شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"لا أعتقد أن مخاطبة المثقفين مسألة ذات وزن"... يحيى الطاهر عبد الله وقصصه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 10 أبريل 202203:30 م


"جسم نحيل متقد، وعينان براقتان وكلام مهتاج. بالله ماذا نستطيع أن نفعل بهذا الشاب الذي لا يريد أن يفعل شيئاً سوى أن يكتب اسمه بالقصة؟"؛ هكذا وصف الكاتب الكبير يحيى حقي، القاص الجنوبي يحيى الطاهر عبدالله الذي تحل ذكرى وفاته وميلاده في هذا الشهر.

ينطوي وصف يحيى حقي على انبهار شديد بكتابة الطاهر عبد الله الذي كانت "قصته" آنذاك بمثابة فتح جديد شائق ومديد في مجال القصة القصيرة.

فثمة -في قصصه- لغة جديدة حادة، وكأنها مصنوعة من شمس الصعيد القاسية، وعوالم مغايرة، متأرجحة بين الواقعي والخرافي والحلمي، وإيقاعات موسيقية منبعثة من هذه اللغة، بل منبثقة من أعماق الشاب المسكونة بروح الصعيد؛ هذه الأرض المصرية ذات الخصوصية الفريدة، التي نهل منها صاحب "الطوق والإسورة"، وغرس بذورها في كل أعماله، لتصبح قصصه بتعبير الكاتب والقاص يوسف إدريس "أنغاماً صعيدية عالمية"، ويصبح هو منشد الصعيد الأول، بأحزانه وفقره وآلامه وأفراحه التي تأتي خلسة على هامش الحياة.


الدراما ستحيط بحياة القاص المتفرد، منذ بداية حياته؛ ولد في 30 نيسان/أبريل عام 1938، بقرية الكرنك مركز الأقصر آنذاك، في أسرة متواضعة، حيث كان أبوه شيخاً معمماً، يُدرس بإحدى المدارس الابتدائية بالقرية. ماتت أمه وهو طفل صغير بعد، فربته خالته التي أصبحت -استمراراً لأعراف موروثة- زوجة لأبيه.

حصل يحيى على دبلوم الزراعة المتوسطة، وعمل بوزارة الزراعة لفترة قصيرة، ثم هجرها. وفي عام 1959 سافر إلى محافظة قنا، ليلتقي بالشاعرين (عبد الرحمن الأبنودي، وأمل دنقل)، وكان ذلك اللقاء نقلةً جديدة في حياة الثلاثي، الذين سيقودون مع كتاب آخرين، مسيرة الإبداع المصري في فترة ملهمة وثرية، وكان كذلك بداية لرحلة طويلة وصداقة ممتدة بين الثلاثة.

"سألت نفسي: لمن أكتب؟ فوجدت أن الناس الذين أكتب عنهم، لا يقرأون فني، وهم منفيون ومغتربون ومستلبون، لذا أعتقد أن القول أفضل"

عن اللقاء الأول الذي جمعه بيحيى الطاهر عبد الله، يحكي الأبنودي في مقال نشر بجريدة "أخبار الأدب": "ذات صباح شتائي، دلف إلى مكتبي بمحكمة قنا الشرعية، شاب نحيل الجسم جداً ضعيف البنية، قلق النظرات كأن به مساً، وقال في عظمة: هل أنت عبدالرحمن الأبنودي؟ أنا يحيى الطاهر عبدالله من كرنك الأقصر. جئت للتعرف عليكما أنت وأمل دنقل".

ويتابع الأبنودي: "أغلقت الدوسيهات التي أمامي، ودفعت بها إلي أحد الأدراج وقلت له إذن هيا بنا... في ذلك اليوم أخذنا المسير إلى منزل الشيخ الأبنودي، ولم أكن أعلم أن يحيى الطاهر عبدالله لن يغادر هذا البيت إلا بعد ثلاث سنوات. منذ أول يوم أصبح فرداً من أفراد العائلة ينادي أمي (يا أمه) ويتعامل مع الشيخ الأبنودي كأنه والده، واستولى مني على أخوتي. وكان أينما يذهب تمشي الشجارات بين أقدامه".


كالعاصفة الربيعية، بل كمن يحمل نبأ هاماً، أو سرّاً يغلي بداخله، جاء عبد الفتاح يحيى الطاهر عبد الله، -عبد الفتاح اسمه الأول الذي أسقطه- إلى القاهرة عام 1964، بعد أن ترك بيت الأبنودي الذي قد سبقه إلى العاصمة بعامين، فيما سافر الصديق الثالث، أمل دُنقل، إلى الإسكندرية.

عاش يحيى مع الأبنودي في شقة بحي بولاق الدكرور، وبدأ يتردد على المنتديات والندوات والمقاهي الثقافية وتحديداً "مقهى ريش"، وكان آنذاك قد تحول إلى ظاهرة فنية خارقة؛ حيث كان يُلقي قصصه على أصدقائه دونما القراءة من الورق، معتمداً على ذاكرته الحادة.

لكن الهدف الأساسي من ذلك، كان محاولة من يحيى، لتقريب المسافة بين كاتب القصة والرواة الشعبيين، بل –بحسب حوار أجراه معه الكاتب سمير غريب- كان يريد تقريب المسافة بينه وبين الناس المهمشين المنسيين الذين لا يقرأون: "يجب أن أقول ولا يجب أن أكتب لأن أمتي لا تقرأ... وحين أقول يكثر مستمعيّ لأن الناس ليسوا صُماً. أنا لا أعتقد أن مخاطبة المثقفين مسألة ذات وزن... أنا سألت نفسي: لمن أكتب؟ فوجدت أن الناس الذين أكتب عنهم، لا يقرأون فني، وهم منفيون ومغتربون ومستلبون، لذا أعتقد أن القول أفضل".

في عام 1961 كتب الطاهر عبد الله قصته الأولى، "محبوب الشمس"، التي قدمها يوسف إدريس في مجلة الكاتب، وتلتها قصته "جبل الشاي الأخضر". كما قدمه الكاتب والناقد عبد الفتاح الجمل بالملحق الأدبي بجريدة المساء من خلال قصته "طاحونة الشيخ موسى" التي وظف فيها الأسطورة بشكل لافت ومدهش؛ فهذه الطاحونة كانت في حاجة لأن تأكل طفلاً صغيراً لكي تعمل، وعندما دخلها "الشيخ موسى" زالت هذه اللعنة، وصار بمقدورها أن تعمل دون أن تأكل لحماً حياً.

رغم النزوع الذي يعده البعض على مقربة من القضية الاجتماعية، والذي يتجلى في تصوير يحيى الطاهر للمهمشين والفقراء، إلا أنه لا يُمكننا قراءة قصص الطاهر عبد الله من هذه الزاوية فقط

وهكذا حازت قصص يحيى الطاهر عبد الله على احتفاء كبير من جانب كبار الكتاب والنقاد آنذاك، حتى قبل أن يُصدر مجموعته القصصية الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً"، والتي أهداها "للمقبل؛ للربة العذراء مع الخالدين فوق قمم الأوليمب المسنونة؛ لأبي الشيخ بالكرنك القديم؛ لخليل كلفت بمسرح الجيب بالقاهرة".

وتلت هذه المجموعة الأعمال: "الدف والصندوق"، "أنا وهي وزهور العالم"، "حكايات للأمير حتى ينام"، "الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة"، "تصاوير من الماء والتراب والشمس"، "الرقصة المباحة"، "حكاية على لسان كلب"، و"الطوق والإسورة" التي تحولت إلى فيلم سينمائي، إخراج خيري بشارة، وبطولة شاريهان.

ورغم ما تردد عن نخبوية هذا الفيلم إلا أن هناك إجماعاً من جانب النقاد والسينمائيين على أنه الفيلم الأجمل والأقسى في تاريخ السينما العربية، فيما وصف خيري بشارة رواية "الطوق والإسورة"، بأنها التجسيد الفني في ذروته لـ"الجمال الحزين"، وقد عُرض الفيلم بعد وفاة يحيى الطاهر عبد الله بخمس سنوات.

"لما بكت السماء وسقط الدمع الطاهر على الأرض التي تضج من ظلم البشر للبشر، رقد التراب المهتاج واختفى الغبار من الجو وعم نور وعادت الريح لمعقلها وصارت السماء أشد زرقة، وخرج الأولاد الصغار يبحثون عن اللقايا من جعارين وفصوص وخواتم وما تكشف عنه أرض الجدود ذات السر".

يُمثل إبداع يحيى الطاهر عبد الله، تصويراً مكثفاً لمفردات الحياة الصعيدية، وهو يصور هذا الواقع الجنوبي، عبر شخصيات مأزومة، ترزح تحت وطأة القهر، والفقر، والظلم، والأعراف والعادات والتقاليد السائدة. وتسعى الشخصيات للخروج من هذا الجحيم، بأحلام اليقظة حيناً، وبالتحايل حيناً آخر، كما في شخصية "إسكافي المودة" في رائعته "الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة".

ورغم هذا النزوع الذي يعده البعض على مقربة من القضية الاجتماعية، والذي يتجلى في تصوير يحيى الطاهر للمهمشين والفقراء، إلا أنه لا يُمكننا قراءة قصص الطاهر عبد الله من هذه الزاوية فقط، فالقيمة الجمالية والفنية هي المبغى الأساس لدى الكاتب، الذي شكل عوالم الكثير من قصصه، معتمداً على اللغة وإيقاعتها، دونما حكاية مركزية، كما في قصته "أنا وهي وزهور العالم".


وتتأتى فرادة إبداع الطاهر عبد الله، في مزجه غير المسبوق بين الواقعي والخرافي والأسطوري، فقصصه تبدو وكأنها تسير بين الحلم والواقع، وهذه الخرافة بما تحمله من دهشة ومتعة، تخفف من قسوة الواقع الذي ينقله الكاتب.

وفي توظيفه للخرافات والأساطير، مر يحيى الطاهر بعدة مراحل؛ ففي بداية تجربته، كان يوظف الأسطورة، ربما بشكل متعمد، كما في القصة التي أشرنا إليها سابقاً، "طاحونة الشيخ موسى"، وفي مرحلة تالية، تلاشت المسافات عنده بين الخرافة والحلم والواقع؛ ففي سياق السرد، نرى الواقعي بجانب الأسطوري والخيالي، بشكل مثير للدهشة، ففجأة يتحول إسكافي المودة إلى حجر، كوسيلة للاختفاء على سبيل المثال.

وقد عبر الكاتب والقاص إبراهيم أصلان عن هذه الصيغة الفنية عند يحيى الطاهر عبد الله حيث قال في شهادته عن صديقه: "لقد استطاع يحيى فى سنواته الأخيرة أن يضيق المسافة بين حال الدنيا وحال المخيلة، حتى انتهى به الأمر إلى خلق حالة فنية مدهشة صارت هى عالمه فعلاً. لم يعد بوسع أحد منا أن يعرف أين ينتهى ما هو واقعى عنده وأين يبدأ ما هو متخيل".

استقى يحيى الطاهر الكثير من قصصه من المخزون الثقافي الشعبي، وقصص الرواة الشعبيين، وألف ليلة وليلة١، وهو ما يتجلى أحياناً في لغة الحكي الشفهي، غير أن لغة صاحب "حكايات الأمير" متعددة المستويات، وهي في المجمل لغة حادة مسنونة، تنبعث منها موسيقى الصعيد الحادة والشجية، الملونة بالحزن والفرح، كما أنها ساخرة وتهكمية، وحسية، أي أنها حية ونابضة، فهي مصنوعة من عناصر الطبيعة الصعيدية القاسية، ومن النهار والليل، ومن نحيب المرأة العجوز، حزناً على دجاجاتها في قصة "البكاء"، ومن حياة "أسرة بخيت البشاري" القاسية في "الطوق والإسورة". إنها لغة الحياة بحلوها ومُرها.

"ليت أسماء تعرف أن البنات الجميلات/ خبأنه بين أوراقهن/ وعلمنه أن يسير/ ولا يلتقي بأحد"

في كتابه "الرواية الحديثة في مصر... دراسة في التشكيل والأيديولوجيا" يخصص الكاتب والناقد الأدبي الدكتور محمد بدوي، فصلاً لرواية "الطوق والإسورة" وهو يرى من خلال دراسته النقدية أن يحيى الطاهر عبد الله استطاع أن يخلق تقاليد قصصية جديدة، عبر لغة خاصة تميزه، مشتقه من بلاغة العرب التقليدية مع لغة الحكاية الشعبية وألف ليلة وليلة، مشيراً إلى أن مشروع الطاهر عبد الله، تضمن طرحاً معمقاً لعالم فقراء الفلاحين بصعيد مصر.

كانت رحلة يحيى الطاهر عبدالله في الحياة قصيرة، حيث توفي في التاسع من أبريل 1981، وكان عمره 43 عاماً، في حادث أليم على طريق القاهرة–الواحات، فأسلم روحه بعد أن نزف كل دمائه، وبجواره طفلته أسماء، التي كانت في عامها الرابع.

كانت وفاة يحيى صدمة مروعة لدى الكتاب والمبدعين، وخاصة صديقيه عبد الرحمن الأبنودي، وأمل دُنقل، وقد كتب كلاهما رثاءً في صديق العمر، حيث كتب الأبنودي مرثية بعنوان "عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبد الله"، يقول مطلعها: "يا يحيى يا عجبان يا فصيح/ أتمكن الموت من الريح/ كنا شقايق على البعد/ أنا كنت راسم على بعد/ أبويا مات السنة دي/ يا رقصة يا زغروتة/ وفرغت الحدوتة/ وع القرب شان الشقايق/ وخانتني فيك الدقايق/ وأمي بتموت وتحيا".

وقد رثاه أمل دنقل بقصيدة "الجنوبي": "ليت أسماء تعرف أن أباها صعد/ لم يمت/ هل يموت الذي كان يحيا/ كأن الحياة أبد/ وكأن الشرب نفد/ وكأن البنات الجميلات يمشين فوق زبد/ عاش منتصباً بينما/ ينحني القلب يبحث عما فقد/ ليت أسماء/ تعرف أن أباها الذي/ حفظ الحب والأصدقاء تصاويره/ وهو يضحك/ وهو يفكر/ وهو يفتش عما يقيم الأولاد/ ليت أسماء تعرف أن البنات الجميلات/ خبأنه بين أوراقهن/ وعلمنه أن يسير/ ولا يلتقي بأحد".

أما صديقه القاص الكبير"جار النبي الحلو" فلا يزال،- رغم مرور 41 عامًا على وفاة "يحيى الطاهر" -، يقضي أجمل وقته حين ينفرد بقصصه؛ يتأمل البنت في "جبل الشاي الأخضر"، ويُردد من "أنا وهي وزهور العالم": كان للشجر رائحة، وللأرض رائحة، ولشعرها رائحة ولفمي رائحة"، ثم تأخذه "الحقائق القديمة الصالحة لإثارة الدهشة" لإسكافي المودة، وإلى مصطفى البشاري في "الطوق والإسورة" الذي يقول له: أنت لا تعرف بشاعة الحكم الآدمي الحاكم على الآدمي المحكوم". وقبل انتهاء الجلسة، يُمسك جار بصديقه: لا تذهب، ليرد: سألتقط رزقي من الطرقات كالطير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image