لعل السيد المسيح والدالاي لاما أهم مصدرين للسلام النفسي، ومحبة الآخر، والتعايش مع المختلف. رمزان كونيان، عابران للديانات والثقافات والأزمنة. كلاهما لا تسرّه سخرية أحد أتباعه من عقيدة الآخر، ولكن اثنين من هؤلاء الأتباع يستندان إلى حظ وافر من العلم، نقلا مقاييس العلم التجريبي إلى مجال العقيدة، وتبادلا السخرية، على الرغم من المسافات الفاصلة بين ما سجله طبيب كاهن من التبت، وما كتبه طبيب مصري.
قد أقابل الدالاي لاما ذات يوم. وكنت بعد فجر الجمعة، 20 تموز/يوليو 2007، قد وصلتُ إلى فندق تاج محل في إحدى جنان نيودلهي، وفي الغرفة 131. بالقرب من وسادة السرير، انتظرتني وردة، لعلها قُطفت الآن، وجيء بها مغلّفة بالندى من غابة تحتضن الفندق. وبجوار الوردة تحية الصباح من الدالاي لاما. بطاقة صغيرة، عليها جملة تحمل توقيعه: "النوم أفضل علاج". سيتركون في المكان نفسه، كل يوم، وردة وبطاقة فيها كلام دال: "كل ما نرى، أو يتبدى لنا، ليس إلا حلماً في حلم" لإدغار آلان بو. وطوال عشرة أيام في مهرجان "أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية"، لم يكن لأي من تلك المأثورات أثر في نفسي، كالذي تركته مقولة الدالاي لاما، أو وردته التي نسيت أن أشكر عليها الناقد الصديق انتشال التميمي.
طوال عشرة أيام في مهرجان "أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية"، لم يكن لأي من تلك المأثورات أثر في نفسي، كالذي تركته مقولة الدالاي لاما: ""كل ما نرى، أو يتبدى لنا، ليس إلا حلماً في حلم"
يخوض الدالاي لاما واحدة من أطول الحروب السلمية لاستعادة بلاده، التبت، منذ استيلاء الصين على الهضبة عام 1951. وشاهدت عنه أفلاماً أحدثها للمخرج الفرنسي جان جاك أنو، "سبع سنوات في التبت" بطولة براد بيت، عن طفولة الدالاي لاما، النسخة الروحية الجديدة لبوذا.
الفيلم معالجة فنية لمغامرة النمساوي هاينريش هارير (1912ـ2006)، بعد مغادرة النمسا، في صيف 1939، مع رفاقه، في رحلة قدروا أن تستغرق أربعة أشهر، على بعد ثمانية آلاف كيلومتر، في جبال الهيمالايا، تاسع أعلى قمة في العالم. فشلت أربع بعثات ألمانية في تسلق الهيمالايا، وقُتل أحد عشر متسلقاً في عواصف وانهيارات صخرية، وأصبح قهر تلك القمة هوساً وطنياً يؤثر في الكبرياء الألمانية.
يفاجئهم نشوب الحرب الأوروبية العظمى، وتعتبرهم القوات البريطانية أسرى حرب. ولا يجدي مع الغازي البريطاني للهند أن هاينريش هارير نمساوي، لا علاقة له بالحرب اللعينة. وفي خريف 1942، تتوَّج محاولات الهروب بالنجاح، وينجو هاينريش مع صديقه بيتر من ملاحقة البريطانيين، ويفاجئهما رفض أهل التبت استقبال الأجانب. لا مفر! فالبريطانيون وراءهما، وأمامهما التبت، قمة العالم، البلد الأكثر انعزالاً. وبالحيلة يدخلان "لاسا"، "المدينة المحرمة"، موطن الدالاي لاما الذي يقابلهما عام 1945 بعد انتهاء الحرب.
قواعد الرهبنة البوذية، والمسيحية أيضاً، توجب تغيير اسم السالك. للحياة الجديدة ثياب خاصة، وأسماء غير تلك التي أطلقها الوالدان على الأبناء. وفي البوذية يجري الالتحاق بالرهبنة منذ الطفولة، ولم يكن والدا الصبي تينزين جياتسو قد وهباه للرهبنة. ويسود اعتقاد بتناسخ الأرواح، وحلول الأرواح في أجساد جديدة. واعتقد الكهنة أن تينزين جياتسو هو النسخة الروحية الجديدة التي تجسّد بوذا، وحمل اسم الدالاي لاما الرابع عشر، ليصبح الرئيس الديني والدنيوي للدولة.
"وكم ضحكت من قصص العالم الغربي من أن أهل التبت يعتقدون أن قلب الرجل في الناحية اليسرى، وقلب المرأة في الناحية اليمنى... وكم من الأمور الزائفة المنتشرة في العرب عن أهل التبت"
وفي معبد البوتالا، مقر الدالاي لاما، أضرحة المتناسخين السابقين. معبد البوتالا، كما يقول الراهب الطبيب لوبسانغ رامبا (1905ـ1989) في كتابه "العين الثالثة"، مدينة متكاملة على جبل صغير في "لاسا. ويسجِّل أن مساحة التبت "تعادل ثماني مرات مساحة الجزر البريطانية. وهناك مناطق كبيرة لم تستكشف بعد، ومن خبرتي في السفر... أعرف أن هناك ذهباً وفضة ويورانيوم في أرض التبت"، ويرون الذهب معدناً مقدساً، "ونعتقد أن البحث عن الذهب يدنس قداسة الأرض لذا نتركه في الأرض دون أن يمس".
الدالاي لاما الصبي أحب المغامر النمساوي هاينريش هارير. وبعيداً عن عيون مساعدي "صاحب القداسة" كانا يتجاهلان البروتوكول ويناديه هاينريش باسمه، "كوندون". بدا الصبي شغوفاً بالمعرفة، لا يكف عن الأسئلة؛ لا ضفاف لفضوله ورغبته في الاطلاع على آفاق أكثر اتساعاً من حدود مداركه. يسأل عن المدن والخرائط والمعالم ووسائل التكنولوجيا، ويقول إن لديه أفلاماً، ويطلب بناء صالة للعرض السينمائي في القصر. أخلص هاينريش في توعية الدالاي لاما، وظل معه حتى بعد الغزو الصيني الذي سهّلته الخيانة.
تجوّل هاينريش في ساحة تطل عليها صورة ماو تسي تونغ. الصورة فوق بناية، تعانق السحاب ويحرسها العلم الأحمر، وبجوارها ميكروفون يضخ تعليمات. وفي الحصن يحتمي القائد الخائن بجنوده وبآليات عسكرية صينية. رحب القائد بالشاب النمساوي، ولم يردّ التحية، وأبدى الأسى، وأعاد النظر إلى صورة الزعيم الصيني، وخلع سترة كان القائد الخائن قد أهداها إليه. مدّ يده بالسترة، فأفهمه القائد أن إعادة الهدية في تقاليد التبت إهانة "لا تغتفر".
ضاق الشاب بما رآه مفارقة، مسخرة، نفاقاً وطنياً، وقذف السترة في وجه القائد، فرفع الجنود أيديهم بالسلاح، استعداداً لتلقي أمر. وقال له هاينريش: "الرجل الذي يخون ثقافته يجب ألا يعظ بتقاليدها". ودّ أن يلكم الخائنَ لولا الجنود، وهمس في أذنه: "عارك سيكون عذابك، وعذابك سيكون حياتك"، وتمنى له حياة طويلة، ودفعه أرضاً. وكان على هاينريش أن يعود إلى النمسا، بعد حضوره مراسم تنصيب الدالاي لاما عام 1951.
كتاب "العين الثالثة" أعمق ما يمكن أن يصالح الإنسان على الموت، بعيداً عن قسوة الأديان، وسادية تصوراتها عما بعد الحياة. الكتاب سيرة ذاتية لطفولة الراهب البوذي خفيف الظل لوبسانغ رامبا. وتحمس الكاتب خيري عبد الجواد لنشره، عام 2001 في داره الصغيرة "سندباد". والترجمة أنجزها الصديق الفلسطيني أحمد عمر شاهين، واقترحتُ عليه أن نسافر إلى التبت.
أحمد عمر شاهين
تحمس أحمد، ثم قال إن هذا مستحيل. الصين حذرة جداً، ولا بد من دخول التبت عبر بكين، والأكثر صعوبة أن من تبقى من أهل التبت يرفضون مقابلة الغرباء، لأن العالم أعطاهم ظهره ونسيهم، وترك مصير ستة ملايين إنسان في قبضة التنين الصيني. مأساتهم لا تقل عن مأساة العدد نفسه من الفلسطينيين في الشتات. تصورت أن بإمكاننا بحث الأمر، لكن أحمد عمر شاهين خذلني بموته المفاجئ.
يحكي لوبسانغ رامبا في "العين الثالثة" عن جهل العالم ببلاده: "وكم ضحكت من قصص العالم الغربي من أن أهل التبت يعتقدون أن قلب الرجل في الناحية اليسرى، وقلب المرأة في الناحية اليمنى، وهم لا يعلمون أننا شرّحنا جثثاً بما فيه الكفاية لنعرف الحقيقة. وكم من الأمور الزائفة المنتشرة في العرب عن أهل التبت".
في التبت يرون الذهب معدناً مقدساً، "ونعتقد أن البحث عن الذهب يدنس قداسة الأرض لذا نتركه في الأرض دون أن يمس"
ويقول أيضاً، كأنه يخوض حرب عقيدة مع الدكتور سمير حنا صادق، أستاذ الباثولوجيا الإكلينيكية بكلية الطب بجامعة عين شمس (توفي عام 2011): "أعترف أني شعرت بالرعب بما لا يقاس حين رأيت لأول مرة أن المسيحيين يعبدون رجلاً يعذب على الصليب كرمز لهم. إنه من المحزن أن نحكم على الآخرين بمعاييرنا الخاصة".
فاتني الرصد الدقيق لتزامن نشر ترجمة الكتاب عام 2001، ونشر مقال "تزوير اللغة" للدكتور سمير حنا صادق في مجلة "اليسار"، آب/أغسطس 2001. أيهما أسبق؟ الكتاب أم المجلة التي كان يصدرها حزب "التجمع" اليساري المصري؟
في المقال يوضح الكاتب كيف يلحّ الإعلام الأمريكي على تشويه الوعي، ويفرغ الكلمات من مضمونها، مثل "الدفاع"، و"السلام"، و"حقوق الإنسان". ويقول إن مواثيق حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة "تختزل في أجهزة الإعلام الأمريكية إلى حق عصابات أفاقة صينية في ممارسة عمليات دجل وخرافات ونصب في ميادين بكين في محاولة لهدم نظام الدولة التي حققت معجزات لحقوق الشعب الصيني في المعيشة الحرة الكريمة السعيدة بعد أن امتصت الرأسمالية الغربية دماءه بحروب الأفيون. أو حق مجموعات من شعب التبت في عبادة (نعم عبادة ـ في القرن الواحد والعشرين) الإله الدالاي لاما الذي حرض بسلطته كإله، باقي الشعب على الانقلاب ضد طريق التقدم والحضارة".
أما وقد تكلم الطبيبان، البوذي والمسيحي، فلأصمت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com