شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جعفور... بحثاً عن زوسكيند الضائع

جعفور... بحثاً عن زوسكيند الضائع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 28 أبريل 202202:05 م

يعيش المبدع العربي هشاشة كبرى وهو يشق طريقه لإثبات ذاته أمام الاحتياجات المادية من جهة، وضرورة إنتاج القيمة من جهة أخرى، وهو ما يجعل الكثير من المبدعين ينحرفون بمسارهم تدريجياً ليفقدوا هوياتهم، وتتساقط ملامحهم شيئاً فشيئاً، فلا نكاد نتعرف عليهم إذا ما عدنا وورّقنا ألبوم حيواتهم الذي سجل مسارهم.

في المقابل هناك من يظل وفياً لاختياراته ومتمسكاً بها، مساراً واحداً كلّل بالنجاح أو الإخفاق، وإذا ما جرب، يظهر التجريب متجانساً مع العالم الخاص الذي نشأ فيه أو اختطه.

في تونس هناك ظواهر كثيرة للتحولات الكافكاوية التي عاشتها بعض الوجوه الإعلامية أو الفنية نتيجة هشاشتها الداخلية، فتجدهم يتحولون حسب التحولات السياسية بشكل راديكالي، فهذه فنانة أو كاتبة ترتدي الحجاب بعد وصول حزب النهضة بأيام للحكم، وهذه أخرى تخلع الحجاب بعد سقوط النهضة بأسبوع، وهذا فنان شعبي ينبذ فنه ويعلن توبته وتفرغه للإنشاد الديني، بسبب التحولات الاستراتيجية لخطاب القصر الجمهوري، وبعد عشر سنوات من حكم الإخوان واستشعاره لسقوطهم، يعود للفن الذي تركه وحرّمه، واعتبره عورة وخطيئة حياته، وكذلك فعل بعض الإعلاميين، مصطفين كل مرة وراء سياسي أو تيار أيديولوجي، حسب موازين القوى .

غير أن حالة جعفر القاسمي حالة خاصة تستوجب النظر إليها كنموذج للتيه الذي يعيشه الفنان التونسي، في مواجهة العالم الذي صار في قبضة الافتراضي من جهة، والمادية المتوحشة من جهة ثانية.

تستوجب حالة جعفر القاسمي حالة خاصة  النظر إليها كنموذج للتيه الذي يعيشه الفنان التونسي، في مواجهة العالم الذي صار في قبضة الافتراضي من جهة، والمادية المتوحشة من جهة ثانية

"الكونترباص" الخطوة الأولى في مسار ضائع

بدأ جعفر القاسمي مسيرته بعمل مبشّر: اقتباس لمسرحية "الكونترباص"، وهي مونودراما من فصل واحد؛ نص قصير للكتاب الألماني العظيم باتريك زوسكيند، صاحب رواية "العطر"، قدمه القاسمي في عمل تحت عنوان "أنا والكونترباص" سنة 2003، وهو عمل مسرحي ساحر حول أحوال عازف الكونترباص، ومثلت المسرحية ثورة في المسرح العالمي، وقد اقتبسها عشرات المخرجين في العالم، لقيمتها الفنية وعمق طرحها لموضوع الموسيقى، الاضطراب النفسي وغيرها من الموضوعات الوجودية.

يذكر المترجم سمير جريس أن هذه المسرحية عرضت لأول مرة سنة 1984 وعرفت بعدها "أكثر من 500 عرض و25 إخراجاً مختلفاً".

ولئن لم نشاهد المسرحية بأداء جعفر القاسمي، فإن ما وصلنا عنها أنه كان عملاً جيداً في بداية مسيرة ذلك الشاب الحالم بالتمثيل، ومجرد الإقدام على تجسيد هذه المسرحية، التي يبدو أنها كانت من اختيار المخرج منير العرقي، المغرم بالاقتباس، يعتبر إنجازاً وأمراً مبشراً بمولد فنان.

يقول الناقد أنطون أبو زيد متحدثاً عن نص المسرحية إثر ترجمتها للعربية: "حشد المؤلف، في مسرحيته المونولوغية، ما لا يحصى من الموتيفات، والمواقف، والآراء، والحوادث المستلة من سيرة الشخصية الوحيدة على المسرح، والتحليلات العميقة، والمعارف الموسيقية المجهولة من قبل الجمهور الأوسع، إضافة إلى آرائه (المتفردة) في الفن، والغناء، والرسم والنحت والموسيقى وعلاقتها بالسياسة والفلسفة".

إلا أن هذا التقاطع بين الفني والسياسي وتناغمهما في المسرحية والمسرحي ونصه لم ينعكس عند جعفر القاسمي بعد ذلك، فقد ظهر مهادناً للسلطة، مصطفاً معها، في ظل انتهاكات كبيرة كانت وقتها تستهدف المسرح التونسي والمسرحيين والكتاب.

مهما كانت التكاليف

جاء جعفر القاسمي، كما يقول، من الجنوب، راكضاً وراء حلمه في أن يكون ممثلاً، ولكنه لم يخبرنا عن أي ممثل يريد أن يكون، حتى شاهدنا له بعض الأعمال التلفزيونية التي استحسنها الجمهور، لطرافتها وليس لعمقها. فهذا الفتى لم يوضع يوماً في مواجهة حقيقية مع نفسه لنختبر عمقه ورؤيته للعالم والإنسان والحرية، حتى سنة 2009، عندما أطل علينا في فيديو يلهج بحمد نظام ديكتاتوري دمّر البلاد والعباد، ولاحق الأحرار من التونسيين في كل مكان، ولاحق زملاءه وأساتذته من المبدعين في تونس وخارجها.

خرج جعفر القاسمي ليقدم مدحية هيستيرية، محاولاً أن يشفعها بالأدلة والبراهين، فما رأينا من قبله فناناً مفتوناً بنظام بوليسي مثله، ويُنهي مديحه المحرّض على انتخاب بن علي لولاية أخرى، قائلاً: "أنا مع، مع، مع، مع ااااااابن علي". 

إن إيراد هذا التصريح ليس الغاية منه التشهير بالفنان، فلم يعد ذكر بن علي ومدحه اليوم يمثل خطراً بعد إفشال الثورة، بل صار مدعاة فخر للبعض، لكنه موقف يحتاج وقفة تأملية في تشريح شخصية المبدع التونسي وتحولاتها من خلال تفكيك خطابه.

إن جعفر القاسمي مثال على المواهب الفنية التي تنتهي في الأرحام، عندما لا تسعى لاكتساب مناعة ضد الشهرة والمال، فتتشتت في الركض وراءها حتى تفقد ذاكرتها ويتقلد عمقها الجنيني تدريجياً

فقد بدا الفنان كأنما في مدحه للنظام لا يمدحه حباً، بل هو يرد على معارضيه، وهو أخطر ما في الخطاب، فجاء فيه إشارة لحالة المسرح التونسي واعتباره في أفضل حال، وإشارة إلى حرية التعبير المطلقة وانعدام الرقابة، والحال أنها فترة عصيبة للفن والثقافة، مُنعت فيها الكتب وقطعت أوصال الأفلام واجتثت المشاهد من المسرحيات. فما الذي يدفع بفنان تلقائياً لكي يتجند للدفاع عن نظام، في انتخابات يعلم الجميع أنها شكلية، وأن النظام سيفوز بها بنسبة أكثر من 90%؟ ولماذا هذا الدفاع بكل هذا الحماس المبتذل؟

ريتشارد الثالث الصراع مع الذات

بدا جعفر القاسمي، وهو يحاول أن يسترد ذاته كمشروع مبدع كل مرة من خلال عمل جاد، ينازع نفسه، ويعيش صراعاً نفسياً كبيراً، بين الحلم بأن يكون فناناً، وبين أن يكون ظاهرة أو شهيراً، ونحسب أن مغامرته الإخراجية في مسرحية "ريتشارد الثالث" تدخل في هذا التنازع الذي حدث له، فهو، ولئن اعترف أنه كان يقلد الفاضل الجعايبي، غير أن التقليد مرحلة ضرورية في المراهقة الفنية، كما علق الجعايبي نفسه، للعثور على الصوت الخاص، واعتبر الجعايبي أن التلفزة التهمته.

فلم يستطع من جديد جعفر القاسمي الصمود، فجعفور الذي نبت في داخله، أو الذي انبتته وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرديء، التهم المبدع فيه، وحوله من فنان إلى كائن استعراضي، ينتشي بالستريبتيز العاطفي التي أسست له السوشال ميديا، عبر مقاطع الابتزاز العاطفي واستدرار الدموع.

محاربة المسرح

لم يكتف الجعفاريون والذين "حلوا في المسرح جعفرية" بما يقدمونه من أعمال لا ترتقي إلى أي مستوى من مستويات المسرح، بل أصبحوا يحاربون كبار المسرحيين، مثل توفيق الجبالي وفاضل الجعايبي، لأنهم يعرضون في المهرجانات الكبرى، ولأنهم أرادوا احتكار المسارح الشعبية الكبرى للتهريج، واختصروا مفهوم المسرح في "الإضحاك" السخيف، واعتبروا أنهم أوصياء على الجماهير، فلا يجوز أن تعرض الأعمال المسرحية المحترمة والعميقة في مسرح قرطاج مثلاً، بل يجب أن تبقى فقط على ذمة كائنات "الون مان شو"، في نسخته التونسية الأردأ عالمياً، وأحفاد "لمين النهدي".

ومنذ أن فتحت القنوات لممثلين للعمل في البرامج التنشيطية، تحول جعفر القاسمي بشكل فجائي إلى حالة هيستيرية من الشوق الصوفي للشهرة، وبدأ يستثمر في الفقر باسم الحملات الخيرية، التي يمكن أن تكون عفوية في البداية، لكنها انحرفت تدريجياً إلى صنعة، وما يسميه التونسيون بـ"ماعون خدمة"، بدأت بالإذاعات وتمددت للتلفزيونات، وفي ظل حاجة التونسيين لمثال الابن الطيب الحنون، لعب جعفر هذا الدور جيداً، حتى قاده لخلافة علاء الشابي في برنامجه بقناة الحوار التونسي في برنامج "صفي قلبك".

من الفنان العالمي إلى الإسكافي

يروج الإعلام التونسي فجأة لعرض عالمي سيقدمه جعفر القاسمي في باريس، ونكتشف أن العرض هو عبارة عن استعراض لأزمة الممثل مع اللغة الفرنسية، وهي مجموعة من السكتشات الرديئة، مع أنفاس متقطعة، تعرض للجالية التونسية في فرنسا، والحق أن هذه ظاهرة وجب التنبيه لها، فالمشهد أحياناً يتجند للحديث عن عرضي عالمي لمجرد أن جمعية صغيرة دعت فناناً لعرض عمله للجالية المتعطشة لرائحة البلاد للترويح عن نفسها، ولا أحد توقف يوماً وتحدث عن مقاييس العالمية في ظل عروض موجهة للجالية التونسية أو الجالية المغاربية في أقصى الحالات.

وما إن انتهينا من مزحة العرض العالمي، حتى خرج علينا جعفور ببراءة اختراعه "تستطيع" وأحلام الفتى الطائر بحذاء يحمل اسمه.

رسم يوما الفنان فان كوخ لوحة سميت بعد ذلك بالحذاء، وهي صورة لحذاء بال كان الرسام قد التقطه من أحد أسواق باريس، غير أن هذا الحذاء مثّل ثورة في الفكر الأوروبي والفلسفي، تحديداً حول الفن وأصله، حتى أن الفيلسوف الوجودي الكبير مارتن هيدغر، خصص له بحثاً بعنوان "أصل العمل الفني"، والذي رد عليه المؤرّخ الأمريكي ﻣﺎﻳﺮ ﺷﺎﺑﻴﺮﻭ، بأن لوحة الحذاء ليست إلا بورتريه شخصي لفان كوخ، وأنها تعكس "رحلة الحياة" الصعبة عبر تلك الحال التي ظهر بها الحذاء البالي، وانخرط في هذا النقاش كبار الفلاسفة والمفكرين، ومنهم جاك دريدا، فما الذي يمكن أن يثيره حذاء جعفور؟

إن المفارقة الكبرى التي يمكن بها قراءة مسيرة جعفر القاسمي، من الكونترباص إلى جعفور، هو الفرق بين زوسكيند نفسه وجعفر القاسمي، فزوسكيند المقل في أعماله، والتي لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة، يتجنب الظهور الإعلامي، حتى لا نكاد نعثر له إلا على صورة يتيمة بالأبيض والأسود تتداول في المواقع، ومع ذلك حقق شهرته العالمية بنصوص قصيرة ساحرة، من " الكونترباص" إلى "العطر" إلى "الحمامة"، وظلت قصصه القصيرة أقل شهرة، بينما كان جعفر القاسم يركض وراء الشهرة، حتى انتهى إلى صاحب الحذاء، حيث يظهر في أحد الفيديوهات في حالة هيستيرية من الفرح، معلناً أنه أخيراً حقق أمنيته في أن يكون له حذاء باسمه.

كل ما نطلبه من الفنانين عدم الزج بالناس الطيبين في مشاريعهم التجارية بدعوى الأعمال الخيرية، يكفي ما تاجر بهم السياسيون

عندما يعود بنا شريط الذاكرة إلى زوسكيند، وإلى أداء القاسمي لـ"عازف الكونترباص"، لنتأمل رحلة انحراف الحلم من ممثل إلى صانع أحذية، ومن القيم التي يقدمها زوسكيند في أعماله السردية والمسرحية إلى القيم يدفع بها القاسمي، وكل ذلك تحت مظلة العمل الخيري: "اشتروا مني حذاء بقرابة ميتين دينار وسأعطي للمساكين خمس دنانير"، رافعاً شعار "أعداء النجاح" في وجه كل من ينتقده.

إن جعفر القاسمي مثال على المواهب الفنية التي تنتهي في الأرحام، عندما لا تسعى لاكتساب مناعة ضد الشهرة والمال، فتتشتت في الركض وراءها حتى تفقد ذاكرتها ويتقلد عمقها الجنيني تدريجياً.

يقول كارلوس ليسكانو في كتابه "الكاتب والآخر"، إن الإنسان الفرد يتوارى تدريجياً متى نبت في داخله الفنان الذي سيلتهمه شيئاً فشيئاً، ليصبح خادماً له، أما في حالة القاسمي فقد نبت في داخله جعفور ليأكل الفنان الذي نشأ في نفس الرحم، ليلتهم بدوره الإنسان الفرد، فهل نرى جعفر القاسمي يوماً يستعيد عازف الكونترباص، ويخلّص الفنان من مصنع الأحذية أو هذه" الصرماية" بلغة أهل الشام، وما تحيله على الشبه الصوتي مع كلمة "الصرمية" التونسية والتي تعني المال؟

وفي النهاية، من حق جعفر أن يطلق الماركة التي يريد، ومن حقه أن يضع اسمه على الأحذية، أو على أي شيء آخر، ومن حقه أن "يستطيع" أو أن يحلم بأنه يستطيع، فالإنسان محاولات سيزيفية للوجود، ولسنا مسؤولين عن الذوق العام لنفتي في تلك الشخابيط على الأحذية، باعتبارها فناً جعل أسعار الأحذية تتضاعف ثلاث وأربع مرات.

كل ما نطلبه منه، ومن الفنانين، عدم الزج بالناس الطيبين في مشاريعهم التجارية بدعوى الأعمال الخيرية، يكفي ما تاجر بهم السياسيون، ولم يشف الشعب من استغلال نبيل القروي له، وما فعل بأكياس المكرونة ليصل إلى الرئاسة والبرلمان، وما يبيته اليوم الرابور السابق "كادوريم" باسم الأعمال الخيرية.

فليتاجر التجار ببضائعهم بعيدا عن الفقراء، والعلم عندي أن التاجر لا يعلن بتبرعاته قبل إطلاق الماركة نفسها، بل بعد نجاحها، لأن إعلانها قبل إطلاق المحل نفسه لا يمكن أن تقرأ إلا كما قرأه الشباب على المنصات: استغلال وتحايل على الشعب الطيب، ودعاية رخيصة لربح سريع، يتناقض مع شعاره "السلحفاة"، رمز الصبر والمثابرة والطيبة والألفة، فلا نريد شعار سلحفاة وسلوك ثعلب، على عكس القصة المثال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image