لن تصدّق أنك في بلدك، الأردن، عند مشاهدتك منظراً طبيعياً يسرّك، فعيناك لم تعتادا رؤية جميل المنظر من أخضر السهول وصافي المياه ونقي الهواء سوى في التلفاز، لتنطق حينها مشدوهاً فاقداً الأمل بجمال المكان: "ولا كأنك في الأردن!".
دفع التوق إلى جمال المنظر وحرية الحركة مجموعةً من الشبان للخروج في جولات ترويحية في مختلف المحافظات الأردنية، بعد إقفال أبواب السماء أمام السفر جوّاً، بسبب جائحة كورونا، والتزامهم المنزل لأشهر طويلة، ولكن بطريقة مختلفة عن الشكل الذي اعتادوا عليه في السابق، موفّرين بذلك فرصةً جديدةً للمواطنين للترفيه، وفرصة عمل لأنفسهم في سوق متخم بأعلى نسب البطالة، معتمدين على منصات التواصل الاجتماعي التي تضخّم عدد مستخدميها في عام 2021، بنسبة 61.5%.
وجهات معروفة بمنظور جديد
انتشرت عبر مختلف المواقع دعوات ترافقها صور طبيعية خلّابة للمشاركة في سياحة المغامرات، وهي سياحة تقوم على الاستكشاف من خلال سير المشاركين لمسافات طويلة بين الجبال والتلال والسهول، أو التخييم في إحدى الغابات، وربما قيادة الدراجة في الطبيعة، أو المشاركة في صناعة أحد المنتجات الطبيعية وتعلّم الحِرف مع أهل منطقة معيّنة.
"بنركز في رحلاتنا عالتجربة، ما بهمني الشخص يطلع معي ويعرف المكان، كل الدنيا بتعرف المكان، بس هل جرّبوا يمشوا بمسار جديد فيه؟ هل أكلوا من طعام أهل المنطقة؟ شو الأشياء المميزة في المكان؟ بدّي يعيشوا التجربة عشان يحسّوا بالقيمة المكتسبة من هاي الرحلة"، يقول الشاب المغامر براء الأصفر صاحب مؤسسة مكان المختصة بسياحة المغامرة، إذ يتعاون براء وفريقه مع شركات سياحية لتنظيم رحلاتهم.
يقوم فريق "مكان" بالتجهيز لمغامراته القادمة، باختيار مكان مناسب للعائلات بالتنسيق مع أهل المنطقة المنشودة، والنشر عن تفاصيل الرحلة عبر صفحتهم على إنستغرام، ليقوم الراغب في المشاركة بتأكيد حجزه من خلال الصفحة، بتكلفة رمزية لا تتجاوز 35 دولاراً تغطّي خدمة المواصلات والفطور والغداء، محاولين بذلك استقطاب أكبر شريحة ممكنة لخوض هذه التجربة في مختلف الفصول والمواسم على اختلافها، حتى في شهر رمضان.
يعدّ قطاع السوشال ميديا والترويج الإلكتروني من أسرع القطاعات نمواً في الأردن،فقد ساهمت في إيجاد الشباب قطاع دخل أفضل، يفوق الدخل في عالم الاقتصاد الحقيقي في الأردن، مما مكّن الكثيرين من التحول من العمل التقليدي إلى مؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة
ففي وصفه لشكل الرحلات الترفيهية السائدة، يقول الشاب براء: "بشوف مشاعر الناس بالرحلة، لما تطلع مسافة بالسيارة ساعتين ونص لأم قيس مثلاً، طيب السيارة مشوارها مش حلو؟! يعني حتى لو وصلت مكان جميل وتصورت، استمتاع لمدة نص ساعة، يعني الواحد ما فرّغ طاقته. لما يطلع ويمشي يشوف الجبال ويشوف الأرض والمي والشجر، رح يحسّ بانتماء، في ناس مرات لما نكون بأم قيس ما بتصدق إنه هاي نفسها أم قيس مع إنه هو دايماً بيجي عليها".
وهذا ما أكد عليه الشاب يزيد كمال، أحد المشاركين في مغامرة إلى منطقة طبقة فحل قائلاً: "أهالي المنطقة كانوا يرحبّوا فينا كل ما نمرق بطريق، أنا ما كنت متخيل انو هالقد الأردن حلو، وغيّرت الطلعة صورة ذهنية كنت ماخذها عن البلد، وشفت كيف الناس بتيجي من الدول المجاورة لحتى تزور هالأماكن وتنبسط بالطبيعة، بعد هالمشوار حبّيت بلدي أكثر".
معرفة "تغمسك" بالأرض
استغلالاً للمواسم الزراعية المتعددة في الأردن، تعمل السيدتان ريم الفاخوري ودينا البطاينة، على تنظيم رحلات يشارك فيها الراغبون في جولات يتعرفون من خلالها على النباتات ومواسمها وطريقة حصادها مع أهل الأرض القائمين على زراعتها، بما في ذلك التعرف إلى أهل المكان وعاداتهم وأهازيجهم وطعامهم بمشاركتهم ذلك من شروق الشمس وحتى مغيبها.
"تجوال البرتقال"، كان الرحلة الأخيرة التي نظّمها مطبخ تغميس الاجتماعي بعد "تجوال الرمان" و"حركة بركة"، وجال فيه المشاركون على بيّارات البرتقال في منطقة المشارع في الشونة الشمالية مروراً بقناة الملك عبد الله، وتعرفوا على أنواع البرتقال والحمضيات الأخرى وطريقة العناية بها من خلال لقائهم بمجموعة من المزارعين. ويهدف "تغميس" إلى التعلم خارج المؤسسات التعليمية، وقد جاءت تسميته من الفعل المتداول "غمَّس"، أي تناول الطعام باليد وبمكون أساسي هو الخبز.
"مش مرتبط التغميس بالأكل ولكن كمان بالفكر، إنت بتنتبه على عافية جسمك شو بدخل عليه أكل وبغذيه، ومن ناحية أفكار؟ برضو لازم ننتبه شو بدخل على مخنا وبعشعش فيه عشان بالنهاية هاد كله غذاء، فبنحاول بتجوالنا نرجع للجذور والأفكار بدل ما نكون مجرد مستهلكين".
يقوم فريق "مكان" بالتجهيز لمغامراته القادمة، باختيار مكان مناسب للعائلات بالتنسيق مع أهل المنطقة المنشودة، والنشر عن تفاصيل الرحلة عبر صفحتهم على إنستغرام، ليقوم الراغب في المشاركة بتأكيد حجزه من خلال الصفحة، بتكلفة رمزية لا تتجاوز 35 دولاراً
يعلن الفريق من خلال صفحته على إنستغرام أيضاً، عن الفعالية المنظَّمة القادمة، بكلفة تختلف باختلاف المكان وعدد الأشخاص، لكنها لا تتجاوز في مجملها 35 دولاراً شاملةً تنقل المشاركين ووجبات طعامهم.
تبيّن ريف، مدى سعادتها في كل مرة لرؤية تفاعل الناس وحبهم لتعلم أمور جديدة في التجوال واستحضارهم قصصاً تنعش ذاكرتهم المنقولة من الأجداد، ولكثرة الأسئلة المطروحة بفعل المعطيات الجديدة على المشاركين، موضحةً: "هاي المشاركة اللي بتحسسنا قديش إحنا مترابطين ومنتمين للمكان اللي إحنا أصلاً منه، وبتخلينا نفهم كيف مثلاً سياق أهل منطقة معيّنة بختلف عن سياقنا في المدينة، يعني قيمة المي عند أهل الغور غير عن قيمة المي عنا، كيف تعاملهم مع الاحتلال الإسرائيلي عالحدود مثلاً، وشو تبعية نمط حياتهم هاد على جملة كبيرة من الناس في مناطق ثانية".
سياحة البركة... من الناس وإليهم
"كان في استغراب وشعور بالفرحة والفخر والرضى من الناس، لأنه ما كانوا يتوقعوا إنه في إشي زي هيك في الأردن، وصاروا يرجعوا عشان بدهم يجربوا تجارب تانية"، تقول مديرة بيت البركة، ربى حنون، والذي يعمل على تعزيز السياحة المستدامة في منطقتَي بيلا وطبقة فحل.
يُستحدَث "بيت البركة" مع المناطق السياحية المهمشة تجارباً، ويجذب الناس إليها ويجعلهم متفاعلين معها بشكل أكبر، فقد تشارك في تجربة حصاد العسل، وتعرف مواسمه وأنماط عيشه مع النحّال، أو قد تختار ركوب الدراجة في مسارات تمتد من ساعتين إلى طوال اليوم، وربما تساعد في عمل كرات بذور الزعتر المغلّفة بالمعجون، لتسير بعدها في إحدى الغابات وترميها ليتكفل فصل الشتاء بالبقية.
تنوّع هذه التجارب وغيرها جاء عقب زيارات وأحاديث مطولة مع أهالي المناطق لاستحداثها، بعد أن كان الوصول إليها لا يزيد عن مجموعة سياح يأتون بحافلات كبيرة لساعتين، ملتقطين صوراً لأنفسهم ومغادرين إلى غير رجعة، كما تروي ربى.
من خلال صفحتهم على إنستغرام، سيتسنى لك الدخول إلى الموقع الإلكتروني الخاص ببيت البركة، واختيار التجربة التي ترغب في خوضها بكلفة تبدأ من 21 دولاراً وتزيد حسب طبيعة التجربة، وهي الطريقة التي ترى لها ربى أثراً واضحاً في اجتذاب الناس إلى المشاركة في ما هو جديد.
"أنا أصلاً بحب أكتشف، بس بهاي المنطقة بحس قديش أنا مقصرة بالاكتشاف، مع هدول الناس بتصيري وحدة منهم وفيهم، الله يباركلهم قديش برحبوا فيكي، هاي الطلعات بتذكرك إنه دايماً شو ما عملتِ وشو ما سويتِ الأرض هي اللي بتجمع الناس مع بعض"، تعبّر مرح يوسف إحدى المشاركات ممتنةً لتجربتها في البيارات.
دخل أفضل بمرات من الدخل الحكومي
يعدّ قطاع السوشال ميديا والترويج الإلكتروني من أسرع القطاعات نمواً في الأردن، حسب المحلل الاقتصادي حسام عايش، "فقد ساهمت في إيجاد الشباب قطاع دخل أفضل، يفوق الدخل في عالم الاقتصاد الحقيقي في الأردن، مما مكّن الكثيرين من التحول من العمل التقليدي إلى مؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وهذا جزء مهم من النشاط الاقتصادي"، لذا يرى ما سبق رسالةً مهمةً للقائمين على قطاع السياحة الحكومي -الذي اعتاد على تقديم وجبة سياحية تقليدية- فحواها أن الأماكن السياحية والتاريخية المعتادة، لم تعد تحتلّ سلّم الترويج، فهناك أردن آخر نراه في تغيّر الأذواق والخيارات وفي الطريقة التي يتناوله بها الشباب.حاجة دفعت بأصحاب المنصات إلى تقديم حلول معقولة
وفّر الواقع الاقتصادي الفرصة أمام مشاريع مثل "مكان" و"تغميس" و"بيت البركة" وغيرها، لتوفير خيارات جيدة تروّح عن المواطنين بمبالغ معقولة وبطرق جديدة باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، لتنتشر صور ومقاطع فيديو لمناطق تسرّ الناظرين وفي لحظات لآلاف المستخدمين، متوجهين في نهاية الأسبوع إلى الجنّة التي شاهدوها من خلال صورة.وهذا ما شهدناه عياناً بعد قيام مجموعة من السياح الخليجيين بنشر فيديو على إحدى منصات التواصل الاجتماعي لمنطقة أم النمل في محافظة إربد، لتمتلئ عن بكرة أبيها في اليومين التاليين فور انتشار المقطع.
"لا يمكن للأسرة أن تذهب للإقامة لليلة في أحد الفنادق بسبب كلفتها المرتفعة التي قد تساوي دخل الأسرة الشهري أو تتجاوزه"، كما يبيّن المحلل الاقتصادي الاجتماعي حسام عايش، فمعدل الدخل المنخفض الذي يقل عن أربعة آلاف دينار للأسرة سنوياً، يجعل في هذا النوع من المغامرات سياحةً بكلفة معقولة، تسمح لأرباب الأسر بزيارة أماكن جديدة، والاستمتاع بأماكن مفتوحة تمكّنهم من ممارسة الفعاليات والأنشطة.
"اللي بشوف الجمال هاد، مش رح يطلع مرة، رح يرجع يطلع عشرين مرة"، و"بدك تنتشر وتواكب السوشال ميديا"، و"الناس بتشوف وبتتأثر وتنشر". بين يقين براء وريف وربى، يظلّ الأمل قائماً بتحول الخيبة في قول الأردنيين "ولا كأنك بالأردن"، إلى حب تشحذه معرفة الأرض في جملة "يا أخي والله بلدنا حلوة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون