في حديث شيّق مع زملاء العمل عن عادات المصريين ذات الكلفة المادية الباهظة، تطرقنا إلى "حفلات الزفاف" وما تنفقه الأسر، حتى البسيطة منها، من أموال قد تغرقهم في الديون لسنوات.
عادات يتمسكون بها من أجل التباهي في بعض الأحيان، أو للسير فيما سار عليه الآباء.
تساءلنا: كيف يمكن التمسّك بالمغالاة في ظل المعاناة المالية الحالية، التي لن ترحم من يتشبث بتضييق الخناق حول عنقه، ولن تترك المبالغين إلا هَلْكى؟
ورغم إجماعنا الأخلاقي كمصريين على نبذ التباهي نظرياً، والتسابق بين الناس في إظهار الترف بحفلات الزفاف، فإننا لا ننكر ما تحمله تلك العادات من مظاهر فريدة، تميز بين الحضر والريف، بين الصعيد والبدو، إذ لكل ثقافة سماتها، ذات الدلالات الشيّقة، فيما يخص حفلات الزفاف.
فطور العريس
أخبرنا صديقنا القادم من إحدى قرى مدينة المنوفية عن عادة فطور العريس، تحمل النسوة في ظهيرة ما بعد ليلة الدخلة، أو ما يطلق عليها "الصباحية"، صواني بها خيرات الأرض والبلاد، تمتلئ كل واحدة عن آخرها بالزبد والفطائر المُعدّة في أفران الطين الخاصة بالخبيز.
منافسة نسائية فيما تحضره كل واحدة للعرسان في يومهما الأول إلى بيت الزوجية الجديد.
يقول: "واحدة تأتي بالبط والإوز، وأخرى بالفطائر المخبوزة، وثالثة بالمحاشي، لتغرق كل صينية بما لذّ وطاب".
بحثت على الإنترنت علّي أجد أصلاً لهذه العادة، فطالعني مقال يُرجع جذور تلك العادة إلى السودان، حيث طبيعة المجتمعات العائلية. تقول أمل عثمان، الباحثة في الفلكلور بمعهد الدراسات الأفريقية والشعبية بجامعة الخرطوم، لموقع النيلين المتخصص في الشأن السوداني: "أصل هذا الطقس (عشاء العريس)، والذي كان يُقدّم في شمال البلاد بعد حفل الزفاف خصيصاً للعريس وأصحابه، مكوّنه الأساسي حمام أو دجاج، ويكون من باب إظهار الكرم، والترحيب بالعريس وصحبه".
"تحورت بعد ذلك إلى فطور بسيط يقدم من أم العروس لأم العريس، وأيضاً لإظهار الاستطاعة المادية والقدرة على الإكرام، بالإضافة إلى الدور المهم الذي يلعبه هذا الطقس في الترابط بين الأسرتين من باب (تهادوا تحابوا)".
التقط الحديث زميل آخر، أخبرنا كيف تبتلع الأفراح في بلدته ببني سويف في الصعيد ميزانيات ضخمة، تحت مظلة التمسّك بالعادات والتقاليد، حتى وإن خلّفت ورائها ديوناً وأعباء مادية.
تحتفظ العائلات الكبيرة في قرى الصعيد بدفتر تدوّن فيه المبالغ التي دفعتها في حفلات الزفاف، وجاملت بها أهل العريس أو العروس، هذا يذكرهم بما لديهم من مستحقات، ترد لهم في حفلات زفاف تخصّهم، صديقي الثلاثيني يقول: "الأمر أشبه بجمعية دائرة... اليوم دفعت لك، غداً عليك الدفع لي".
تذكرنا سوياً الممثل خالد الصاوي، ودوره المهم في فيلم "الفرح" إنتاج 2005، حين عمل "زينهم" زفافاً وهمياً، من أجل تجميع مبلغ مالي يعينه على شراء ميكروباص، وفي سبيل ذلك استعان بالدفتر المدون فيه ما سبق وأنفقه في أفراح أخرى لمجاملة أصحابه وجيرانه.
الفكرة نفسها، تم عرضها بشكل كوميدي في فيلم "اللمبي" 2002، الذي ظل بطله الفنان محمد سعد، يبحث عن "الكراسة الصفرا"، لتعينه على تذكر مجاملاته، التي حان وقت استردادها قبل زفافه.
الإسراف مرفوض دينياً
يتشابه الدينان المسيحي والإسلامي في رفضهما لمظاهر البذخ والصرف الزائد عن الحد، إلا أنه قلما تنتصر القيم الدينية على حساب الأعراف الاجتماعية.
طالما حذّرت المسيحية من محبة المال الزائدة حد الاتكال عليه، أو اعتباره سيداً ومحركاً للضمائر والمواقف.
في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تيموثاوس الإصحاح السادس، يوصي الأغنياء قائلاً: "وصِّ أغنياء هذا الزمان ألا يتكبروا، ولا يتكلوا على الغنى غير الثابت، بل على الله يمنحنا كل شيء بوفرة لنتمتع به".
والسيد المسيح نفسه قال في إنجيل متى: "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال".
هذه الصورة انطبعت على عظات آباء الكنيسة، الذين طالما حذروا من الانغماس في مظاهر البذخ والتباهي بامتلاك المال.
كانت أجسام الراقصات تقريباً عارية، يتثنين، ويتلوّين، وينظرن إلى الهوانم بتوسل، فيلصقن الذهب في وجوههن، حتى لا يعود في وجوههن مكان خال… من "أصول" البذخ في الأفراح عند المصريين، حكاية الأميرة جويدان
أما في الإسلام فإن التبذير أو الإسراف من الأمور المرفوضة، وكانت قد حذرت الصفحة الرسمية لدار الإفتاء المصرية من المبالغة بمظاهر الإسراف، في إجابتها على سؤال: "ما حكم الإسراف والتبذير في الطعام في الشريعة الإسلامية؟"، قالت: "الإسراف في الطعام والشراب من التبذير؛ لما فيه من تضييع لنعم الله تعالى التي يجب أن تُشكر ولا تُكفر، والله تعالى يقول: وآت ذا القربى حقه، والمسكين وابن السبيل، ولا تبذر تبذيراً، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين".
لكن حفلات الزفاف، بجميع المحافظات، تخبرنا بما يناقض هذه النظرة الحذرة أو المتحفظة تجاه المال في الدينين.
صديقتي القاهرية، الحاضرة في جلسة النميمة تلك، أخبرتنا عن كم الأسر التي عانت من تجهيز الفتيات بأجهزة وأدوات مبالغ في أعدادها، تقول: "أعرف سيدة أربعينية كانت مديونة لطوب الأرض، بسبب تجهيز ابنتها بأشياء لا أعرف كم تحتاج من العمر حتى تستهلكها، مثل 30 فوطة، ونفس العدد من الملاءات، ومفروشات السرائر، هذا غير الأواني ومستلزمات المطابخ التي لا تنتهي".
وتظن صديقتي أنها قناعة راسخة لأجل منافسة بنات العائلة بألا تتميز إحداهن في جهازها عن الأخرى.
البذخ ميراث قديم
على ما يبدو أن التباهي بإمكانيات كل أسرة في حفلات الزفاف هو ميراث من عصور ماضية، أشارت إليه الأميرة، التركية الأصل، جويدان، زوجة الخديوي عباس حلمي الثاني، آخر الخديويين المصريين، عند حضورها لإحدى حفلات الزفاف، إذ عبرت عن دهشة بالغة حيال الطقوس الممتدة لثلاثة أيام، والأجواء الصاخبة المحتضنة للاحتفالات، والهدايا الباذخة المقدمة للعروس.
كتبت في "مذكرات الأميرة جويدان"، الذي كُتب باللغة الألمانية، وتُرجم إلى العربية عبر السلسلة الشهرية الصادرة عن دار الهلال، في العدد 356 عام 1980:
"لا توجد أمة في العالم تتفنّن في إقامة أفراحها كما يفعل المصريون، فإنهم وحدهم لا يدخرون شيئاً من أسباب السرور والانشراح، إلا أدخلوه في أفراحهم مهما كلفهم هذا، بل العائلات المتوسطة والفقيرة أيضاً تنفق على الأفراح نفقات تربو كثيراً على ما تسمح به ثرواتها، وكثيراً ما يكون الزواج سبباً في إفلاس بعض العائلات وضياع مالها، وأكثر النفقات تكون في ليلة الخطبة في بيت الزوجة، وليلة الزفاف في بيت الزوج".
الأميرة جويدان، راحت تصف حفلة الزفاف مشدوهة من مظاهر السرور الكثيرة، تقول: "كانت العروس ابنة لأحد الباشوات، تجاوز سنها الثالثة عشرة، وكانت مصابة بالتهاب رئوي شديد، ولكن الطبيب قرر أنه لا خطر يستدعي تأخير موعد الزفاف، فضلاً عن أن التأخير في حد ذاته يكبّد خسارة كبيرة، إذ تُستدعى في ليلة الزفاف عدة أجواق تمثيلية، ومطربون، وراقصات".
"كانت أسباب السرور بالغة حداً لا يتصوره العقل، فالمصري في إقامة أفراحه يأبى أن يستمع لصوت العقل، ويتبخر تفكيره تحت أشعة الشمس الحارة، ويستسلم للأمل، فربما أنتج القطن محصولاً جيداً يعوض عليه كل هذه النفقات، ومصر بلد العجائب كل شيء فيه جاهز".
"المصري في إقامة أفراحه يأبى أن يستمع لصوت العقل، ويتبخر تفكيره تحت أشعة الشمس الحارة، ويستسلم للأمل، فربما أنتج القطن محصولاً جيداً يعوض عليه كل هذه النفقات"... من كتابات الأميرة جويدان في مذكراتها
أكملت الأميرة استعداداتها عند الساعة الثامنة، أتمت الوصيفات زينتها، وثبتت اليشمك (حجاب تركي) في "الهرطوس"، وركبت العربة التي ستقلها للحفل، ظلت تفكر في حال الصغيرة التي لن تحظى حياتها باختلافات تذكر سوى تبدل وجوه الخدم من بيت أبيها إلى زوجها، فمثلها يصعب أن تكسر أغلال القيود المفروضة عليها، حتى بعد الزواج.
شتتت أضواء العربة تفكيرها في الفتاة، وانتبهت الى الموسيقى، ثم تمهلت الخيل في سيرها ليتسنى للقوم ذبح الذبائح أمام العربة إكراما لحضور الأميرة.
وقفت الأميرة ووصيفاتها أمام باب الحريم، استقبلها نسوة وجواري نزعن عنها المعطف، تقول: "لم أستطع، رغم محاولاتي، منع النساء من تقبيل ثوبي، وسرت بين مظاهر الترحيب والسلام الى الصالون الذي أعدوا لي فيه مقعداً مغطى بالكشمير، و جلست باقي السيدات على وسائد من حرير".
كانت القهوة حاضرة حتى في طقوس الأفراح، حملها إلى الأميرة جويدان "قهوجي كلفا" على صينية مستديرة، وصبتها في فناجين أطباقها مرصعة، وفي فنجان تحمله جارية إلى الهوانم، وهي خافضة الرأس.
تقول جويدان: "اتجهت كل الأنظار لي لأن التقاليد تقضي ببدء شرب القهوة لتتبعني باقي النسوة".
وتبع هذا الفنجان من القهوة قهوات أخرى، لأن المصريين كان من عاداتهم أنهم يديرون القهوة على الجميع، كلما جاء ضيف جديد.
الذهب والراقصات
وتحكي الأميرة جويدان أيضاً في مذكراتها عن عروس الزفاف: "كانت العروس ترتدي ثوباً من الأطلس الموشى بالذهب، وعلى رأسها تاج مرصع بالجواهر، يتدلى من تحته نقاب، يشمل كل جسمها، وفيه 4 أحجار كريمة عند الجبهة والذقن والخدين، وفي أذنيها قرطان من البرلنت، وفي جيدها ويديها عقود وأساور لا عدد لها".
أما الهدايا المقدمة للعروس، فشملت "سريراً فاخراً قوائمه مرصعة بالأحجار الكريمة، وكان هذا السرير يستعمل فقط في ليلة العرس، ثم يحفظ كتذكار".
مظاهر الترف لا تقتصر فقط على الهدايا المقدمة للعروس تجهيزها، بل شكل الحفل نفسه، وما يحيط به من فرق واحتفالات، تقول الأميرة جويدان: "كانت أجسام الراقصات تقريباً عارية، وجعلن يتثنين ويتلوّين على أنغام الموسيقى، ثم يقتربن برؤوسهن من الزائرات، وينظرن إليهن بتوسّل، فكانت الهوانم يلصقن الذهب في وجوه الراقصات، فلما لم يعد في وجوههن مكان خال، أخذت قبضات الذهب تتناثر عليهن، وهن يلتقطنه بين صيحات الفرح والسرور، وبعد ذلك عدنا إلى الشرفات، لنرى ما يحدث في السلاملك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 12 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت