شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
رقصتُ وانتشيتُ... في معبد أوشو وسط الغابة وبين القرود

رقصتُ وانتشيتُ... في معبد أوشو وسط الغابة وبين القرود

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأحد 12 مايو 201906:53 م

كبرتُ، وكبرت مشاكلي، كلما حَلَلتُ مشكلة ظهرَت أُخرى، أكثر عمقاً وتعقيداً، إيقاع الحياة سريع، وتطلَّعاتي كبيرة، وعمري قصير، وبعد ثورات "الربيع العربي" عشنا فترات الشكَّ والاضطراب، المناخ أكثر تلوثاً، الحياة عمليَّة وجافَّة، وروحي جائعة، لعالم آخر، سِحري وَمُثير، يُشبه الخُرَافَات التي تحكيها لي جدَّتي عندما كنتُ صغيرة، فهل هذا العالم موجود، أم أنّه مجرد قصص للتسلية قبل النوم؟

تهجم عليّ كثيراً تلك الخواطر في كل مرَّة أسافر فيها إلى الهند، وتدفعني للتفكير بالذهاب إلى أحد مراكز المُعلِّم الهندي "أوشو"، وحضور جلسة من جلسات التأمل التي تُعقَد بشكل يومي. ولكن ظروف عملي المُتطلّبة تمنعني، وكان عليّ إعادة جدولة الوقت من مصر قبل سفري، أو أن أذهب في رحلة مُنفَصِلة تماماً عن العمل. كان لي أصدقاء كُثُر من تلاميذ أوشو،  أحدهم أرسل لي مرَّة  قائمة برامج لبعض مراكز أوشو في ذلك العام .

كان أصدقائي قد رتَّبوا أمورهم لحضور برنامج سوف يُقام في منطقة تُدعى "داهود" بولاية غوجارات الهندية، وسوف يُقدِّم هذا البرنامج "المعلمة نيلام" وهي كانت السكرتيرة الأولى لأوشو.

المناخ أكثر تلوثاً، الحياة عمليّة وجافّة، وروحي جَائِعَة، لِعَالَمٍ آخَر، سِحرِي وَمُثِير، يُشبه الخُرافَات التي تَحكِيهَا لي جَدَّتي عندما كنتُ صغيرة، فهل هذا العالم موجود، أم أنّه مجرد قصص للتسلية قبل النوم؟

حجزتُ في هذا البرنامج من مصر. وحجزتُ تذكرة في طائرة متجهة مباشرة إلى مومباي الهندية، ومن مومباي أستقلّ القطار إلى منطقة "بارودا" لأمكث يومين في ضيافة عائلة هندية قادمة من أستراليا,  تستضيف عادة مُريدي أوشو، وتقوم معهم بكل واجبات الضيافة، حتي نتجمّع كلنا من أنحاء الهند وخارجها، ويكتمل عددنا، ثمّ تأتي "مُعلِّمة" تطير بنا إلى "داهود" .

معبد أوشو بين القردة وسط الغابة

"أوشو داهود أشرم" في ولاية غوجارات، نُزل كبير وسط الغابات، لا يوجد به أيّ اتصال بشبكات المحمول أو الانترنت، انعزال تام عن الواقع الذي نعرفه. البرنامج يضمّ مجموعة متنوعة من الخيارات: التأمّل، الرقص، المناقشة، محاضرات، القراءة.

تبدأ التأمّلات في السادسة صباحاً وحتى التاسعة مساءً، وكلّ البرنامج هو اختياري، وكلّ شخص حرّ في حضور أيّ شيء يُفضّله, أو يتناسب مع ميوله. الزيّ هنا مُوحَّد، عبارة عن فستان أو عباءة باللون الماروني، وهو اللون المُخصَّص لحضور التأمّلات، وفي المساء نفس الزيّ, ولكن باللون الأبيض، وهو المخصَّص للمحاضرات.

ولا يسمح بالحضور دون ارتداء هذه الألوان. وتوجد مكتبة تبيع هذا الزي داخل "الأشرم" لمن ليس لديه زيّ.

في اليوم الأول تمَّ تسليم الغرف، كانت غرفتي مُكوَّنة من سرير, ومكتب صغير، ومروحة سقف، وحمَّام. لا يوجد تلفزيون. لاحظتُ أنَّ كلَّ النوافذ مُغطَّاة بأسلاك وقضبان حديدية، وعرفتُ بعدها أنَّهم يفعلون ذلك حتى لا تدخل القردة من النوافذ والشُّرفات. نعم القردة؛ القرد حيوان مُقدَّس في الهند, ويتحرَّك بحُرِّيَّة تامَّة في أيّ وقت وأيّ مكان.

كان من المفترض أن أستيقظ في الخامسة والنصف صباحاً، لأبدأ يومي بالتأمل الدينامكي، وبالفعل ذهبتُ, وكنتُ شبه نائمة داخل القاعة, وانتهت ساعة ونصف من التأمّل وأنا نائمة داخل القاعة.

ثُمَّ أشارت لي مُعلِّمتي بعد انتهاء التأمّل أن أذهب لشرب الشاي وتناول الإفطار كي أستعدّ للتأمل القادم بعد ساعة.

ذهبت أولاً إلى المكان المُخصَّص لتناول الشاي في الحديقة. . وبعد أن صبَّ لي العامل الشاي، وجدتُه شاياً بالحليب، ومُحلَّى بالسكَّر، سألته: "شاي سادة أو قهوة؟"، فقال لي: لا يوجد في هذا المكان سوى هذا النوع من الشاي فقط.

يا إلهي! كيف سأعيش لعشرة أيام بلا شاي أو قهوة؟!

ذهبت لغرفة الطعام، كانت أول تجربة حقيقية لي مع الطعام الهندي، فطوال فترة إقامتي أتناول طعامي في الفندق، وغالباً ما يكون طعاماً ليس هندياً، الأطعمة هنا لا أعرفها، معظمها "نباتية" صرفة.

سألتُ الشخص الذي يقف في المطبخ : ما هذا؟ فأخبرني بلغته أشياء لم أفهمها، فسألته عن مكوّناته، ردَّ عليّ: "إنَّه جيّد . . تذوقّيه".

مثل السحر تحوَّلت الغابة، من مكان حار مليء بالحشرات والقرود، إلى غابة أسطورية خيالية، ولو ظهرت أمامي كائنات روحانية لما اندهشت، يبدو طبيعياً جداً كسيَّارات التاكسي في القاهرة.

عدت ببعض الطعام؛ أُجرّبه, وجلستُ على طاولة مع أحد الأصدقاء، وأمامي مباشرة يجلس رجلان، أحدهما تناول علبة التوابل من الطاولة التي أمامه, ووضع الكثير منها في اللبن، قمت مسرعة إليه لأخبره أنه أخطأ، ووضع التوابل بدلاً من السكر ، فنظر إليّ بدهشة، وقال لي : أعرف!

رجعتُ إلى طاولتي وأنا مندهشة من ردّه، أمَّا الرجل المجاور له فكان يأكل بأصابعه العشرة، نفرتُ ممّا رأيت،  وضاعت شهيتي.

"لا تنظري للآخرين، ركزي على طبقك فقط ، لأنك لو ركزت معهم ستشعرين بالإحباط، ولن تأكلي"، تنصحني صديقتي التي تجلس بجواري.

انتهينا من الإفطار الذي لم أتناول منه شيئا . وكان التأمل الثاني في الغابة، تأمُّل الصمت، الحقيقة هذا النوع من التأمل كنت أسمع عنه, ولكن لم أختبره سابقاً، جلستُ تحت شجرة كبيرة . . وكان عليّ أن أركّز انتباهي على صوتي الداخلي، مع ذاتي كما قيل لي، إلَّا أنَّ حرارة الجو التي تجاوزت 45 درجة منعتني من التركيز، وكلّما حاولتُ أن أنسى حرارة الشمس تمرُّ ذبابة من أمامي, أو تلدغني إحدى الحشرات، حشرات لا حصر لها، وكلما حاولت إغماض عيني، تلدغني حشرة فأصرخ، وأصرخ, وأصرخ.

تنظر إليّ معلمتي من بعيد وكأنها تطلب مني التزام الصمت.

بدأت يدي تتورَّم, وبقع حمراء تنتشر بكل جسدي، عجزتُ عن تحمّل الصمت, صرختُ بأعلى صوتي : مالاريا مالاريا !

اعتقدتُ أنني أُصبت بالمالاريا، ولمَ لا، تذكرتُ أني لم أحصّن نفسي بتطعيمات المالاريا قبل سفري، ذهني كان مشغولاً بعالم التأمل والراحة والنشوة، الذي يعدنا به أوشو طوال الوقت.


"...السيطرة على الشمس الساخنة، والحشرات الطائرة"

كانت حالتي يُرثى لَها، حتَّى أنَّ معلمتي قلقت جداً، وبدا القلق على الباقين، وكانوا خائفين أن أكون فعلاً قد أُصبتُ بالمالاريا؛ مشهد اللدغات لا يدل على خير ؛ قاموا باستدعاء طبيبة المعسكر،  وبعد الفحص لم تستطع أن تُحدِّد سبب البقع الحمراء التي احتلت كل جسدي، وخافت أن توصيني بدواء خاطيء. اصطحبتني الطبيبة إلى أقرب مستشفى للمعسكر، لاستشارة رأي طبيب مُختصّ, ولإجراء بعض الفحوص. وبعد الفحص أخبرني الطبيب أن ما حدث لي حساسية شديدة بسبب لدغ الحشرات، والجوّ الحارّ مع الأطعمة الحارة جدا، وطلب منّي ألَّا ألمس أي شيء من الطعام الموجود في المعسكر لأنَّه يحتوي على نسبة عالية من الملح والتوابل، وأنّه عليّ فقط أن آكل فواكه طوال مدة إقامتي في المعسكر . .. وأعطاني بعض الأدوية.

لم يكن متوافرا في المعسكر من الفاكهة سوى الموز، أُقشّر الموز في كلّ وجبة، والقردة تنظر إليّ من بعيد، تتقافز كأنها تسخر مني، وبدت وعود التأمل والاسترخاء والنيرفانا حلماً بعيداً، وراودتني في فترة علاجي أفكار سوداء، هل يمكن أن يكون تأمل أوشو مشروعاً تجارياً، وأنهم يستثمرون نقاط ضعفنا كأفراد أكثر عرضة للقلق والاكتئاب في الربح والنجاح.

فكرت أن أترك كل شيء وأعود للقاهرة.

في اليوم الثاني كنت أشعر بعدم الارتياح في الجلوس على الأرض لفترات طويلة, وكنت أتحرّك كثيراً داخل القاعة أثناء الـتأمل، لا أستطيع السيطرة على أفكاري، أفكّر في لدغات الحشرات, والشمس الحارقة، و....

بعد الـتأمل ذهبت إلى معلمتي, وقلت لها أني لا أشعر بالارتياح, ولا أستطيع السيطرة على أفكاري، قالت لي معلمتي بهدوءها المعتاد : إذا كنتِ تعانين من سيطرة الأفكار المستمرة أثناء التأمل فيجب ألا تستسلمي لها. وأعطتني بعض النصائح البسيطة للحصول على هدوء العقل, وطلبت مني أن أتناسى الأيام الماضية اليوم، وأنتقي مكاناً منعزلاً أخلو فيه، وأعيش مغامرة داخليّة مع نفسي.

الولادة الجديدة

الآن أجلس بهدوء وسط الغابة . أغمض عيني ، آخذ نفساً عميقاً، أطرد كلّ الأفكار السلبية والإيجابية، أعيش مغامرتي الداخلية بلا توقعات, الآن أعود إلى نفسي.

"السلام مع النفس يدفعني للسلام مع ما حولي، لم يعد شيء يزعجني في الغابة"

اختبرتُ صمتاً عميقاً لم أعشه من قبل، يبدو أنّ لحظة الاكتشاف قد حانت، أشعر بنسمة هواء باردة, ورائحة الزهور تفوح من حولي ، وزقزقة العصافير تدغدغ أذني، وخرير الماء من السد المجاور لمعسكرنا، انعكاسات الشمس في حالات مختلفة، بظلالها الذهبية أو النحاسية، ولونها أصفر مشعّ أو أبيض بسبب الغيوم العابرة، ثمَّ سقوط الأمطار الدافئة على غير موعد.

مثل السحر تحوَّلت الغابة، من مكان حار مليء بالحشرات والقرود، إلى غابة أسطورية خيالية، ولو ظهر ت أمامي كائنات روحانية لما اندهشت، يبدو طبيعيا جدا كسيارات التاكسي في القاهرة،

اليوم تبدو الصور مختلفة، السلام مع النفس يدفعني للسلام مع ما حولي، لم يعد شيء يزعجني في الغابة.

تمتد جلساتي وسط الطبيعة الساحرة أكثر من الوقت المسموح، لا أشعر بنفسي إلا عندما يأتي أحدهم يخبرني بانتهاء البرنامج لهذا اليوم ، وأن علي العودة.

أعود من بعد كل جلسة تأمل وكأني شخص آخر، تعرفت على الحياة من جديد.

ولماذا لا أقبل بأن اكون "سانياس"، الاسم الذي يُطلق على أتباع أوشو.

"ما ديف جاريماه" . . هو اسمي الجديد، أعطته لي معلمتي "ما نيلام" مع شهادة ميلاد، وعرفتُ بعد ذلك أنه تقليد داخل مخيّمات أوشو، يعتبرونه دليلاً يذكرنا كلما أخطانا أن نراجع تصرفاتنا.

"سانياس" كان بالنسبة لي رحلة عميقة من الخبرات الروحية ، "سانياس" غيَّرت حياتي تماماً، في وقت سابق كان من الصعب جدا أن أتحمَّل أي شيء، ولكن بعد "سانياس" أصبحت أكثر صبراً وهدوءً، أكثر تنظيماً، أكثر سلاماً مع نفسي ومع الآخرين.

بحلول اليوم التالي كان عليَّ تعلّم كيف أتعامل مع العالم الخارجي، شعرت أنني حقا قد ولدت من جديد، لقد عدتُ طفلة مرة أخرى.

وأنا أستقل طائرة العودة إلى القاهرة، شعرتُ بالامتنان، لقد كان لدي الكثير من التجارب الرائعة هنا، رؤية أناس جدد، ومن خلفيات ثقافية، دينية، اجتماعية مختلفة، كل منهم جاء بغرض واحد.

تعلمت أشياء كثيرة: المرح, الحياة, الضحك, وهي من التعاليم الأساسية لأوشو.

أحب أن اقول لنفسي أنَّ أوشو أعطاني حياة جديدة مليئة بالحب والحكمة, وأكبر تغيير يمكن أن أشعر به في حياتي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات هو أنَّه لا يوجد لديَّ توقعات من أي شخص، أو حتى منكم أنتم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image