عُرف بأنه رائد القصة القصيرة، رسمت نصوصه القصصية والروائية "جوهر" الإنسان المصري، و"ملامح" فكره وعاداته وتقاليده، لا ننسى "قنديل أم هاشم" الذي كشف ازدواج الأفندية، ومرتدي الطرابيش، والقبعات الغربية.
كما كشف "البوسطجي" خفايا القرية، ومدى تعقيد العلاقات الإنسانية، وممارسة الحب. إنه يحيى حقي، صاحب النصوص، والمواقف، والفكر العميق. الدبلوماسي والأديب والمعلم.
اعتبر نفسه مصرياً منتمياً إلى جيل ثورة 1919 التي احتوت الرعيل الأول من شباب خرجوا من عباءة الأزهر والبعثات الخارجية. ولد بمطلع عام 1905 لأسرة من أصول تركية وبالتحديد الوافدين من المورو، امتهن المحاماة، وسلك العمل بالدبلوماسية المصرية، رحلاته في أوروبا وعمله بالصعيد وأقاصي القطر المصري جعلته مطلعاً على الملامح التكوينية والفكرية للإنسان المصري، ونظيره الأوروبي أيضاً.
العجوز الهاديء
نتصوره الرجل الكبير ذا الشيب، جالساً وفي يده عصاه التي يتكئ عليها. خلف هذا المظهر الهادئ يتجلّى عقله المستنير أثناء حديثه المستفيض بالمعلومات والتجليات الفكرية والفلسفية أحياناً، وهو ما ظهر في أعماله القصصية والروائية، حيث يغوص حقي ليصل إلى جوهر الأشياء والأفعال، لا يقف عند مجرد الدوافع الظاهرية لشخصياته، بل إن شخصياته تشكل تماثلات الإنسان ونزعاته. المثير أنه رغم إنتاج يحيى حقي وتفنيده لمظاهر المجتمع المصري والمتغيرات التي طرأت عليه وعلى مواطنيه إلا أن حضور أعماله السينمائية ضئيل للغاية مقارنة بما قدم من إنتاجات. فما السبب؟
عام 1968، هو العام الذي انتبهت فيه السينما لكتابات يحيى حقي، حيث قدمت له ثلاثة أعمال أدبية دفعة واحدة: “قنديل أم هاشم"، و"البوسطجي"، و"قصة إفلاس خاطبة". ثلاثة أفلام قصيرة معتمدة على نصوص أدبية، عمل فيها ثلاثة مخرجين.
رغم أن كتابات يحيى حقي ذاع صيتها في الثلاثينيات والأربعينيات وحتى خمسينيات القرن العشرين لكن السينما لم تلتفت لها إلا بعد سنوات. يمكن أن نعزو هذا إلى طبيعة موضوعات يحيى حقي، المرتبطة باللحظة الزمنية التي كُتبت فيها، وركزت على المجتمع المصري وملامح الحياة، وهو ما ظهر في اللغة والحوار وحتى الوصف الدقيق المعبر عن البيئة والكاشف لخصوصيتها.
حامل القنديل
شهدت الستينيات اتجاهاً ملحوظاً إلى الأدب كمنبع استلهام القصص والحكايات، فظهر أبطال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس على شاشة السينما، وجاء دور شخوص يحيى حقي بتعقيداتهم الفكرية، التي تغلفها الإنسانية بنزعتها وصحوتها.
دكتور إسماعيل، بطل "قنديل أم هاشم"، يجد صعوبة في التكيف مع حي السيدة زينب، ويظل حائراً لبعض الوقت هل يفتح عيادة في شارع سليمان باشا (شارع طلعت حرب حالياً) أحد أشهر شوارع وسط البلد أم يظل مع أهله الأوائل ويقدم لهم الدعم والعلاج.
بالنظر إلى الفيلم والرواية نلاحظ محاولة المخرج كمال عطية والكاتب صبري موسى، الذي قدم السيناريو والحوار لفيلم "قنديل أم هاشم" وفيلم "البوسطجي"، الحفاظ على جوهر الرواية وروح يحيى حقي، إذ احتُفظ بالحوار وروحه ومسار الخط السردي.
كيف سينظر إليك المثقفون المتعلمون إن بحثت عن حلول وسطى واندمجت مع بيئتك الموغلة في الجهل والخرافة؟
تنتهي الرواية القصيرة “قنديل أم هاشم” ببقاء دكتور إسماعيل في عيادته البسيطة بحي السيدة زينب، ويستخدم الأدوية التي تحمل لقب "زيت قنديل أم هاشم"، والوصفات الشعبية، فيذوب الثلج بين العلم بمظهره المتجرد والجهل وهيمنته، ويصبح مريدوه من الضواحي والقرى المجاورة للقاهرة الكبرى، في حين يهجره مرضى القاهرة المتعلمون، أصحاب الشهادات العلمية. فما يفعله يعد دجلاً بالنسبة لهم، في حين يعتبره البطل اتباعاً لسياسة الاحتواء مع أصحاب العقول الجامدة، ويقدم لهم العلم بحسب ما يفقهونه ويعرفونه، أي "زيت القنديل المبارك".
ما بين الأربعينيات والستينيات
"قنديل أم هاشم" رواية قصيرة كتبها حقي عام 1944 صدرت ضمن مجموعته “دماء وطين”، مثلها ككافة أعمال حقي التي تعبر عن الأصالة المصرية، إذ يعبر حقي من المظهر المصري إلى أعماق التكوين المصري، حيث مزج بين الجانب الإنساني والطرح الفلسفي. شخصيات أعمال يحيى حقي الأدبية تحمل بين طياتها تعقيدات إنسانية تكشف ملامح الازدواج التي عاشها أفندية مصر العائدون من البعثات وحاملو الشهادات العليا.
ربما عاش حقي هذه الحياة واختبرها في حياته، فهو مرتاد كُتاب السيدة زينب وخريج كلية الحقوق، سافر إلى جدة في مقتبل عمره للعمل بالسفارة المصرية هناك عام 1929، ارتاد القنصليات بعد الكفور والنجوع، حيث عمل في وظيفة حكومية بصعيد مصر، ثم عاد إلى القاهرة ليرأس مصلحة الفنون بوزارة الإرشاد (الثقافة حالياً). محصلة هذه التركيبة جعلته قادراً على فهم الازدواج داخل الشخصيات والتعبير عنها ببراعة بالغة.
العبور والاغتراب سمة حاضرة في كتابات يحيى حقي.
كما تبلورت في كتاباته حالة الاغتراب بصورة متجلية. علاقة الإنسان بالمكان ورحلة العبور التي يعيشها من مكان إلى مكان ومن فكر إلى فكر هي جوهر ما قدم يحيى حقي في كتاباته. في "قنديل أم هاشم" عبر إسماعيل من القاهرة إلى ألمانيا ثم عاد من جديد، كما هو الحال مع البوسطجي عباس الذي سافر من القاهرة وترك كازينو بديعة مصابني إلى كوم النحل بصعيد مصر. وكذلك فعل جاسر في فيلم "امرأة ورجل". العبور والاغتراب سمة حاضرة في كتابات يحيى حقي، وربما هي ترجمة لتجربته الخاصة أو تحليل وتعمق لتجربة الإنسان المصري العامة، العابر من الثقافة الأزهرية إلى الثقافة الغربية ومعطياتها المختلفة.
استكمالاً لأمجاد عام 1968 التي رسمتها أعمال يحيى حقي في السينما كان فيلم “البوسطجي” إخراج حسين كمال، وهو الفيلم الثاني في مسيرة حسين كمال المثيرة في السينما. يتفوق الفيلم سينمائياً، ويعتبر أفضل ما قدمت السينما لأعمال يحيى حقي، رغم الشهرة الكبيرة لرواية "قنديل أم هاشم"، لما تحمله من تعبير عن قضية جوهرية أثرت في صلب المجتمع المصري، ولكن فيلم "البوسطجي" قدم دراما وبيئة الصعيد بعيون انتقلت من البعد البانورامي إلى الذوبان والتماهي مع واقع هذه البيئة القاسية.
عادة ما تورط شخوص يحيى حقي ذاتها في الأزمات دون أن تدري، وتحاول الخروج منها بعد ذلك، وهو ما فعله عباس، البوسطجي القادم من القاهرة إلى أحد مدن الصعيد، ويشعر بالتعالي والاختلاف عن هذه البيئة، ومع الوقت يتحول، حتى في مظهره، من الشخص البعيد إلى المتورط. ربما يكون الانتقام هو دافع عباس للانخراط أكثر داخل القرية ومشاكلها. المميز في شخصيات يحيى حقي أنها لا تعتمد على الكاتب في تصويرها أو حوارها وإنما من خلال الشخصية ذاتها. يحيى حقي الموظف الوافد على الصعيد، كما هو الحال مع زميله توفيق الحكيم وروايته "يوميات نائب في الأرياف". عاش وتماهي مع حياة الصعيد وملامحها، ورصدت عينيه التماثلات المختلفة التي يعيشها الإنسان في بلاد ربما تسحق آدميته.
امتازت كتابات يحيى حقي بالجودة والقيمة الأدبية، لكنه لم يكن الأكثر حظاً كما هو الحال مع نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس أو حتى يوسف إدريس برؤيته الفلسفية، ربما لارتباطه بثورة 1919، أو علاقته البعيدة مع الملكية وما تمثله من أفكار رغم أنه كان مصرياً حتى النخاع كما ظهر من أعماله وشخصيته وأحاديثه.
يحيى حقي، الكاتب والدبلوماسي والمنظّر، ارتبطت أعماله باللحظة الراهنة التي كُتبت فيها، ربما لم تكن الأفضل للتعبير عن المتغيرات الاجتماعية كما رصدتها كتابات الأدباء الآخرون، وهو ما جعل كتاباته أكثر بعداً عن المطلوب في السينما، خاصة في عالم ما بعد ثورة 1952.
حقي ومحفوظ والسينما
الملاحظ أن نصوص يحيى حقي التي تم إنتاجها وتقديمها للوسيط السينمائي كانت من خلال شركة "القاهرة للإنتاج السينمائي"، وهي شركة وطنية، استهلت إنتاجاتها برواية "الطريق" لنجيب محفوظ عام 1964، وكذلك "قصر الشوق" 1966، وصولاً إلى كتابات يحيى حقي، أي أن كتاباته لم تكن محل ترحيب من قبل المنتجين المستقلين، في حين اتجه المنتجون إلى كتابات نجيب محفوظ حتى قبل أن يحمل لقب أديب نوبل.
الفرق الملحوظ بين يحيى حقي ونجيب محفوظ أنه يتجاوز أن يكون الأول رئيس الثاني في العمل، حيث يتمتع محفوظ بالقدرة على مواكبة المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في حين آثر يحيى حقي الاحتفاظ بـ"الجذور". وربما هذا هو سبب ابتعاد السينما عن كتاباته، فهي أقرب إلى تشريح المجتمع من تقديم تنويعات تخدم الخطوط الدرامية، وتخاطب المشاهد في السينما.
حالة الاغتراب التي يعيشها المثقف المصري، والازدواجية بين تمسكه بقيم العلم والتحضر وبيئته الموغلة في الجهل والخرافة، فهمها يحيى حقي وجسدها في حكاياته ومقالاته. فلماذا لم تحتف به السينما كنجيب محفوظ؟
ذروة نشاط وكتابات يحيى حقي كانت خلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات. في تلك الفترة سلكت السينما توجهاً مختلفاً عن الاهتمام بالأدب بصورة كبيرة، رغم وجود بعض الأعمال السينمائية التي قدمت نصوصاً أدبية، لكنها تعد قليلة مقارنة بفترة الستينيات، حيث إن فترة تألق يحيى حقي الأدبية لم تتلاق مع ذروة تألق السينما المصرية، لاسيما أن كتاباته كما ذكرنا سابقاً، كانت مرتبطة بلحظتها وعالمها وفترتها.
رافقت العصا دربه والسهل الممتنع هو أسلوبه. اعتبر نفسه هاوياً لكنه الأجدر على التعبير عن الإنسان المصري والمتغيرات التي عاشتها مصر خلال بداية القرن العشرين. إنه ابن ثورة 19 التي أفرزت مثقفين حكماء. يحيى حقي الذي نتصوره كبيراً كعادته، بذقن حليق دائماً، ووجه طفولي، ولسان فصيح، يحل اليوم كشخصية معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ53، ليس لمجرد حضور أدبه ولكن لتأثيره في الثقافة المصرية، وريادته الأدبية بل وتنظيره للفنون المختلفة. اللافت أن حقي أحال نفسه إلى معاش الكتابة مع مطلع السبعينيات في سابقة لا يقدم عليها الكثيرون، بل ونقح أعماله بنفسه، ومحى منها ما لم يثر إعجابه. لم يهتم يحيى حقي بالكم كاهتمامه بالكيف.
العبور إلى جوهر الأشياء والتركيز على التكثيف، هو ما حفظ يحيى حقي في مكانة الرواد في مجال القصة القصيرة على وجه الخصوص، رغم أنه لا يعتبر نفسه كذلك، لكن الحقيقة أن حقي أسس ونظر لمجال القصة القصيرة والرواية القصيرة. عوالم يحيى حقي وشخوصه كان من الممكن أن تمكنه من تقديم روايات من القطع الكبيرة، متجاوزة في صفحاتها المئات، لكنه كان أكثر وعياً بما يريد أن يقول، ويتمتع بالقدرة على تقديمه في أقل عدد من الكلمات، فالكلمة لدى حقي تحمل أكثر من مجرد المعنى.
ربما لم يلمع اسم يحيى حقي على الشاشة السينمائية كثيراً، لكنه اسم لامع في الوسط الأدبي والمؤثر في حياةِ وأدب العديد من الكتاب المصريين والعرب. وصفه شيخ النقاد كمال رمزي بأنه رجل حنون ورقيق، رقته مغلفة بالدقة والصرامة الإدارية، يوجه بطريقة تخلو من القسوة المعلنة، كما يكشف رمزي أن يحيى حقي هو قارئه المتخيل، الذي يتراءى طيفه مع كل مقال يكتبه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...