للمرض، ولكن يتم منع الأطفال من الأطعمة الغنية بحمض الفينيل ألانين، منها: البروتينات بجميع أنواعها، اللحوم، اللبن، البيض، الأسماك، البقوليات والمكسرات.
ويلفت إلى أن هناك علاجات لمرض الـ PKU ولكنها غير موجودة في مصر، بالإضافة إلى كونها نادرة حول العالم وباهظة الثمن، ويضيف أن إعطاء المريض أدوية تقلل إنتاج الفينيل ألانين في الجسم، مما يسمح له بتناول الأطعمة الممنوعة.
وتختلف معه في الرأي، منى الجمال، الرئيسة السابقة لشعبة الوراثة البشرية وأبحاث الجينوم بالمركز القومي للبحوث عن إمكانية الشفاء من مرض البي كي يو، تقول: "لا يوجد علاج فعلي، لا يمكن للمريض أن يوقف الألبان الخاصة أو أن يأكل من الطعام الذي يحتوي على البروتين أو القمح لارتفاع حمض الفنيل ألانين بها؛ فيجب الالتزام بالنظام الغذائي الخاص والخالي من البروتين مع أخذ بديل البروتين، وهو الألبان الخاصة تحت إشراف طبي".
وتضيف: "لا يوجد علاج جيني حتى الآن، ولكن هناك أبحاثاً علمية على إمكانية العلاج الجيني عامة، ولكنها لم تأخذ الموافقة بعد لتجربتها على البشر لأنها يجب أن تجرى على الأجنة، الأمر الذي ترفضه أخلاقيات البحث العلمي، بجانب تكلفته العالية".
وتؤكد منى أن من أساسيات البحث العلمي أن يخدم الأغلبية وليس فئة قليلة، يمكن علاجها بطرق أخرى متاحة للجميع.
"من أهم أسباب ظهور مرض "بي كي يو" هو زواج الأقارب، الذي عادة ما يكون الآباء والجدود أيضاً أقارب، وزيادة الإنجاب تعزز احتمالات الإصابة به"
وتشير منى إلى ضرورة المتابعة الطبية خاصة في أول سنتين لأهميتها في تكوين مخ الطفل، حتى لا يصاب بتأخر ذهني، أو بسوء تغذية من نقص البروتينات، موضحة أن "قدرات الأطفال والأشخاص المصابين بـ PKU في تحمل ارتفاع نسب الفينيل ألانين في الجسم مختلفة، فهناك أطفال مع ارتفاع بسيط يصابون بفرط حركة وتشتت، على عكس بعض الأطفال الذين يتحمّلون نسباً أعلى".
وتجزم منى لرصيف22 أن وزارة الصحة تقوم بالمسح الشامل للمواليد للكشف عن بعض الأمراض الوراثية ومنها PKU منذ ثلاث سنوات تقريباً، ومن تظهر تحاليله إيجابية يحوَّل إلى قسم المتابعة، وتُصرف له الألبان الخاصة، موضحة أن الألبان يتم استيرادها من الخارج، مما يحمل الوزارة تكاليف باهظة، ولكن مجدية.
وأضافت أنه من أهم أسباب ظهور مرض PKU هو زواج الأقارب؛ عادة ما يكون الآباء والجدود أقارب، وزيادة الإنجاب تعزز كذلك من احتمالات الإصابة به.
الأكل والمرض
تعيش مي عادل (لا تعمل) من محافظة الفيوم أزمة إصابة ابنتها الأولى حياة (6 سنوات) بمرض البي كي يو منذ أربع سنوات، حيث تقوم بعمل تحاليل شهرية لمعرفة نسب البروتين في الدم، في المعامل المركزية التابعة لوزارة الصحة بالفيوم، مشيرة إلى عدم توافر أي منتجات خاصة بالأطفال المرضى باستثناء اللبن والدقيق، اللذين لا يكفيان ابنتها طوال الشهر.
وتقول لرصيف22: "الأطفال يرفضون تناول الأكل المقدم في المستشفيات لأنه سيىء، مما يضطرني إلى شراء منتجات خاصة بطعام طفلتي على حسابي الشخصي، الأمر الذي يسبب للأسرة عبئاً مادياً كبيراً، ولكن ليس باليد حيلة، وأحاول توفير جميع متطلباتها".
وتضيف أن أسعار المنتجات الخاصة بمرضى البي كي يو غالية الثمن جداً، فأقل عبوة سعرها 45 جنيهاً (ما يقارب دولارين ونصف)، وتزن تقريباً 400 غرام، مطالبة بضرورة توفير هذه المنتجات لأسر المرضى لأن هناك بعض الأسر لا تستطيع توفير هذه المنتجات لأطفالها، مما يزيد وضعهم المرضي سوءًا.
بين الحين والآخر تظهر جمعيات خيرية تطلق مبادرات لدعم من يعانون من المرض.
بين الحين والآخر تظهر جمعيات خيرية تطلق مبادرات لدعم من يعانون من المرض، وأبرزها مبادرة "أطفال التمثيل الغذائي" لجمعية أصدقاء المرضى بمحافظة قنا.
تقول سلمى القاضي منسقة المبادرة: "الجمعية أسست أول مخبز لمنتجات أطفال البي كي يو على مستوى الصعيد"، موضحة أن مركز الإرشاد الوراثي بقنا سجل 250 حالة إصابة و100 حالة متابعة، وهي حالات لا يمكن الجزم بأنها سلبية أو إيجابية، لذلك يتم التحليل لها بصورة دورية مستمرة.
وتضيف لرصيف22 إن عدد الحالات المسجلة على مستوى مصر منذ بدء المسح الشامل للمواليد عام 2015، عن طريق أخذ عينة دم من الكعب، يصل إلى 1200 حالة، منها 250 في قنا، مشيرة إلى وجود عدد من الحالات المصابة قبل بدء الفحص الشامل ولا يعلم عنها أحد.
وتتابع القاضي: "للكشف عن الحالات غير المسجلة نتبع الأطفال المصابين عن طريق سؤال الأهل، إذا ما وجد أطفال آخرون في العائلة يعانون من تأخر عقلي أو إفراط في الحركة، أو أي أعراض أخرى، الأمر الذي قادنا إلى اكتشاف حالة شخص عمره 21 سنة".
وتختم أن الأطفال الذين تكتشف إصابتهم في وقت متأخر لا يمكن علاج الأجزاء المصابة في مخوخهم، ولكن تصرف لهم الألبان والأطعمة الخاصة حتى لا تتدهور حالتهم الصحية، موضحة أن المرض ليس له علاج سوى الألبان الخاصة والحمية الغذائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...