قصته مثيرة للتأمل ما بين الضحك والدموع، عبقري وعملاق من عمالقة الكوميديا العربية لا جدال، ورغم أن الرجل نفسه لم يصمد كثيراً تحت وطأة هذه الحياة القاسية التي أظهرت وجهها القبيح للغاية في وجهه، فإن موهبته المُغلَّفة بالذهب صمدت، عبرت الزمن وبقيت بعد عشرات السنين على رحيله، حية ومتوهجة ومؤثرة.
عبر عبد الفتاح القصري بموهبته الفذة من الستينيات إلى زمن "الميمز"، ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي.
في هذا اليوم الربيعي 15 نيسان/ إبريل من عام 1905، أطل الطفل عبد الفتاح القصري على الدنيا، من قلب القاهرة في الجمالية، وبالتأكيد لم تكن العائلة الثرية التي تعمل في تجارة الذهب تدرك أن كلمات وإيفهات وليدها الصغير ستعيش عمراً أطول منه بكثير، وسيمتد صداها إلى117 عاماً.
نستعيدها اليوم بعد أن تحول صاحبها إلى علامة بارزة في الكوميديا المصرية.
"يا صفايح الزبدة السايحة"
اعتمد عبد الفتاح القصري في صياغة مشروعه الفني على تلقائيته البسيطة، وفهمه لطبيعة دوره، لم يسع لأن يكون بطلاً، ولكنه نجح في حصد شعبية لم ينلها بعض الأبطال، لحسن انتقائه للأدوار.
والده كان رجلاً ثرياً، يعمل في تجارة الذهب، وقد درس بمدرسة "الفرير" الفرنسية، وهي إحدى أرقى مدارس القاهرة، والغريب أنه رغم تعليمه الراقي أُشيع عنه كثيراً أنه كان أمياً، وربما يعود ذلك إلى نجاحاته في أداء دور ابن البلد في المناطق الشعبية الفقيرة، هل يمكننا نسيان طريقة نطق "القصري" للإيفيه الشهير "يا صفايح الزبدة السايحة"؟!
جذبه الفن بعد أن أكمل تعليمه الأساسي، فذهب للالتحاق بفرقة عبد الرحمن رشدي، ثم انتقل منها إلى فرقة نجيب الريحاني، ثم إلى فرقة إسماعيل ياسين.
ومع ياسين عاش "القصري" محطاته الذهبية، وقد أغضب انشغاله الفني والده، وهدده بالحرمان من الميراث إذا لم يرجع عنه، فما كان منه إلا أن استمر في مشواره.
من ابن حميدو إلى سكر هانم
بقامته القصيرة، وشعره الأملس، والحول في إحدى العينين، عرفه الجمهور كوميدياً، يستخدم كل جسده في الأداء، صاحب نبرة الصوت المميزة، القادر على خطف "الشعبية" من البطل أحياناً، إلا أن "القصري" ظل حريصاً على البعد عن أدوار البطولة المطلقة، ستجده "المِعَلّم" ابن البلد غير المتعلم أحياناً.
لن تستطيع أن تنساه في فيلم "ابن حميدو" بجوار العمالقة، إسماعيل ياسين وأحمد رمزي وزينات صدقي وهند رستم، عندما تألق في شخصية "المعلم حنفي شيخ الصيادين"، المغلوب على أمره أمام زوجته المتنمّرة، و"كلمته اللي عمرها ما تنزل الأرض أبداً".
ذكريات الضحك في حياة عبد الفتاح القصري الفنية كانت بجوار رفيق عمره إسماعيل ياسين، سطع الكبيران معاً في الكثير من علامات الكوميديا السينمائية، منها "إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين"، و"ابن حميدو"، و"إسماعيل ياسين في متحف الشمع" وغيرها.
كما تألق القصري في نهاية مسيرته بفيلم "سكر هانم" مع عبد المنعم إبراهيم، كمال الشناوي، حسن فايق وسامية جمال، وقد تجاوز عدد أفلامه الـ60 فيلماً، آخرها "سكر هانم" عام 1960.
عينه الحولاء أوقعته في مشاكل كبيرة حتى فقد بصره أثناء تمثيله على المسرح، لتنهار حياته الفنية والمادية والنفسية، وتخونه زوجته، وبعدها مات... تعرف على حياة عبد الفتاح القصري
أما المسرح الذي خرج من رحابه، فقد كان له نصيب من مسيرته الفنية، بعد أن تنقل بين أبرز فرق القاهرة المسرحية في بداية مسيرته، ومن أبرز مسرحيات القصري "قسمتي"، "الدلوعة"، "30 يوم في السجن"، "حسن ومرقص"، "وكوهين".
ونجح القصري على خشبة المسرح وشاشة السينما في التأسيس لمدرسة كوميدية خاصة به، قائمة على العفوية والسلاسة في الأداء، متقمصاً دور الرجل الشعبي حتى الثمالة.
رغم نشأته الأرستقراطية فإنه أفضل من برع في شخصية "ابن البلد" بكل تفاصيلها، إلى الدرجة التي أثرت فيها على شخصيته، ليتقمص ملامحها في حياته اليومية، فنراه وقد خلع البدلة تدريجياً، وارتدى الجلباب، وأصبح من مرتادي المقاهي الشعبية.
كان "الحول" في عين القصري، من الأمور التي أرّقته بشدة، وأخرجت كوميدياه من الشاشة إلى حياته الواقعية، كتب مقالاً بقلمه عنونه بـ "عيني الحولاء" في مجلة الكواكب عدد 1 تموز/ يوليو 1949، وفيه: "لقد أوقعني هذا الحول فىي عدة مشاكل، كما جعلنى هدفاً لتريقة الزملاء… كنت أجلس فى الدرجة الأولى بالترام، وكانت تجلس أمامى سيدة حسناء بصحبة رجل فى ضخامة الفيل، وجلستُ متجهاً بوجهى إلى اليسار، وقد شغلت بالتفكير فى شؤونى ولم أنتبه إلى أن عينى اليمنى (الحولاء) قد وقفت على وجه السيدة، وبدا كأني أحدق فى وجهها بعين ثابتة، وإذا بي أرتد من تفكيري على صياح الرجل في وجهي، وهو يقول: يا أفندي خلّي عندك دم، إنت ماشفتش واحدة ست فى حياتك، بقى لك ساعة وزيادة وعينك منزلتش عن مراتي... مش تختشي شوية؟".
خارج مقعد البطولة
رغم أنه لم يسجل اسمه على صدارة الأفيش إلا أنه حظي بإعجاب الجمهور والنقاد معاً، يقول الناقد المصري محمد سيد عبد الرحيم، في حديثه لنا، إن الفنان الراحل كان أيقونة وعلامة حقيقية للكوميديا في السينما المصرية، وطبيعة موهبته الفطرية حجزت لصاحبها موقعاً متفرّداً، كما أن أصالة شخصيته الفنية ساعدت على بقاء أدواره في الذاكرة الجمعية للمصريين والعرب، وانتقالها من دائرة السينما وشاشات التلفزيون إلى منشورات فيسبوك وميمز مواقع التواصل الاجتماعي".
ويرى الناقد رامي المتولي أن القصري جاء معبراً عن موجة من الموهوبين، لعبوا أدواراً بالغة الأهمية في أفلام بارزة، من خارج مقاعد البطولة، مثل عبد المنعم إبراهيم وزينات صدقي، وهي نوعية المخضرمين أصحاب العيار الثقيل، الذين يصنعون الفارق من خارج مقعد البطولة، وهو ما تفتقده السينما المصرية حالياً.
الضحك للفن والبكاء للحياة
ومن صرخات الضحك إلى أوجاع الألم، جاءت المفارقات الصعبة في حياة القصري، في عز نجاحه بعد فيلم "سكر هانم"، وقف في صيف عام 1962 على خشبة المسرح، وأثناء انخراطه في الدور أظلمت الدنيا في وجهه، ليكتشف أنه فقد بصره، فظل يصرخ على خشبة المسرح، ولكن الجمهور ظن أن المشهد جزء من المسرحية، وأن الأمر حيلة محكمة من القصري، فزادت ضحكاتهم وتصفيقهم، لكن إسماعيل ياسين أدرك الأزمة، وأن ليس في الأمر خدعة، فأوقف العرض المسرحي فوراً، لتأتي الصدمة، لقد أفقد ارتفاع نسبة السكر القصري البصر، ولم يكن عمره قد تجاوز وقتها 57 عاماً.
القصري جاء معبراً عن موجة موهوبين، لعبوا أدواراً مهمة في أفلام سينمائية بارزة، من خارج مقاعد البطولة، مثل عبد المنعم إبراهيم وزينات صدقي، وهو ما تفتقده السينما المصرية حالياً
لم يصمد بعدها عبد الفتاح القصري كثيراً، تداعت حياته في أقل من عامين، ووجهت كل من الفنانة نجوى سالم، والفنانة ماري منيب، نداءً إلى السلطات لإنقاذه بعد تدهور أحواله المعيشية والصحية، فقررت نقابة الممثلين صرف إعانة عاجلة ومعاش شهري له، ونجحت نجوى سالم في أن تحصل له على شقة بالمساكن الشعبية في منطقة الشرابية، وتبرع يوسف السباعي بمبلغ 50 جنيهاً لشراء غرفة نوم له، ثم قادت الفنانة هند رستم حملة بين الفنانين للتبرع لعلاج زميلهم.
سيطر الاكتئاب على القصري لخيانة زوجته له، بسبب إصابته بالعمى، ليرحل في 8 آذار/ مارس 1964 بعد أن استبدت به نوبة السكر، وأصيب بغيبوبة مودعاً الدنيا من مستشفى المبرة.
وطوى الأرستقراطي ابن البلد آخر صفحاته، ودعه 6 أشخاص فقط إلى مثواه الأخير، شقيقته بهية والفنانة نجوى سالم وجيرانه "المنجد" وعسكري الشرطة والحلاق والخيّاط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون