شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عن ميلفا الإيطالية وفيروز... والغناء والكلام إذ يسبحان في الفضاء

عن ميلفا الإيطالية وفيروز... والغناء والكلام إذ يسبحان في الفضاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 26 أبريل 202205:30 م

درجت العادة أن يستلهم بعض المغنين من بلدان مختلفة في العالم، لحناً لأغنية أو لنشيد، يتم غناؤه وفق كلمات مختلفة عن كلمات الأغنية الأصل، وهو ما لا تنقص العالم العربي أمثلة كثيرة عنه. لكن، ربما شكلت فيروز المثال الأبرز على ذلك في ربوعنا، من خلال عدد من الأغاني كانت ألحانها سيمفونيات مشهورة، أو أخرى بعض ألحانها متداول وبعضها الآخر شبه مجهول.

مِن "يا أنا يا أنا أنا وياك" واللحن لموزارت، وصولاً إلى أغنية "شو بخاف" واللحن هنا للبرازيلي لويز بونفا، وبينهما أغانٍ لا يشكل جَلْب الرحابنة لألحانها من آخرين وإصدارها بكلمات مختلفة، حالة أولى أو جديدة أو نافرة، خصوصاً عندما يكون اللحن مُغنّى في بلدان وداخل ثقافات أخرى تقع خارج حدود الشرق الاوسط.

ذاك أن لحن أغنية "كانوا يا حبيبي" لفيروز، هو في الأصل لحن لأغنية الجيش الأحمر السوفياتي الشهيرة Polyushko Pole التي كتب كلماتها فيكتور غوسيف ولحنها ليف كينيبر.

أغاني المقاومة

لم تقتصر استعارة هذا اللحن على الرحابنة فقط، بل غنته، على سبيل المثال لا الحصر، المغنية الإيطالية ميلفا Milva في أغنيتها الشهيرة Lungo La Strada، وهي واحدة من الأغاني التي يستعيد فيها الإيطاليون أيام مقاومتهم للفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى استحضارهم إياها في المناسبات والتجمعات والمظاهرات المناهضة للتطرف والنزعات العنصرية في البلاد، مثل أغاني أخرى كثيرة لميلفا وغيرها.

درجت العادة أن يستلهم بعض المغنين من بلدان مختلفة في العالم، لحناً لأغنية أو لنشيد، وهو ما لا تنقص العالم العربي أمثلة كثيرة عنه. لكن، ربما شكلت فيروز المثال الأبرز على ذلك في ربوعنا

فهذه المغنية المنحازة والمتبنية لأفكار اليسار الإيطالي، والقريبة من الحزب الشيوعي أيام إينريكو بيرلنغوير، باتت منذ عقود واحدةً من رموز "الأغنية الثورية" في البلاد، لا يكاد يخلو مهرجان أو احتفال بذكرى للتحرير والانتصار على الفاشية، أو مظاهرة لناشطين منحازين إلى اللاجئين والمهاجرين في إيطاليا، من أغانٍ لها.

لم تَقسُر ميلفا حياتها وتغلق على نفسها السدادة الفلينية لتقيم في زجاجة الأغنية "الملتزمة"، بل تراوحت أغانيها بين الديسكو على ما هو الحال مع أغنية Marinero والكثير الكثير أيضاً من الأغاني الشعبية والعاطفية، بالإضافة إلى ألبومها الأشهر الذي غنت فيه أغاني للفرنسية أديث بياف، وحمل عنوان Canzoni Di Edith Piaf. وهي ميزة رافقت كثيرين، بمن فيهم فيروز نفسها، عندما غنت للقدس وشادي وصنين والعرزال ومكة وريما وبياع الخواتم والـ "بيت زغير بكندا"، إلا أن ميلفا أعطتها مسحة من فرادة مستوحاة من شخصيتها، بالإضافة إلى الحيز الأوروبي الذي يفرض نفسه أيضاً على الفرد المنخرط في السياسة والشأن العام، وفي الغناء أو الرقص أو كرة القدم أو كتابة الشعر.

فَميلفا، كـ "فرد"، هي ابنة التجربة الديمقراطية الوليدة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تأثرت، كيسارية، بالشيوعية الإيطالية المتمايزة عن شيوعيات حديدية كثيرة في هذا العالم، وخصوصاً السوفياتية. هذا السياق الديمقراطي الأوروبي يعطي لأغانيها، بما فيها الأكثر راديكالية، دلالات أكبر على التنوع في الحياة وعلى تعدد الأمزجة والمواقف في النظر إليها.

إلى ذلك، تبدو أغانيها ابنة زمن وأحداث محددة وواقعية حدثت بالفعل، فأغنيتها الشهيرة عن المذبحة التي ارتكبتها قوات الأمن الإيطالية في يوليو 1960، والمعروفة بمجزرة ريجيو إيميليا، وسقط فيها عدد من العمال، ضمن احتجاجات عمت مدناً إيطالية كثيرة في حينه، تبقى اليوم تراثاً سياسياً ونقابياً وعمالياً انتهى زمنه مع انتهاء زمن إطلاق النار على المتظاهرين في البلاد منذ عقود، بالإضافة إلى أن غناءها اليوم في المظاهرات والتجمعات النقابية والعمالية الإيطالية، وخصوصاً في الأول من أيار، يتم تحت نظر وحماية قوات الشرطة والأمن الإيطاليتين.

لا يبدو التغنّي بلبنان في السبعينيات والثمانينيات أملاً بلبنان أفضل، وكذلك الأمر مع دمشق، بل غناء منفصل عن الواقع أو "غناء لا تاريخي" إذا استعرنا تعبير حازم صاغية، فـ "مينا الحبايب" في بيروت فُجّر في 4 آب 2020، ولم يعد الموعد مع الشام مرهوناً بـ "آن الكرم يعتصر"، وهلمجرا

هذه ليست تفاصيل، إذا ما استكملنا المقاربة مع "بعض" أغاني فيروز التي تتحدث في أحيان كثيرة عن حالات عامة بلا أسماء، يمكن أن يرددها كثيرون من مدمني أغاني "الست"، العشاق والكتاب والعمال وطلاب المدارس، كما قد يرددها، وبإعجاب أيضاً، السجّانون وضباط المخابرات العربية، بينما من المستحيل، على ما نفترض، أن يعجب أحد مؤيدي ترامب أو بوتين أو مارين لوبان بأغنية لميلفا.

لم تكن فيروز ملتزمة بخط سياسي على ما هو الحال مع ميلفا، وهذا أمر قد يبدو محموداً لوهلة، إلا أن التزامها بــ "اللا خط" جعل أغانيها خليطاً وكوكتيلاً غريباً، يندمج فيه الحب مع السياسة مع الثورة، لكن بشكل مختلف عن حالة ميلفا، وصولاً إلى غنائها الزجل مع نصري شمس الدين تارة، وغنائها كلمات للزجّال اللبناني زين شعيب تارة أخرى.

ولعل الزجل هو الثيمة الأبرز من بين ثيمات كثيرة وسَمت عدداً من أغانيها، خصوصاً عندما يتم التغني بالأوطان وميزاتها المفترضة والمتخيلة في أزمنة الاحتلالات والحروب الأهلية والاغتيالات والتفجيرات وتغوّل الأنظمة الاستبدادية. وعليه، لا يبدو التغنّي بلبنان في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أملاً بلبنان أفضل، وكذلك الأمر مع دمشق، بل غناء منفصل عن الواقع أو "غناء لا تاريخي" إذا استعرنا تعبير حازم صاغية، وها هي المآلات اليوم تؤكد هذه الوجهة، فـ "مينا الحبايب" في بيروت فُجّر في 4 آب 2020، ولم يعد الموعد مع الشام مرهوناً بـ "آن الكرم يعتصر"، وهلمجرا.

غناء بلا زمان ولا مكان

لهذا كله، ولغيره أيضاً، يبدو الغناء الذي لا زمان ولا مكان له محددان، أشبه بكتابة المقالات عن "الوطنية السورية" و"الشعب الواحد"، وبالحديث المكرور والمُمل عن الحب والوطن والشعوب والدين، عندما يغنى في مناطق وبلدان لا يزال الكلام والغناء والكتابة بالميجانا والعتابا عناوين لها، على عكس دول ومجتمعات لها أيضاً قضاياها وشهداؤها المعروفة أسماؤهم والمغناة، واجترحت أشكالاً حديثة للفن والاجتماع والسياسة.

هذا ليس للقول إن كاتب هذه السطور مولَعٌ بأغاني ميلفا كلها، أو لا يستمع إلى بعض أغاني فيروز، غير أنها إشارة إلى رسوخ التقديس والتأليه في تلك المنطقة العربية من العالم، والمثابرة على تذويب البعض داخل الكل، وجعل السياسة والثقافة والتنوع مسائل مرذولة لصالح أقانيم وفنانين غالباً ما يتم تناولهم من زاوية مديح ترفعهم عن الواقع وما يحصل فيه دائماً، يحلقون في أحايين كثيرة في سماوات من الكلام الضبابي الذي لا معنى له.

خلاصة القول: بيرلسكوني ليس "سماحة السيد"، وميلفا ليست "سماحة الست"، وإيطاليا "لسوء حظها" على ما يرى عابدو الأوطان ووحدة التراب العربي وشاتمو الغرب، ليست لبنان أو سوريا

واستطراداً، فإن أغنية فيروزية من قبيل "وحدن بيبقوا" والمغناة أصلاً للفدائيين بكلمات الشاعر طلال حيدر، لا تشبه أغنية ميلفا عن مذبحة ريجيو إميليا ذات المعالم والأسماء الواضحة، بل يمكن تردادها بشكل لا يحضر فيه هؤلاء الفدائيون في ذهن من يستمع إلى الأغنية، وفي هذا قرينة إضافية على الأغنية "حمالة الأوجه". أضف أن غناءها للمقاومين في الأغنية المذكورة آنفاً وبشكل لا يحتمل التعيين، يبدو مخالفاً لذهابها في تسمية أمين عام "حزب الله" بالاسم الصريح، عندما أعلنت وعلى لسان ابنها زياد، "محبتها بجنون" لحسن نصر الله، أو لـ "سماحة السيد".

ومن خلال هذه "المحبة بجنون"، هبطت فيروز من الميتافيزيك إلى عالم الأرض، مضيفةً عاملاً آخر تُمكن من خلاله قراءة وتفسير وفهم سياقات الكثير من أغانيها للبلاد والعواصم، علماً أن طهران ما تزال مستبعدة، أقله حتى الآن.

على الجهة المقابلة، أي في الغرب "الإمبريالي والغاشم والمتآمر على أمتنا وتاريخنا وحضارتنا العظيمة" و... إلى آخر المعزوفة، وجهت ميلفا كلمات قاسية إلى رئيس الحكومة الأسبق، سيلفيو بيرلسكوني، المتهم بالفساد وتبييض الأموال والتحرش بالنساء، وذلك عبر حوار معها عبر التلفزيون الألماني سبق رحيلها عام 2021.

وخلاصة القول، إن بيرلسكوني ليس "سماحة السيد"، وميلفا ليست "سماحة الست"، وإيطاليا "لسوء حظها" على ما يرى عابدو الأوطان ووحدة التراب العربي وشاتمو الغرب، ليست لبنان أو سوريا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard