ابتهج يساريون عرب وقوميون ومؤازرون نشطِون ومتحمسون لأنظمة يحكمها معمَّمون، وهم يشاهدون صواريخ الرفيق فلاديمير بوتين تدكّ أوكرانيا. إنها لحظة يحق فيها للبروليتاريا أن تحتفل، فما بشّر به دعاة الإمبريالية والتوحش الليبرالي عن نهاية التاريخ إنما هو محض خرافة. إنّ تاريخاً جديداً تكتبه الآن الطائرات العابرة للصوت، مقوّضةً السردية الغربية المتعالية التي امتهنت إذلال الشعوب، وسحق هيبتها القومية، وتهميش أشواق المعذبين في الأرض.
وربما اتخذت الحرب في أوكرانيا منذ اجتاحتها روسيا، في الرابع والعشرين من شباط/فبراير الماضي، مساراً يتمثل في مواجهة كبرى ذات عنوان عريض، يقوم على الصدام مع المشروع الليبرالي الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي "القتال ضد الهيمنة الأمريكية والنخبة الليبرالية التي تحاول السيطرة على العالم"، كما عبر المفكر السياسي الروسي ألكسندر دوغين، الذي يعد، في نظر مراقبين، الملهم الروحي للرئيس الروسي، لاسيما وهو يقرأ الحرب الجارية على أنها ليست موجّهة ضد الأوكرانيين، وإنما ضد "النازيين الجدد"، وهو أمر يستبطن خطابات بوتين الأخيرة، وكأنّ كليهما قد قرأ على "شيخ واحد"، فبوتين، في نظر دوغين، ليس زعيماً تاريخياً وحسب، إنه "ملك شعبيّ".
بيْد أنّ المولعين بما "تنجزه" روسيا في أوكرانيا يهملون هذه التفاصيل، ويناصرون بوتين باعتباره قائداً من سلالة الـ"كي جي بي" الصارمة ذات القبضة الفولاذية التي لا ترتجف، بخلاف قبضتيْ غورباتشوف ويلتسين اللذين أورثا روسيا الهوان، كما يعتقد يساريون عرب منشَدّون إلى نموذج "الديكتاتور"
ولعل الاستطراد الأخير ضروري للكشف عن ديناميات الحرب في أوكرانيا، كما يفصح عنها العقل السياسي الاستراتيجي الروسي. بمعنى أنّ لدى موسكو اعتباراتها وحساباتها البعيدة المدى في التطلع لإعادة رسم خريطة العالم، وإنهاء القطبية الأحادية، ورفض الإقرار والتسليم بالرواية الأمريكية التي عبّر عن مثالها الأعلى فوكوياما، منقلباً على أستاذه هنتغتون، ومبشّراً بعولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل نهائي للحكومة الإنسانية ولنهاية التاريخ، على اعتبار أنّ نظاماً سياسياً اجتماعياً واقتصادياً ما قد يتطور ليصبح نقطة نهاية التطور الاجتماعي والثقافي للبشرية، وهي فكرة مثيرة للجدل في فلسفة التاريخ راودت ماركس وهيغل وتوماس مور، وهجس بها الفيلسوف والشاعر الروسي فلاديمير سولوفيوف.
مع ذلك يجد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يساريين مهووسين بقدرته على إنجاز ردع نووي وصاروخي للولايات المتحدة لا يضاهى، حتى لو كانت كوريا الشمالية تضم أسوأ سجلات حقوق الإنسان.
هذا شأن العقل الروسي في مواجهة العقل الغربي، وهي مواجهة تتبدى في النزوع إلى إحباط تصورات فوكوياما بخصوص حتمية الديمقراطية الليبرالية الصالحة لنهاية التاريخ، لأنّ، في نظرهم، ثمة تاريخاً جديداً يُستأنف استناداً إلى عالم متعدّد الأقطاب، متجاوِر، وليس متصادماً، وتتوفر فيه فرص متساوية لكل البشر، كما زعم بوتين غير مرة، في تطلّع يقوم على الشراكة ويكسر الهيمنة الليبرالية.
