حين تصل إلى قمة المنحنى الصاعد تبدأ عندها نقطة التجلي والسقوط معاً، تهبط فترى الأشياء القريبة التي كانت نقاطَ عُلو مررت بها منذ قليل، لكنك تراها بالمقلوب، ويصعب عليك أن ترى أول الرحلة، تلك التي بدأت من الأرض، إلا حينما يكتمل داخلك النسيان، المرادف النفسي للغياب، مثلما علّمتنا ثنائياتُ الشعر... عِشتَ إذنْ يا عُمر، ونسيتَ كلّ ما أبهجك في نهاية الرحلة وأبهجنا.
لقاء على باب الثورة
في الأيام الأولى لثورة يناير عام 2011 قابلتُه، كنا بفندق سميراميس في قلب القاهرة، نزلتُ من جناح نغطي من خلاله أحداث الثورة، ومن هناك أيضاً شاهدنا جمعة الغضب ومشهداً هوليودياً على كوبري قصر النيل المؤدي إلى ميدان التحرير، لمواجهة بين شعب غاضب ومدرّعات لا تعلم أن مصيرها بعد قليل سيكون الحرق والانقلاب على وجهها، وكان هو نازلاً من غرفته، ثوري يلاقي ثورياً في مصعد ينزل بهما إلى الأرض، أنا إلى بيتي وهو إلى حالة حصار عاشتها الفنادق والشوارع في مصر المسيّجة بحظر التجول.
لم أعرف عدد الثواني التي وُجدنا فيها معاً في المصعد، لم تُسعفني جرأتي ولا طموحي في أن أطلب منه صورة تذكارية، فلا الظرف المكاني مناسب ولا الظرف السياسي يقبل، لكن الذاكرة، ذلك الصندوق السحري، يسجل ما تعجز عنه الكاميرات، إنها لحظات تُغني عن حياة كاملة، لأنها كانت تعني أننا لا زلنا أحياء ونفضل ممارسة الوجود عن توثيقه بصورة يضمها ألبومنا الصحفي.
عمر الشريف: "عندما سألني الصحافيون عن رأيي فيما يحدث قلت لهم أنا مع الشعب"
كان يرتدي قميصاً أسود و"جاكيت" أسود وبنطلون أسود، وعيناه غير ثابتتين على أحد أو على شيء، يتوارى من القوم النازلين من سماء سميراميس، كل إلى وجهة ما محاصرة، الكل تساوى في الحصار، بدا كضيف على مكان لأول مرة، خرج من المصعد كمن يريد اللحاق بطائرة، سبقني وأنا المعتاد على الخطو بسرعة ترهق الكثيرين، ربما اكتسبتها من كثرة التأمل، لكنه فجأة بعد خروجه من المصعد اختفى... أين ذهب؟ تتبعت عدة مسارات محتملة له لكني فشلت في الوصول إلى وجهته. قررتُ أن أجلس في بهو الفندق ونسيت أني لا بد أن أذهب إلى النوم لأعود لتغطية زميلي الذي أنجبت امرأته ولم ير مولوده بعد، قلت لنفسي: سأبقى هنا لعله يظهر ثانية لأسأله عن رأيه فيما يحدث في الشارع؟ ... سؤال ساذج بالتأكيد، فالكل، ليس أنا وحدي، يعلم تماماً ما يحدث في الشارع، لكني تحت وطأة رؤية عمر الشريف قبلت منطقي المهترئ على أنه مدخل مناسب للكلام معه... أي كلام... مضت ساعة ولم يظهر من أي جهة... هل خرج إلى حظر التجول؟
ودار في رأسي سؤال هل سيسأله أحدهم: "بطاقتك!"، طبعا لا، لأن "وشه بطاقة" بالتعبير العامي المستعار، أما أنا فلو خرجت سأكون عرضة لسؤال كلاب السكك ورجال الشرطة والجيش والأمن البلدي المسمى بـ"اللجان الشعبية"، الذين كانوا حجة للبعض ليمارسوا البلطجة أو يحققوا جزءاً من أحلامهم الكبرى ليكونوا من العسس.
"كنت في فندق على النيل بيطل على ميدان التحرير.. فكنت بشوف الناس كأني وسطهم، لأن بلكونة غرفتي كان تحتها الميدان مباشرة، وكنت أجلس يوم 25 يناير وأرى الميدان ممتلئاً بالناس، فكنت أشاور لهم فشاهدوني، وطلعوا عندي مع الصحافة.. وعندما سألني الصحافيون عن رأيي فيما يحدث قلت لهم أنا مع الشعب، وكان ما زال مبارك في الحكم، وكانوا ممكن يحطوني وقتها في السجن، لكني قلتها من قلبي لأني طول عمري بحب الشعب المصري، فأنا لفيت العالم كله ولم أر ناس مثل الشعب المصري".
لم أكن لأحصل على تصريح أجمل أو أكثر صدقاً من هذا الذي حكاه "عمر" بعد لقائنا، إن جاز أن أسميه لقاء، بسنوات للتليفزيون المصري، لا بأس... تكفيني إذن 40 أو 50 ثانية معه في مصعد ينزل إلى الأرض، وسأنساه تماماً كما نسي هو مكاسبه وخسائره الكبرى... كان عاشقاً خاسراً لكل ما عشقه بالنسيان، وبالنسيان وحده لم تعد معه فاتن حمامة، حبه الأعمق.
قصصه العاطفية
لم تكن "فاتن" قصة الحب الأولى في حياة ميشيل شلهوب، الذي عرفناه باسم عمر الشريف، فكانت الأولى مع فتاة فرنسية تدعى يان لي مولر، تعرّف عليها في باريس خلال زيارته إلى هناك برفقة والدته، وكانت يان لي مور في زيارة سريعة إلى فرنسا، قادمة من مدينة الإسكندرية حيث تعيش، وهناك جمعته بها قصة حب كانت الأولى التي تخطب مشاعر الشاب، لكنها باءت بالفشل بعد رفض والده الزواج من فتاة بروتستانتية، في حين أنه كاثوليكي، بل زاد الأب في ابعاده عنها واصطحبه نحو القاهرة، لكن الأب لم يكن يعرف أن ابنه سيترك ديانته من أجل مسلمة سيتزوجها عام 1955.
حكايات كثيرة عن علاقات عاطفية عاشها عمر الشريف: الممثلة الأمريكية ديان ماكبين، الممثلة السويدية إنجريد برجمان، الحاصلة على جائزة الأوسكار في الستينيات، الممثلة الفرنسية أنوك أيميه، وجميلات أخريات، لكنه في النهاية فضّل أن يعيش وحيداً.
في ليلة رأس سنة سعيدة، التقى عمر الشريف بفتاة في إيطاليا، قضيا معاً ليلة رائعة، كانت نتيجتها ابناً، لم تخبره الفتاة في حينها بنيّتها المبيّتة لإنجاب طفل منه، وبعدها أرسلت له صورة ابنه، لكن عمر رفض الاعتراف به، وحين وصل الولد إلى سن 15 عاماً التقى به، لكن كانت كلمات الشريف له قاسية: "أي شيء تحتاجه مني، مال أو طعام، أنا على أتم الاستعداد، لكنني لا أستطيع أن أكون أباً لك، فأنا لم أتعرّف على والدتك سوى ليلة واحدة"، ولكن بعدما أصاب "الشريف" العجز اعترف بذلك الابن في حوار له مع قناة فضائية، وقال إنه امتنع قبل ذلك عن هذا الاعتراف بسبب رغبته في عدم إثارة غضب نجله طارق.
حكايات كثيرة عن قصص عاطفية عاشها عمر الشريف، بالإضافة إلى فاتن حمامة: الممثلة الأمريكية ديان ماكبين، الممثلة السويدية إنجريد برجمان، الممثلة الفرنسية أنوك أيميه، وجميلات أخريات... لكنه في النهاية فضّل أن يعيش وحيداً
حبه للقمار جعله يعتزل التمثيل ليكون مقيماً في أكبر صالات القمار بأوروبا. خسر عمر الشريف الكثير من ممتلكاته بسبب هذا الإدمان، ومنها قصر فخم يقع على الصخور البركانية في جزيرة "لانزاروتي" ووصل سعره إلى 4.5 مليون جينه إسترليني
المقامر لا يعرف الندم
عمر الشريف، وهو أشهر من أن يُعرّف، يعدّ أحد مدمني القمار، يلعب "بريدج"، التي تعلمها من والدته، التي كانت تتحدى فيها الملك فاروق، ملك مصر والسودان، وظلت تشاركه طاولة واحدة حتى رحيله عن مصر في أعقاب ثورة يوليو 1952. حب "عمر" للقمار جعله يعتزل التمثيل ليكون مقيماً في أكبر صالات القمار بأوروبا، خسر الكثير من ممتلكاته بسبب هذا الإدمان، ومنها قصر فخم يقع على الصخور البركانية في جزيرة "لانزاروتي" الإسبانية على مساحة 7000 متر مربع ووصل سعره إلى 4.5 مليون جينه إسترليني.
خسر قيمته لاضطراره الظهور في عدد من الأفلام المتواضعة بأدوار صغيرة، مستغلاً وسامته ليستطيع الحصول على المال الكافي ليستكمل لعبته الأثيرة داخل صالات القمار، لكن في نهاية المطاف خسر كل أمواله، واعتزل "الروليت" بعدما خسر 750 ألف جنيه إسترليني في ليلة واحدة، مما اضطره إلى الإقامة في غرفة فندقية بالعاصمة باريس بعدما باع كل شيء. خسارته كل أمواله غيّرت من سلوك الرجل الأنيق المهذب، وأدين بالاعتداء على شرطي في باريس، وعلى عامل ساحة انتظار السيارات في بيفرلي هيلز، ورغم كل ذلك لم يعرف الندم طريقاً إلى قلبه، بل يقول: "لو عدت إلى هنا مرة أخرى كنت سأعيش بالطريقة نفسها".
قبل فترة قصيرة من وفاة عمر الشريف في يوليو من عام 2015، أعلن ابنه "طارق"، الذي أنجبه من فاتن حمامة، إصابة والدة بمرض الزهايمر، ضمور خلايا المخ وتراجع الذاكرة، حيث أصبح ينسى تفاصيل حياته مثل وفاة "فاتن"، وصار النجم الذي ملأ الدنيا مغامرات غير مدرك لما أحدث الزمن في وعيه، صار ذكرى حاضر، صار ذكرى ثورة. ولعل ذاكرته كانت رحيمة به في أيامه الأخيرة، فمنحته إقامة دائمة في ماضيه المضيء وعزلته عن اللحظة الآنية بكل ما فيها من قسوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...