في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري (القرن الثامن عشر من التقويم الميلادي) وصل إلى القاهرة رجل مغربي عرف باسم الأسطى محمد، واستقر في جوار الأزهر ممارساً حرفة الحلاقة وما يرتبط بها من أعمال الطب الشعبي. عرف الأسطى محمد بين أبناء حارات الأزهر بمهارة الحرفة، وكونه رجل من رجال البر والخير.
الأسطى محمد الحلاق، خلدته الوثائق المصرية بوصفه واحد من أبرز من اوقفوا ممتلكات لهم للإنفاق على تعليم وإعاشة طلاب الجامع الأزهر، وبالتحديد؛ الطلاب المنتسبين إلى رواق المغاربة.
يستعيد كتاب "رواق المغاربة وأوقافه بالجامع الأزهر" الصادر حديثاً في القاهرة للباحث الدكتور إبراهيم البيومي غانم سيرة الأسطى محمد، وغيره من كبار المحسنين الذين كان لهم الفضل في استمرار ذلك الرواق، الذي لعب دوراً في استيعاب أبناء الأسر التي وصلت القاهرة في نهاية الحروب الأيبيرية، تلك الحروب التي أنهى الأوروبيون بموجبها حكم المسلمين لأراضي شبه الجزيرة الأيبيرية التي عرفت باسم الأندلس.
يحكي الباحث في كتابه المأخوذ عن وثائق مودعة في وزارة الأوقاف المصرية، أن الأسطى محمد عاش مع أسرته في منطقة الأشرفية القريبة من الأزهر، و"رغم أهمية أوقافه التي خصصها لرواق المغاربة، فإن المصادر التاريخية لا تذكر الكثير عن تفاصيل حياته. ولولا الوثائق المودعة بوزارة الأوقاف المصرية، لما كنا قد سمعنا بالرجل الذي خصص 3 وقفيات للإنفاق على رواق المغاربة، ضمت إحداها 9 عقارات".
تستعيد الدراسة سيرة الأسطى محمد، وغيره من كبار المحسنين الذين كان لهم الفضل في استمرار رواق المغاربة، الذي لعب دوراً في استيعاب أبناء الأسر التي وصلت القاهرة في نهاية الحروب الأيبيرية التي أنهت حكم المسلمين لـ"الأندلس"
قصة الأسطى محمد، تُظهر أن الرواق كان موضع اهتمام كبير من المغاربة المقيمين في مصر منذ وقتٍ مبكر، إذ حرصوا على كفالة طلَّابه. وتنوعت خلفيات هؤلاء الموسرين من بين حرفيين ونبلاء، فكان منهم أمير تونسي مثل محمد بك التونسي، وعدد من التجار، كما أسهمت نساء المغاربة أيضاً بوقفيات لصالح طلّاب العلم من أبناء جلدتهن.
وكانت قوة رواق المغاربة سبباً في قرار نابليون بونابرت في العام 1798، إنهاء الوجود المغاربي في مصر، بعدما أدرك خطورته على بقاء قواته في البلاد، حيث انضم طلاب الرواق إلى المصريين في مقاومة "الفرنسيس". وفي 29 مارس/ آذار 1803، ألقى الفرنسيون القبض على شيخ الرواق، وهي الواقعة التي أوردها الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". لكن الضربة القاصمة للفرنسيين، جاءت من رواق آخر بالأزهر، وهو رواق الشوام، الذي تمكن أحد طلبته، السوري سليمان الحلبي، من اغتيال كليبر، العسكري الذي تولى قيادة الحملة بعد عودة صديقه نابليون إلى فرنسا.
أروقة الأزهر
كان من بين التقاليد العلمية للأزهر، تخصيص "رواق" لأبناء البلدان الوافدين إلى طلب العلم فيه، ليكونوا مع أبناء جلدتهم وحاملي ثقافتهم، كلى أن يدرس جميع الطلاب في كافة الأروقة مناهج المذاهب والفِرَق وعلوم الكلام إلى جانب علوم الرياضيات والبلاغة والطب والقانون غيرها من العلوم الوضعية. ووفر الأزهر من خلال الوقفيات التي يخصصها المحسنون أماكن للإقامة بالمجان طوال سنوات دراستهم، وكان يطلق على هؤلاء الطلاب لفظ " المجاورين". ومن بين هذه الأروقة رواق الأتراك، ورواق الحرمين – للوافدين من الحجاز- ورواق "اليمنية" ورواق الأكراد الذي تم تخصيصه للطلبة الأكراد السنة، إلى جانب رواق اليهود الذي كان يتلقى فيه اليهود المصريين والوافدين علوم القراءة والكتابة والرياضيات والطب والبلاغة والقانون.
أما رواق البغدادية "أبناء بغداد"، فكان يستقبل الوافدين من العراق والمتاطق المعروفة الآن بالبحرين والكويت، ورواق السليمانية، وكان يضم الطلبة القادمين من أفغانستان الحالية وما حولها من مناطق شرق إيران، علاوة على هذا كان هناك أيضاً رواق الهنود ورواق "الجاوة" المخصص لطلاب مناطق إندونيسيا والفلبين وماليزيا الحالية، بالإضافة إلى رواق "السنِّارية" وكان يستقبل القادمين من إقليم سنار بالسودان.
أما رواق " الدكارنة" فكان لطلاب دارفور، وكان هناك أيضا رواق "دكارنة صليح" للوافدين من تشاد ووسط إفريقيا، ورواق "الجبرت" لأهل الحبشة، ورواق "البرناوية" للوافدين من دول غرب إفريقيا. وقد تم إنشاء أروقة أخرى في القرن العشرين مثل رواقي الصين وجنوب أفريقيا.
كانت قوة رواق المغاربة سبباً في قرار نابليون بونابرت في العام 1798، إنهاء الوجود المغاربي في مصر، بعدما أدرك خطورته على بقاء قواته في البلاد، حيث انضم طلاب الرواق إلى المصريين في مقاومة "الفرنسيس"
وبالإضافة للأروقة الخاصة بالوافدين كان هناك أروقة للمصريين هى أروقة الصعايدة والشراقوة والبحاروة والفيومية ورواق "زاوية العميان" الذى خصص للطلاب المكفوفين. وهناك رواق ابن معمر وهو من أشهر أروقة الأزهر، لأنه لم يكن مخصصاً لأهل منطقة معينة، وكان هناك أروقة خاصة بمذاهب مثل الأحناف والحنابلة.
حكاية رواق المغاربة
يقع رواق المغاربة بجوار رواقي الأتراك والسِنَّارية بالجهة الغربية من صحن الجامع الأزهر، على يمين الداخل إليه من باب "المزينين"، وهو الباب الرئيسي للأزهر، ومازالت بعض آثاره قائمة حتى اليوم.
ويقدم كتاب "تاريخ الجامع الأزهر" لعبدالله عنان وصف للرواق فيقول: "يحتوي رواق المغاربة على 15 بائكة" أي مجموعة من الأعمدة (البواكي) المتتابعة. و"هي قائمة على أعمدة من رخام أبيض. وكانت مساحته تقدر بـ240 متر تقريباً. وداخل الرواق باب على الجدار الغربي، ينفذ إلى غرف علوية، حيث كان بعض الطلبة يقيمون فيها. كما ينفذ أيضاً إلى مخزنٍ كبيرٍ للكتب ‘كتبخانة’".
ولم يكن الرواق خاصاً بطلاب المملكة المغربية وأبناء وأحفاد الفارين من الأندلس فقط، وإنما كان يضم طلاباً من ليبيا وتونس والجزائر، إلا أن أكثر طلابه كانوا من الليبيين، يليهم المغاربة ثم التونسيين، وأخيراً الجزائريين. ولم يكن بينهم موريتانيين، لوجود رواق خاص بهم "رواق الشنقيط".
ويعد رواق المغاربة واحداً من أقدم أروقة الأزهر، حيث نشأ في منتصف القرن الثامن الهجري أثناء فترة حكم الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، على يد وزيره سعد الدين بشير طبقاً لما يؤكده المغربي عبد الهادي التازي في كتابه "توظيف الوقف لخدمة السياسة الخارجية في المغرب"، ومما يؤكد على جذور الرواق الضاربة في القِدَم؛ أن السلطان الأشرف قايتباي جدده في سنة 881 هجرية – 1476 ميلادية، وهو ما يعني أنه في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، كان قد مر على إنشائه زمن طويل، استدعى تجديده. وهو ما يورده على باشا مبارك في كتابه "الخطط التوفيقية"، حيث يقول عن الرواق: "أمر بتجديده مولانا السلطان قايتباي على يد الخواجا محمود غفر الله لهما".
كما يحتفظ باب الرواق في أعلاه بنقش يشير إلى ترميمه في عهد الخديو عباس حلمي الثاني، وجاء نصه التالي "جددت هذه الدرابزينات على أصلها في عصر خديوي مصر عباس حلمي الثاني سنة 1310 هجرية".
مما يؤكد على جذور الرواق الضاربة في القِدَم؛ أن السلطان الأشرف قايتباي جدده في سنة 881 هجرية – 1476 ميلادية، وهو ما يعني أنه في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، كان قد مر على إنشائه زمن طويل، استدعى تجديده
الوجود المغربي
الدكتور إبراهيم البيومي غانم يقول في كتابه: "تؤرخ البيانات التي تتضمنها الوثائق الموجودة بمصر لممتلكات الرواق من وقفيات الأسر المغاربية، التي حطت رحالها في مصر خاصة مع بدايات العصر العثماني [تزامن مع سقوط غرناطة وانتهاء الحكم الإٍلامي في أيبريا]، حيث شهدت القاهرة وفود الكثير من العائلات التجارية من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، الذين اتجهوا للشرق بعد سقوط الأندلس. واستقر المغاربة في أحياء الأزهر وطولون والدرب الأحمر والأزبكية والغورية والمغربلين".
وكان جامع الزيتونة الذي تأسس في تونس في 116 هـ، وجامع القرويين الذي تأسس بعد ذلك في مدينة فاس في 245 هجرية، قبل الأزهر قبلتين للطلاب المغاربة، لكنهم وفدوا إلى الأزهر بعد إنشائه في 359 هجرية، وهو ما يشير إليه كتاب "المسجد ورسالته في الإسلام" لحوري ياسين، حيث يقول "لعب مسجد الزيتونة دوراً في نشر العلم بين مغاربة وأندلسيين نازحين منذ عام 120 هجرياً". والواضح أن الزيادة المستمرة في أعداد طلاب المغرب في الأزهر كانت سبباً في إنشاء رواق خاص لهم في وقت لاحق، مع بدايات ظهور فكرة الأروقة.
ويسجل التاريخ أن هناك عائلات مغربية مثل عائلة "الشرايبي"، عرفت بكثرة الوقفيات التي خصصتها لرواق المغاربة طبقا لكتاب "تاريخ رواق المغاربة وأوقافه بالجامع الأزهر".
شيوخ الرواق
"طلاب الأروقة كانوا مقسمين إلى ثلاث طبقات، الأولى تضم الستين طالباً "المرتَّبين"، وهو لفظ كان يطلق على الطلاب الذين يقيمون إقامة مجانية كاملة، والطبقة الثانية تضم عشرين طالباً "متطوعين"، وكان لهم حق حضور الدروس بالرواق والحصول على بعض الجرايات اليومية، أما الطبقة الثالثة فكانت تضم "المنتظرين"، وهم طلاب كانوا ينتظرون خلو أماكن لهم.
ويوضح الباحث عبد العزيز الشناوي سبب ذلك في كتابه "الأزهر جامعاً وجامعة" إذ يقول: "كان في حكم الاستحالة أن يخصص مكان لإقامة كل طالب نظراً لكثرة عدد الطلبة في الأروقة، فكان يقيم في الرواق العدد الذي تسمح مساحته باستيعابه وفق ما تقرره إدارة الأزهر، والتزمت الأروقة بسياسة الباب المفتوح في قبول الطلاب".
ووفقا لدكتور البيومي غانم، كان للرواق إدارة، حيث نشأ نظام مشيخة الرواق، وكان شيخ الرواق يظل في منصبه بدءاً من اختياره إلى حين انتهائه من الدراسة في الأزهر، وغالباً يتم اختياره من بين أكبر المجاورين سناً. وأدت الخلافات ذات مرة على هذا الموقع إلى مقتل مجاور حاز منصب "شيخ رواق المغاربة"، في مشاجرة وقعت في سنة 1913 ميلادية بينه وبين معارضيه.
حتى حارة اليهود
كان رواق المغاربة من أكثر أروقة الأزهر ثراءً بسبب من الوقفيات الكثيرة التي امتدت حتى وصلت إلى حارة اليهود بالقاهرة، وهو ما يرصده كتاب "تاريخ رواق المغاربة"، حيث عرض لوثيقة توضح اتساع حجم الوقفيات، سجلت: "ورد في حجة شراء وقف محررة في 9 سبتمبر/ أيلول 1874، أن الموقوف عبارة عن قاعة مستجدة الإنشاء بحارة اليهود من إنشاء الذمِّي ‘يهود البايع’ لأصل ذلك، المشتمل على قاعة ومساكن علوية وسفلية ومنافع وحقوق. والبايع هو الخواجا عويش بيبي العجمي اليهودي".
ولكن جاءت الجمهورية في عام 1952، لتنهي وجود رواق المغاربة وغيره من الأروقة، ووضعت الدولة عبر وزارة الأوقاف يدها على كافة الوقفيات الإسلامية والمسيحية على اختلاف أغراضها، بموجب قوانين أصدرها مجلس قيادة ثورة يوليو/ تموز، لتغلق أبواب رواق المغاربة نهائياً وتنتهي معها قطعة من الأندلس بقيت قروناً في قلب القاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...