لم يُدِر المغرب يوماً ظهره لإفريقيا، وإن كان يقع جغرافياً على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، مُشرعاً أبوابه في اتجاه أوروبا، إذ تُتداول مقولة شائعة للملك الراحل الحسن الثاني، يقول فيها: "المغرب شجرة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوروبا".
وتعكس هذه الجملة الارتباط التاريخي للمملكة بالقارة السمراء، وخصوصاً بدول غرب إفريقيا التي تتوثّق صلاتها بالمغرب يوماً بعد آخر، دينياً وثقافياً بشكل أساسي، بالإضافة إلى ما هو اقتصادي واستثماري. اليوم أصبح يظهر إلى العلن نقاش حول نشر التشيّع الإيراني في منطقة غرب إفريقيا، وتحاول المملكة أن تقدّم نفسها كحارس للإسلام السني في مجال نفوذها التاريخي.
"تحصين الجيران" روحياً
لقد كانت المملكة الشريفة تاريخياً، "مرجعيةً كبرى" لدى دول غرب إفريقيا في تديّن مسلميها، بفضل الزوايا الدينية. ومع وصول الملك محمد السادس إلى الحكم، انتبه المغرب إلى سَنّ سياسة نحو القارة الإفريقية تنتهج دبلوماسيةً تعتمد، عدا عن الجاذبية الاقتصادية ومشاريع الاستثمار، ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الدينية أو الروحية.
فقد شهد المغرب سلسلةً من الإصلاحات التي تهمّ الحقل الديني؛ من جملتها إعطاء الأهمية للعمق الديني المغربي في إفريقيا، من خلال تكريس التوجه المغربي القائم على المذهب المالكي، وبطريقة الجنيد في التصوف، ثم المذهب الأشعري في العقيدة.
لذلك تجدد المملكة في كل مناسبة تأكيدها على أنها حريصة عل تحصين جيرانها روحياً، بحكم أن الأمن الروحي لمحيطها الإفريقي من أهم أساسيات التصدي لأطماع التشيّع الإيراني في القارة.
يقدّم المغرب نفسه كقيادة روحية في غرب أفريقيا لمواجهة التشيّع الإيراني. سياسة تحاول الرباط جعلها من أولوياتها في خضم الصراع التاريخي مع طهران
وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي، ناصر بوريطة، لفت في مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان)، في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، إلى أن "إيران تحاول الدخول إلى غرب إفريقيا لنشر المذهب الشيعي"، مشدداً على أن "الأمن الروحي للمغاربة وللقارة الإفريقية، يُعدّ من بين الأولويات للتصدي للأطماع الإيرانية في القارة".
كلام بوريطة، يُبرز أن التوتر المستمر بين الرباط وطهران منذ سنوات، لم يعد ينحصر على المستوى الداخلي، بل يمتد إلى محيط المملكة الإفريقي، حيث الصراع الخفي على النموذج الديني.
جاليات ومؤسسات ومنح دراسية
يساعد إيران في تحقيق التسلل إلى قلب القارة الإفريقية ونشر التشيع، "الدور الذي تقوم به الجالية اللبنانية الكبيرة المحسوبة على حزب الله اللبناني في القارة الإفريقية، بخصوص الدعاية ونشر المذهب الاثني عشري"، تقول الباحثة في الشأن الديني فاطمة الزهراء هيرات.
كذلك اعتمد هذا الانتشار على أساليب أخرى عدة، "منها تقديم المنح الدراسية للطلبة الأفارقة لدراسة العلوم الدينية، سواء في إيران نفسها أو في الدول التي فيها امتداد شيعي كلبنان وسوريا، إلى جانب العمل الخيري القائم أساساً على تقديم المساعدات الإنسانية"، تردف هيرات لرصيف22.
وترى هيرات، أن "المعلومات المتداولة حول مدى الاختراق الشيعي في مجتمعات إفريقيا، متأرجحة بين المهولين من خطرها على الانسجام الاجتماعي والديني، والمقلّلين من شأنها لكون الأمر مجرد ظاهرة محدودة لا تأثير لها".
لكن الأكيد أن "إيران والقوى الشيعية المرتبطة بها، استطاعوا ربط علاقات مع المؤسسات والتيارات الإسلامية المحلية، خاصةً بعض الجماعات الصوفية"، تضيف فاطمة الزهراء هيرات.
وكشفت المتحدثة، أن "النظام الإيراني ركّز على حضوره الدبلوماسي في أزيد من 30 دولةً إفريقيةً على الأقل، ناهيك أن أربعين بلداً من بلدان القارة شاركت في القمة الإفريقية الإيرانية في طهران في نيسان/ أبريل 2010؛ منها على وجه الخصوص نيجيريا وغينيا كوناكري التي يتبنى العديد من أبنائها المذهب الشيعي".
"شبح إيراني" في كل مكان
من جهته، يرى الباحث الإيراني في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك، آرش عزيزي، أن النظام الإيراني يمتلك رؤيةً عامةً، يعمل بموجبها على نشر نفوذه في كل مكان وبشكل خاص في العالم الإسلامي.
وقال عزيزي، في حوار سابق مع رصيف22: "في شمال إفريقيا، يرغبون في نشر أيديولوجيتهم الشيعية، لكنهم يعرفون أن ذلك مقيَّد بشدة في معظم بلدان المنطقة. لذلك، يعملون على عقد تحالفات براغماتية والتركيز على قضايا كمعاداة إسرائيل، بجانب تأسيس علاقات دبلوماسية براغماتية كما الحال مع تونس والجزائر".
كما يعتقد عزيزي، أن نظام طهران فشل في أن يؤسس علاقات متينةً مع المغرب، إذ حاول دبلوماسيون تنظيم فعاليات إسلامية على أراضي المملكة، إلا أن الرباط كانت دائماً مرتابةً من نشاطات إيران، لأسباب بديهية مثل علاقات المملكة الوثيقة بالغرب ومساندة إيران لجبهة البوليساريو.
وهي خطوة كانت كلمة السر فيها قضية الصحراء، عندما أعلن وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة، حينذاك، أن طهران تقدّم دعماً "مالياً ولوجيستياً" لجبهة البوليساريو الانفصالية عن طريق "حزب الله" اللبناني الذي يوفر أيضاً تدريباتٍ عسكريةً للانفصالين.
"قوّة مرنة يُعززها المغرب"
إذا كان الأمر كذلك في السياق الراهن، فإن "وعي المغرب بالتهديد الشيعي ليس وليد اليوم، بل يعود إلى فترة ثمانينيات القرن المنصرم، فقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني، في كلمة له ألقاها أمام المجلس الأعلى للعلماء سنة 1984، أن نبّه صراحةً إلى المخاطر والتهديدات التي ينطوي عليها نشر التشيع في غرب إفريقيا على أمن دول المغرب الكبير ككل واستقرارها"، يقول الأستاذ الباحث المتخصص في الشأن الإفريقي في جامعة محمد الخامس في الرباط، سليم حميمنات.
في حديثه إلى رصيف22، يرى حميمنات أن المخاطر التي تحدث عنها الملك الراحل "كانت تندرج في إطار صراع سياسي وديني أشمل، تكتلت فيه العديد من الدول الإسلامية السنية في مواجهة أيديولوجية التشيع وتصدير الثورة التي تبنتها إيران في مناطق عدة في العالمين العربي والإسلامي".
الرباط كانت دائماً مرتابةً من نشاطات إيران، لأسباب بديهية مثل علاقات المملكة الوثيقة بالغرب ومساندة إيران لجبهة البوليساريو
لكن في السياق الحالي، "نحن أمام تنافس بمعطيات ورهانات جيوسياسية مختلفة تماماً؛ إذ إنه من خلال التركيز على الإستراتيجية الدينية للمغرب في منطقة غرب إفريقيا، على الأقل في السنوات العشر الأخيرة، نلاحظ أن المغرب أخد يميل أكثر إلى الاستقلال عن التقاطب الصراعي المشار إليه أعلاه في إطار إستراتيجية دينية، مهيكلة وأكثر كثافةً، ترمي إلى تكريس النموذج الديني المغربي بخصوصياته المعروفة، والتي تلتقي وتتقاطع كثيراً مع نموذج التديّن الذي تتبناه دول منطقة غرب إفريقيا"، يضيف المتحدث نفسه.
وبمعنى آخر، "فالدين أصبح عاملاً رئيسياً لمواكبة السياسة الإفريقية للمغرب، وتعزيز نفوذها من خلال آليات التعاون الرسمي المشترك، وفق رؤية ومنطق وأدوات مختلفة عن منطق الصراع أو الإقصاء الذي تنهجه بعض الدول"، يرى سليم حميمنات.
وسجل المصدر نفسه، أنه "لتنشيط سياسته الدينية نحو إفريقيا، يعتمد المغرب أدوات ومؤسسات، وعملياً على مؤسستين دينيتين رئيسيتين: معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، خصوصاً البرنامج التدريبي المخصص لتدريس الأئمة الأجانب القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، ثم مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بفروعها الـ32 المنتشرة في كافة ربوع القارة".
غير أنه "يلزم بطبيعة الحال بعض الوقت لتقييم الأثر ونجاعة العمل الديني الذي تضطلع به هاتان المؤسستان"، يستطرد حميمنات.
لهذا، "يراهن المغرب على تعزيز قوته المرنة في إفريقيا جنوب الصحراء من خلال بناء حزام أمني-روحي منسجم، تشكل المملكة قطبه المركزي، ورعاية نموذج ديني مرشح ليكتسب مزيداً من القبول والنفوذ في أوساط النخب السياسية والروحية والمشيخات الصوفية في منطقة غرب إفريقيا"، وفق المتحدث نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...