يعترف الكاتب الألماني شتيفان فايدنر، أن رحلته إلى المغرب، تحديداً إلى مدينة فاس، لم تكن مجرّد رحلة عادية، حدثتْ له في حياته، إنما كانتْ رحلة الكشف والانطلاق بحقّ، بل ومسباره إلى العالم كلّه، المادي والروحي. ولعلّ ما يقصده هنا، في رحلته هذه، هو العالم الروحي الصرف، والذي يتعرف من خلاله الإنسان على أسرار الوجود، يحاول سبر أغوارها؛ مثلما فعل الكثير من الشرقيين والغربيين الذين لم يألوا جهداّ في سبيل ذلك.
وعلى الرغم من أننا قرأنا، واطلعنا على ذلك العالم الصرف، والحياة الروحية لأغلب المذاهب والتيارات الدينية، إلا أننا قلما نجد من يحاول أن يكون هواه وميله إلى الطرفين معاً، ويحاول أن يضعهما في بوتقة واحدة، ويجمعهما في قلبه، ليذوب الشرق والغرب، وينتهي الخط الفاصل بينهما، فيمتزجان في كلّ واحد، ويصبحان هوى عاماً، وهوساً، وعشقاً خالصاً، حيث تتماهى الإنسانية بكافة مذاهبها وتياراتها في مكان واحد، هو قلب الصوفي العاشق للدنيا والوجدود بأكملها.
في كتابه "فاس، الطواف سبعاً"، الصادر حديثاً عن دار السويدي ومنشورات المتوسط (2019، ترجمة عن الألمانية: كاميران حوج)، والذي جاء على شكل يوميّات ويندرج تحت بند "أدب الرحلة"، يتناول شتيفان فايدنر زيارته إلى مدينة فاس المغربيّة، التي تحدث عنها بقوله: "شيئاً فشيئاً اتضح أن زيارة فاس، العاصمة القديمة للمغرب، والملاذ الآمن لأجيال عديدة من العرب الفارين من إسبانيا، كانت أجمل وأهم ما في ذلك الملتقى. لم تكن مجرد زيارة عادية لمدينة؛ بل مواجهة مباشرة مع الآخر المختلف كليّاً".
يتطرّق شتيفان فايدنر (مواليد 1967) في رحلته هذه، إلى الحديث عن العديد من الشخصيات المعروفة في التاريخ الغربي والإسلامي، والذين كانت لهم إسهامات كثيرة وكبيرة في المجتمعات عبر مختلف العصور، وتركوا بصمة واضحة في الحياة.
إذاً، هي فاتحة الطريق نحو برزخ جديد، يشعر فيه المرء بالمساعدة، والدنوّ من الخلاص، والتمتع بلطائف النور، ونسيان كلّ ما من شانه أن ينغص عليه عيشه، وطمأنينته التي وجدها في معراجه، ورحلته تلك، والتي انطلق منها الكاتب، جاعلاً من مدينة فاس بوّابتها، حيث يبدأ الطواف، إلى الكثير من المدن المغربية، كما فعل الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، والذي اتّخذه الكاتب نموذجاً لمعرفة تلك الأسرار، وكيفية حبّ الشرق والغرب معاً، ويوحّد هواه وعشقه لهما: "لذا أصاخ السمع أكثر أثناء سيره على دروب ابن عربي في فاس، قد علم طبعاً أن ابن عربي قضى فترة من عمره فيها، لكنه لم يتوقّع لنفسه زيارة الأماكن التي ترك فيها الأخير شيئاً من روحه".
يتطرّق شتيفان فايدنر (مواليد 1967) في رحلته هذه، إلى الحديث عن العديد من الشخصيات المعروفة في التاريخ الغربي والإسلامي، والذين كانت لهم إسهامات كثيرة وكبيرة في المجتمعات عبر مختلف العصور، وتركوا بصمة واضحة في الحياة.
ولم يقم بذلك إلا لأنه أراد أن يعطي صورة واضحة عن رغبته في تحقيق المحاولات التي يبذلها في التمازج بين الحضارات، وإلغاء الفوارق والأسباب التي تؤدي إلى التناحر، وقطع الصلات بين أيّ مجتمع من المجتمعات، إذ أنه انطلاقاً من رسالته في الحياة أولاً، والجهود التي بذلها ثانياً في سبيل هذه الرسالة، ألّف العديد من المؤلفات التي تعبر عن رغبته في ذلك، وتجسّد موقفه من الحضارات، ويرى بأن كلّ واحدة أضافت إلى الأخرى، فلا يوجد أيّ فرق بينها، وأسهمت جميعها في بناء التاريخ البشري، والتطوّر العلمي في شتى ميادين الحياة.
ومن هؤلاء الذين ذكرهم الكاتب من أغلب دول العالم، وأغنوا بمعرفتهم وعلمهم، البشرية بالكثير: ابن خلدون- دانتي- نيتشه- ابن عربي- بودلير- رامبو- مالاراميه- أبو تمّام- دو سوسير- موريس بلانشو- نزار قباني- الغزالي- مارتن لوثر- هايدغر- جاك دريدا. وكما يخصّص بعض الصفحات للحديث عن بعضهم، وعلى الأخص عالم الاجتماع (ابن خلدون) وشاعر التصوّف وعالمه الكبير (محيي الدين بن عربي).
الحبّ على طريقة ابن عربي
يعترف الكاتب بأنه الطريقة التي عشق بها ابن عربي، وذكرها في أشعاره أعجبته كثيراً، ودفعته إلى أن يسلك ذات الطريقة، إذْ يشير إلى أبيات ذكرها الشاعر والصوفي ابن عربي، وينقلها لنا، وهي:
(لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثنا وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت ركائبه فالحب ديني وإيماني).
فاس هي المطاف الأول لشتيفان فايدنر، عبر دربِه نحو غايتِه، وهي الحصول على السكينة الروحية، والهدوء، والتنعم بمعرفة أسرار الخلق، وعندما تعرف الكاتب إلى ابن عربي الذي سكن فترة من الزمن في مدينة فاس، أراد أن يغوص في تفاصيلِ هذه المدينة.
حيثُ اتبع هذه الطريقة لكي لا يبقى في الوجود شيء اسمه مكان وزمان، لأن العشق يجمع بين دفتيه الحياة كلها ككتاب، ويطويه بين دفات قلبه، ويغلق عليه، حالماً وشاعراً أنه يسير نحو الجنة، وما خلقنا في الدنيا، وسيرنا فيها، والعمر الذي نقضيه سوى ساعات تأخذنا نحو الأبدية التي تكون بخاتمتها الحياة، والقيامة، حيث الراحة والخلود، والنعيم الأبدي، وهذا العشق هو السبب في خلق البشر كلهم، لأن العمر عبارة عن رحلة عشق، كل لحظة فيها تقرّبنا إلى الذات الإلهيّة، ويكون الموت نهاية ذلك العمر، وينقل لنا الكاتب صورة من حالة أشار إليها احد المجذوبين في المدينة بقوله كلاماً لابن عربي ليدخل الجذب في أرواح الموجودين، وتوضح الحالة التي كان يرغب فيها الكاتب، ويسعى إليها، وهي: "لولاك ما عبدت، ولا وجدت، ولا علمت ولا دعوت ولا أحببت، لا دعيت ولا أجبت ولا شكرت، ولا كفرت، ولا بطنت ولا ظهرت ولا قدمت ولا أخرت ولا نهيت ولا أمرت ولا نهيت ولا أعلنت ولا أسرت ولا أخبرت ولا أوضحت ولا أشرت".
تاريخ حياة مدينة
فاس هي المطاف الأول لشتيفان فايدنر، عبر دربِه نحو غايتِه التي قصد بها إلى المغرب، وهي الحصول على السكينة الروحية، والهدوء، والتنعم بمعرفة أسرار الخلق، وعندما تعرف الكاتب إلى ابن عربي الذي سكن فترة من الزمن في مدينة فاس، أراد أن يدخل أكثر، ويغوص في تفاصيل هذه المدينة، ويعرفها حق المعرفة، فأخذ يبحث في صفحات التاريخ عن معلومات عنها: "في البدء كانت فاس مدينة مزدوجة، تشكل واسطة العقد بين مشرق العالم العربي الإسلامي ومغربه، وقد علا شأنها إلى أهم مركز حضاري في المغرب، بل في شمال أفريقيا كلها، مع تشييد جامع القرويين"؛ ليستمر بعدها بسرد تاريخها في جميع مراحله، مع الدولة الأموية، والعباسية، إلى المرابطين، إلى العصور اللاحقة لهم، إضافة إلى التوقف عند صفحات من ذلك التاريخ، كتجارة العبيد والجواري، والبحث عن الذهب.
شتيفان فايدنر
كاتب ومترجم من ألمانيا، مواليد 1967، درس العلوم الاسلامية، الآداب الألمانية والفلسفة في جامعات غوتنغن، دمشق، بركلي، وبون.
عمل بين 2001 – 2016 رئيسا لتحرير مجلة (فكر وفن) التي كانت تصدر باللّغات العربية والفارسية والإنكليزية وأستاذاً للشعر والترجمة في جامعتي برلين الحرة، وبون.
ترجم أعمال العديد من الشعراء العرب، مثل بدر شاكر السياب، محمود درويش، وأدونيس إلى الألمانية. آخر ترجماته هي "ترجمان الأشواق" لابن عربي، عام 2018. وهو عضو في أكاديمية اللغة والشعر الألمانية، وأكاديمية فنون العالم في كولونيا، ونادي القلم الألماني.
من أعماله: "الإغواءات المحمدية"، 2004. صدر بالعربية 2007؛ "الأسئلة المخفية، محاولة للاقتراب من الإسلام"، 2018، عن سلسلة الاستشراق الجديد بعنوان "الإغواءات المحمدية". "الله هو اسم الرب"/رحلة في الإسلام 2006، فاس (الطواف) 2006؛ "خطاب ضد الإسلاموفوبيا"، 2015/2016، صدر بالعربية.؛"ما وراء الغرب، نحو فكر كوسموبوليتي جديد"، 2018.
نال شتيفان فايدنر عدة جوائز منها: جائزة مدينة هايدلبرغ 2006، جائزة أكاديمية اللغة والشعر الألمانية 2007، جائزة مؤسسة روفولت 2014، وأخيراً جائزة الشيخ حمد للترجمة، المركز الأول 2018.
ــــــــــــــــ
الكتاب: فاس الطواف سبعاً
المؤلف: شتيفان فايدنر
المترجم: كاميران حوج
الناشر: دار السويدي ومنشورات المتوسط 2019
الصفحات: 160 صفحة
القطع: المتوسط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...