شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"المسلم الشرقي" ووهم "الغيرة" على الدين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 6 مايو 202210:27 ص

عن كتابه "العلبة السوداء للإسلام" La boite noire de l’islam، قال الروائي والمفكر الجزائري أمين الزاوي، في أحد حواراته الصحافية: "في أثناء قراءتي وتحليلي لمختلف النصوص والخطابات الإسلامية، حاولت إيجاد جواب عن ‘لماذا؟’، لسلسة من الأسئلة: لماذا يوجد في تلك الخطابات هذا الكم من الكره؟ لماذا كل هذا الكره والتحقير للمرأة؟ لماذا التحريض على العنف وإسالة الدماء؟ ولماذا كل هذا الخوف من الآخر؟"، أو كما وصفه بدقة "فوبيا الآخر".

استفزني السؤال الأخير، بل وضعني أمام أسئلة أخرى: مَن هو الآخر؟ أهو العالم الغربي الذي نقارن أنفسنا به كمسلمين؟ أم ذلك الذي تمرّد على أفكار المجتمع المعلّبة بالرغم من أنه بُرمِج على الطاعة والقناعة من دون تفكير؟ لماذا نقارن أنفسنا بالغرب بالرغم من رفضنا التام للعلمانية؟".

الفرق بين دولنا نحن المسلمين، ودول "حقوق الإنسان"، بما أننا نقارن أحوالنا بأحوالهم، هو أن تلك الدول تخلّت عن الدين وعن كل أيديولوجيا، وجعلت التديّن مسألةً شخصيةً لا تحكم البلد والمجتمع. التديّن بالنسبة إليهم مسألة فردية لا تخص الآخرين، فقلّما نجد شخصاً يسأل: لماذا لا ترتدي كذا ولماذا لا تفعل كذا؟

لا شك في أنّ تلك الدول ليست مثاليةً كما نراها في الإعلام، لكن مَن يزورها سيشعر بالراحة والفرق الشاسع بيننا وبينها. حتى تركيا التي تُعدّ دولةً مسلمةً (لا إسلامية)، وتُعدّ في بلدي الجزائر مرجعاً للدولة "الإسلامية" الحديثة والمتطورة، نرى فيها جميع الأشكال والأيديولوجيات بالرغم من أنّ شعبها لا يزال مُشبعاً بأيديولوجيات أخرى مرتبطة بالوطنية والشخصيات السياسية.

أما نحن، فللأسف لا نكتفي بدولة تسمح لنا بالتديّن، وتبنّي الأفكار التي نقتنع بها، بل نحارب ونقاتل ونمارس الدعوة بكل أشكالها كي نضمن تديُّن البقية واعتناقهم أفكارنا نفسها. فتديّننا كشعوب مسلمة لا يكتمل إلا بتديّن الآخرين، وبدل تركيزنا على قناعاتنا نضيّع جلّ وقتنا في مراقبة أفكار غيرنا وأيديولوجياتهم، وهذا لأننا لسنا مقتنعين فعلاً بما نفعل، وإنما نشأنا على معادلة فرض/ طاعة التي نستعملها كحجة ضد مَن قرر أن ينفض عن رأسه غبار التبعية.

التديّن في المجتمعات العربية جماعي، ونابع من خوف أزلي من العقاب، وكذلك من طمع في الجنة وحور العين. طريقة تعامل المسلم "التقليدي" مع المسلم الباحث أو اللا ديني أو الملحد أو حتى الأجنبي الذي نشأ في ظروف مغايرة، كتعامل الرجل الشرقي الذكوري مع المرأة في مجتمعاتنا العربية، ولهذا أُطلقُ عليهم تسمية "المسلم الشرقي" (من الشرقية). وينطبق هذا الكلام طبعاً على الرجال والنساء.

المسلم الشرقي الغيور على دينه

كثيراً ما أشعر بغضب معظم المتدينين، وحتى المقربين منهم، من أفكار(ي) المناهضة للدين عند تعليقي على المواقع مثلاً. وهذا الغضب يسمّونه بالغيرة على الدين ويفتخرون بها، بينما هي غيرة مرضية تماماً كحب التملك.

يحاول المسلم الغيور من خلال نقاشه الطويل أن يعيد "الآخر" إلى طريق "النور"، آملاً بأن يتخلى عن أفكاره الناتجة أساساً عن بحث طويل لا عن ترديد -دون جدوى- لآيات المشايخ وأحاديثهم ومقولاتهم، كأدلّة. يدعو له بالهداية لأنّه الشيء الوحيد الذي يستطيع فعله، وما عساه أن يفعل أمام شخص استفتى عقله بدلاً من المشايخ؟

يردد المتدينون أمامي جملاً كـ: "سأفعل كذا على وجه ربي"، و"بش ناخد فيه أجر"، و"بش منغضبش ربي"... إلخ، تماماً كالمرأة في مجتمعنا التي تحلم بمهنة ما مثلاً، لكن إرضاءً لزوجها أو لأبيها أو لأخيها تتخلى عنها (مُجبَرةً)، حتى لا يغضبوا منها وتشعر بتأنيب الضمير، فتواصل حياتها على المنهج المقبول اجتماعياً.

"تديّننا كشعوب مسلمة لا يكتمل إلا بتديّن الآخرين وبدل تركيزنا على قناعاتنا نضيّع جلّ وقتنا في مراقبة أفكار غيرنا وأيديولوجياتهم، وهذا لأننا لسنا مقتنعين فعلاً بما نفعل وإنما نشأنا على معادلة فرض/ طاعة التي نستعملها كحجة ضد مَن قرر أن ينفض عن رأسه غبار التبعية"

تلك الجمل تنمّ عن الخوف من غضب الإله والاحتراق بنار جهنم. تضحيات يقومون بها طوال حياتهم من أجل نيل أعلى درجات الجنة. طبعاً، أنا لا أحاكم المتديّنين كأفراد، بل أنتقد التديّن الجماعي والاجتماعي، الذي ينقسم إلى فئات عدة (كل فئة تنتقد الأخرى)، لكن تبقى كل تلك الفئات في المجتمع أحسن (أرحم)، بكثير ممَّن اختار عقله وقرّر أن يجيب عن بعض الأسئلة الوجودية المثيرة للشك، وألا يطيع بلا سبب.

طاعة الله التي لقّنونا إياها سامة ومُذلّة، كطاعة الرئيس وطاعة المدير وطاعة الوالدين وطاعة الرجل. ورثنا ثقافة الانحناء والانبطاح من الدين أولاً، ثم من السّاسة الذين استندوا بالأساس إلى الدين بهدف التأثير على شعوبهم عن طريق تشبيع أفكارهم بالدين وإغراقهم في دوّامة الوعيد والخوف.

لماذا يغار المسلم على دينه ويخاف عليه؟

يعيش المسلم المتزمت في قلق دائم بسبب خوفه من العذاب الأليم، ثم من اندثار دينه، وهذا السبب الذي يجعله يصبّ تركيزه على تديّن الآخرين بدلاً من تركيزه على تديّنه بالشكل الذي يراه صحيحاً. لذا تجده يمضي جلّ وقته على مواقع التواصل الاجتماعي ينصح الناس ويجادلهم، وكثيراً ما يتهجّم عليهم بسبب طرحهم رأياً يراه شاذاً وفيه تطاول على الذات الإلهية، واصفاً إياهم بـ"أعداء الله" و"الحاقدين على الإسلام".

هذا ما يحاول معظم المتدينين إقناعي به عندما أقول لهم إن من حق كل فرد إبداء رأيه بما يشاء وكما يشاء، وإنّ انتقاد الآخرين للدين لا يعني بالضرورة التهجم على المتدينين والتطاول على "الذات الإلهية" التي تُعدّ مقدسةً بالنسبة إليهم فحسب.

"طريقة تعامل المسلم ‘التقليدي’ مع المسلم الباحث أو اللا ديني أو الملحد أو حتى الأجنبي الذي نشأ في ظروف مغايرة، كتعامل الرجل الشرقي الذكوري مع المرأة في مجتمعاتنا العربية، ولهذا أُطلقُ عليهم تسمية "المسلم الشرقي"

وهنالك نوع آخر من المتدينين، وهو الذي لا يتهجّم لكن هدفه في الحياة جمع أكبر عدد من المتدينين عن طريق ما يسميه بـ"الدّعوة"، وهي عبارة عن هداية الضالين عن طريق النقاش مثلاً. فالمتدينون يعشقون النقاش مع اللا دينيين أو الملحدين وغيرهم من الناس الذين لا يتفقون مع مذاهبهم بنيّة كسب النقاش.

ففي كل مرة ألتقي بشخص متديّن أشعر برغبته الشديدة في منقاشتي، بالرغم من أنني لست ممّن يفصحون بسهولة عن معتقداتهم، خاصةً مع الغرباء، فمنهم مَن حاول أن ينصحني بألا ألبس الخاتم في السبابة لأنه يعدّه حراماً (وهذا أكثر موقف تكرر في حياتي وفي أماكن مختلفة ومنذ صغري)، ومنهم مَن نصحني بالحجاب، ومنهم من استنتج أني لا أصلّي من طلاء أظافري، حتى في الفترات التي كنت أصلّي فيها.

من بين أساليبهم في الدعوة كذلك، توزيع المطويّات ودسّها في حقائب النساء. فذات يوم، حين كنت طالبةً في الجامعة، وجدتُ مطويةً ذات محتوى ديني في حقيبتي، واستغربت ذلك بالرغم من أن إحدى المقربات منّي في تلك الفترة كانت تعطيني باستمرار مطويات كـ"لباس المرأة المسلمة"، و"تحريم الغناء"، وغيرها (قبل إيقافها عند حدها)، آملةً بأن أتخلّى يوماً ما عن تلك "الخزعبلات"، وألتحق بصفوف السّلفية.

كذلك، قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، كانت سيدة توقف النساء والصبيات غير المحجبات في الشارع، لتنصحهن بالحجاب وتذكّرهن بما ينتظرهن في الآخرة. الغريب أنني كنت في الـ16 من عمري في المرة الأولى التي تحدثت فيها واحدة من هؤلاء إليّ. لم أنزعج منها كثيراً في بادئ الأمر، لكنني استغربت سلوكها واستهزأت بطريقتها، علماً أنه لم تكن لديّ مآخذ على الدين في حد ذاته آنذاك. كل ما أذكره أن الكل أصبحوا يتحاشون تلك السيدة، ويغيّرون وجهتهم فوراً عند رؤيتها.

بعد تراكم كل تلك المشاهد والتجارب التي مررت بها شخصياً، أو قصّها عليّ الآخرون، أدركت فعلياً حجم الخوف الذي يعيش فيه المتدينون من انقراض الدين الإسلامي، ومن الاختلاف، ومن "الآخر".

أدركت كذلك خطورة الفخ الذي وقع فيه كثيرون من خلال المنهاج المدرسي إذ إن المدرسة هي فعلاً كما وصفها أمين الزاوي، "الجهاز الأيديولوجي الذي يغذّي باستمرار جميع الأحزاب السياسية الإسلامية"، وبات إقحام الدين في خطابات الأساتذة ومواضيع الامتحانات وبالتحديد العقيدة السّلفية واضحاً جداً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image