بيْد أنّ المولعين بما "تنجزه" روسيا في أوكرانيا يهملون هذه التفاصيل، ويناصرون بوتين باعتباره قائداً من سلالة الـ"كي جي بي" الصارمة ذات القبضة الفولاذية التي لا ترتجف، بخلاف قبضتيْ غورباتشوف ويلتسين اللذين أورثا روسيا الهوان، كما يعتقد يساريون عرب منشَدّون إلى نموذج "الديكتاتور"، لاسيما أنّ بعض الأدبيات الشيوعية تروّج لفكرة الديكتاتورية وتحتفي بها، إذ ثمة تمجيد منقطع النظير لـ "ديكتاتورية البروليتاريا" التي بموجبها تتم السيطرة على وسائل الإنتاج، والتحرير الذاتي للطبقة العاملة.
الوقائع التاريخية أثبتت أنّ جزءاً كبيراً من الطبقة العاملة من الفقراء والشغيلة كانت وقوداً للثورات الاشتراكية منذ اندلاع الثورة البلشفية حتى انبثاق "جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية" التي يحكمها حزب العمال الذي يقود النظام الأشد ديكتاتورية، ومع ذلك يجد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، يساريين مهووسين بقدرته على إنجاز ردع نووي وصاروخي للولايات المتحدة لا يضاهى، حتى لو كانت كوريا الشمالية تضم أسوأ سجلات حقوق الإنسان.
هناك يساريون عرب مفتونون بالطغاة والرموز التي تتقن البلاغة السياسية واللغة الخشبية وعبادة الشخصية. فُتنوا بماوتسي تونع، وكاسترو، وتشاوتشيسكو، وتشافيز، ومن قبلهم ستالين. وهم الآن مفتونون ببوتين وبشار الأسد وحسن نصرالله وعلي خامنئي، وسواهم ممن خاضوا الحروب باسم البروليتاريا، وحينما أعجزهم "النصر الإلهي" ولم تنفع تميمة الديالكتيك، لم يتوانوا عن قصف المدن الآهلة، بالكيماوي والبراميل المتفجرة.
بعض اليساريين العرب ممن أصابتهم متلازمة ستوكهولم (Stockholm syndrome) حيث عانى بعضهم من ويلات الاستبداد وجحيم الحكم الأبوي، وجنون الديكتاتويات، أقفلوا دائرة آلامهم، وراحوا يهتفون للطغاة، وينخرطون في مديح الأنظمة المارقة التي تتجاهل أشواق البشر وعذاباتهم، فترى بعضهم يكتب على صفحته في "فيسبوك": "مع بوتين ظالماً أو مظلوماً"، متناسياً ما سبّبته قرارات بوتين في سوريا، وما قتلته أسلحته العنقودية والمحرّمة دولياً من آلاف السوريين المدنيين، حسبما أفادت المنظمات الدولية، حيث وثقت منظمة العفو الدولية استهداف الطائرات الحربية الروسية عمداً المدنيين والمدارس والمستشفيات وعمال الإنقاذ، أثناء حملة القصف على مدن في سوريا عام 2016. كما قالت المنظمة إنّ "روسيا مذنبة بارتكاب بعض أفظع جرائم الحرب منذ عقود". لذا حار بعض أهل اليسار في عدد الضحايا اللازم كي يطلقوا على حلب "ستاليننغراد"!
بعض اليساريين العرب ممن أصابتهم متلازمة ستوكهولم (Stockholm syndrome) حيث عانى بعضهم من ويلات الاستبداد وجحيم الحكم الأبوي، وجنون الديكتاتويات، أقفلوا دائرة آلامهم، وراحوا يهتفون للطغاة، وينخرطون في مديح الأنظمة المارقة التي تتجاهل أشواق البشر وعذاباتهم
هؤلاء الرفاق الحائرون، حسموا تكتيكيّاً حيرتهم الميتافيزيقية، وأزاحوا الأيديولوجيا الماركسية عن مادّيتها وجدليتها، وعزموا على التحالف مع أكثر أشكال الحكم ثيوقراطية واستبدادية، فمحاربة الإمبريالية، وتصديع النظام القطبي الأوحد يستحقان ذلك، ويستحقان أيضاً إنتاج "القائد الضرورة" الذي لن يُفيد أولئك المهلّلين بحبة قمح واحدة، وحين تعود الدبابات إلى مَضاجعها لن تكون في الشوارع إلا الجثث المحترقة والبيوت المهدمة والأحلام التي تسير بلا أقدام، ومع ذلك سيخرج يساري متحمس أمضى حياته في المطاردة والاعتقال، ولا يكاد يجد قوت يومه، رافعاً بذراعيه الهشّتين يافطة كُتب عليها بالأحمر: "اللعنة على الناتو".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...