شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
يوم الحداد الوطني في المكسيك... الحب أصل التمرد

يوم الحداد الوطني في المكسيك... الحب أصل التمرد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 29 أبريل 202210:30 ص

في مدينة كالقاهرة، يبدو أن قهر المشاعر وسحق العواطف هما السائدان، وأي تعبير عن الحب هو درب من دروب الخيال. تبدو الحقيقة ظاهرة للعيان أن القاهرة دوماً على عجلة من أمرها، لا وقت لإدراك المشاعر أو التعبير عنها. ولكن للباحث المدقق يمكن أن يجد كل المشاعر في القاهرة، وبشكل حاد وفج أحياناً. السرعة الساحقة في محطات المترو، والبطء المميت في الهيئات الحكومية، حيث إنجاز ورقة واحدة قد يأخذ ثلاث ساعات عمل أو أكثر. العنف وأفعال الكراهية، والتعبير المباشر عن الحب في محلات الزهور، أو في الحدائق العامة، حتى أضرحة الأولياء ومجاورتهم، درب من دروب الحب.

في الفيلم القصير "يوم الحداد الوطني للمكسيك" للمخرج خيري بشارة، والمعروض ضمن سلسلة "حب وحياة، وكل شيء بينهما" على منصة نتفيلكس. تدور أحداثه في مدينة باظ الجديدة، مدينة عربية خيالية تتشابه أبنيتها مع أبنية منطقة مصر الجديدة في القاهرة، وتتشابه أسماء مدن جمهوريتها مع أسماء المدن المصرية، حيث صادق الشعب على قانون منع الحب، تضامناً مع حدث وهمي اسمه يوم الحداد الوطني بالمكسيك، يتزامن مع يوم عيد الحب من كل عام، ومن وقتها أصبح الناس يسيرون في جنبات المدينة كالإنسان الآلي نافيين عن أنفسهم كل تهمة قد تربطهم بشعورهم بالحب.

تدور أحداث الفيلم القصير "يوم الحداد الوطني للمكسيك" في مدينة عربية خيالية تتشابه أبنيتها مع أبنية منطقة مصر الجديدة في القاهرة، وتتشابه أسماء مدن جمهوريتها مع أسماء المدن المصرية، حيث صادق الشعب على قانون منع الحب

الاستهلاكية والحب

ينفعل حسن، بطل الفيلم (قام بدوره آسر ياسين) قائلاً: "الناس مش لاقية تاكل هتتنيل تحب؟!"، منذ ربط الحب بالاستهلاكية وشراء الهدايا المكلفة، والنزهات التي غالباً ما ترتبط بدين لاحق على الكريدت كارد، أصبح التعبير عن المشاعر، وخصوصاً الحب، كالإعلان عن حسابك في البنك: خوف وارتباك.

في الفيلم تقوم بسمة بدور "روح" والتي تعتبر نفسها قائدة ثورة العشاق، لكنها تستفيد من وجودهم تحت الأرض. تدعي أنها تخاف عليهم من الاعتقال، ولكنها في الحقيقة تخاف على "البزنس" الخاص بها، حيث تقتات على هدايا الحب وتبيعها بأسعار باهظة، كل شيء للبيع عند روح، حتى الحب والمبادئ. تخبر حسن أن "البانر" الذي يريده ليس للبيع فهو زينة المكان، ولكنها لا تتردد ثانية عندما يخبرها بأنه على استعداد لدفع أي ثمن تريده.

تقول عزة (تقوم بدورها هديل حسن): "طلع بيحب وجايب هدايا، عالم خايبة!". الحب لمعظم سكان مدينة كبيرة كالقاهرة، والتعبير عنه تحديداً نوع من أنواع الخيابة وعدم الرجولة، ولسبب لا نعرفه، قرر الشعب في الفيلم إصدار قانون بمنع الحب، والحبس لكل من يقبض عليه متلبساً بهدايا أو ملابس حمراء، أو حتى ارتفاع في نبضات القلب عن المعدل الطبيعي.

هل الاتساق مع المشاعر عمل نسوي في الأصل؟

صاحبة الفكرة الثورية في الفيلم، والتي تريد أن تعود الأمور لمجراها وأن يعبّر الناس مرة أخرى عن مشاعرهم بلا قيود، هي ليلى خطيبة حسن، (تقوم بدورها ندى الشاذلي) فتاة منطلقة، تقود دراجتها الهوائية في شوارع المدينة الصاخبة، بينما حبيبها يركب وراءها في رمزية للقيادة. وما إن تحول البطل إلى رجل خائف من سطوة القانون والمجتمع، حتى تعيّره: "أنت بقيت شبههم يا حسن، بس مابقيتش شبهي".

"الناس مش لاقية تاكل هتتنيل تحب؟!"
يتحول حسن من شاب منطلق وشاعر مبتدئ يجيد التعبير عن مشاعره، إلى مذيع راديو قميء، خائف، يبلغ جمهوره بضرورة منع الحب. لا يحركه للتمرد سوى القبض على خطيبته، وفشله في إطلاق سراحها بالقانون، تحت وطأة الخوف من أنها: "دي لابسة فستان أحمر يا حسن!".

الحب أصل التمرد

ربما أكثر ما يدفع الإنسان لأي عمل ثوري ومتمرد هو الحب. شعوره بحب شخص لدرجة تكسير قيود معينة، شعوره بحب وطنه يدفعه للقيام بثورة، أو الموت في الدفاع عن حقوقه وأرضه، وبموت الحب يموت الدافع المحرك لأي أعمال تمرد.

يؤلف حسن أول قصائده ويخبر ليلى أنه توصل لسبب حبه لها، ويكون أول تلك الأسباب أنها تشبه الحرية، وليلى برمزيتها في الفيلم تحاول أن تقود ثورة، حتى وإن انفصلت عن خطيبها إلا أنها لازالت مؤمنة أن من حق الجميع التعبير عن الحب بوضوح دون أن تقاس عدد ضربات قلبهم.

"حبيتك شبه الحرية

والنسمة والنور والمية

والوردة في شعرك أغنية

بتعدي حدود المألوف" 

في القاهرة كل المشاعر موجودة وحادة

الغريب أن مدينة كالقاهرة قد تبدو متشابهة للغاية مع مدينة باظ الجديدة، بدون قانون رسمي ينص على تجريم الحب، إلا أن غالبية شعائر إشهار الحب والمشاعر محرمة، مرتبطة بالخيابة، والضعف، عرضة للتنمر والسخرية، وقد تصل لتهمة التعدي على قيم الأسرة المصرية أحياناً.


هل تشبه القاهرة قهر مشاعر قاطنيها وعالم محبيها السري؟ ... فيلم "يوم الحداد الوطني في المكسيك"

بينما تمارس في أقبية المدينة كل طرق التعبير عن الحب الصادق، المتنزهات العامة وبعيداً عن أعين المتلصصين، على الكورنيش ليلاً، دراجة هوائية توصل بوكيه ورد من عنوان إلى آخر، وأنواع أخرى من الحب يعبر عنها في مواسم بعينها بدون حرج، ففي عيد الأم يكون من الطبيعي أن يهدي الأبناء أمهاتهم دون أن يتلقوا سخرية من نوعية "أنت دلوعة ماما"، وحتى في الأضرحة التي يلمؤها مجاورينها ودروايشها، تعتبر سرداباً مخفياً للمحبين، لا يجرؤ أحد سواهم أن يزوره.

عالم سري للمحبين الذين لا يجدون حرجاً من التصريح بحبهم، وينصرفون بعدها لينخرطوا في شوارع المدينة التي تحثهم على قهر عواطفهم، وعجلاتها السريعة التي لا تترك لهم وقتاً للوقوف والتفكر فيما يشعرون.

في مدينة باظ الجديدة، يجد العشاق أيضاً عالمهم السري، يلتقون فيه ويعبرون عن مشاعرهم فيه بشجاعة، يصلون إليه بكلمات سرية خاصة. بينما يتظاهرون نهاراً بأنهم بشر آليون، لا يعرفون شيئاً عن الحب.

عنوان الفيلم نفسه يربط قهر العواطف بالحداد، بينما في الحقيقة الحداد من أحد أهم وسائل التعبير عن الحب، حيث يوقف الجميع كل شيء احتراماً للحزن الذي خلفه موت عزيز لديهم. الذكرى السنوية للوفاة، واقتطاع ساعات خاصة لزيارة قبر حبيب وتذكره، أو البكاء دون لوم أو عتاب، طرق بديلة تخرج فيها المشاعر بشكل مكثف، حيث لم تجد وسيلة أخرى للتنفيس عن نفسها. الحداد ليس نقيض الحب، بل هو غالباً الدليل الملموس على وجوده.

فيلم "يوم الحداد الوطني في المكسيك"، يستعرض في حقيقة الأمر القاهرة التي طبّعت مع قهر مشاعر قاطنيها، وعالم محبيها السري، مع نهاية تحلم بعالم أفضل للعشاق، بلا قيود أو تضيقات، في مشهد حالك لفتاة تقود دراجتها النارية من خلفها حبيبها في شوارع المدينة الساحرة ليلاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard