"رقيّتك واسترقيتك من عين أمّك، ومن عين أبوك، ومن عين كلّ اللّي حسدوك"، هكذا كانت تردّد أمّي تعاويذها، وهي تمسك بورقة بيضاء على شكل عروسة صغيرة، توخزها بالإبرة مع كل جملة، كأنّها ترشق إبرتها في عين الحاسد، وليس في الورقة، ثمّ تحرقها على النار مع الملح والشبة والفاسوخة، ثمّ أخيراً تنثر رمادها على رأسي أو رأس أحد إخوتي، وذلك إذا ما أصابنا مرض أو إعياء.
لم تكن تلك الطقوس تقتصر على أمي وحدها، فقد كانت تقليداً شائعاً في أنحاء الريف المصري وصعيده، ولا يزال حتى الآن، باعتباره وسيلة لدرء الحسد، وإبعاد أذاه عن الناس.
عرفتُ بعد ذلك أنّ طقس "عروسة الحسد"، لا يزال منتشراً في قبائل أفريقيا، ثم انتقل إلى مصر عبر الرحلات، ويجادل آخرون أن العكس هو الذي حصل. بدأ في مصر ثم انتشر عبرها إلى أفريقيا.
ظلّت لذكرى تلك العروسة مكانة بين ذكريات الطفولة، إضافة إلى عروسة المولد، التي تتجلّى لنا كلّ عام في أيام مولد النبي محمد.
عروسة المولد
مع كل مناسبة لمولد النبي، يتداول نشطاء على السوشال ميديا، ومواقع صحافية مقولة ينسبونها للمقريزي، المؤرخ الشهير، وهي: "كانت تُصنع من السكّر على هيئة حلوى منفوخة، وتُجمّل بالأصباغ، ويداها تُوضعان في خصرها، وتزيّن بالأوراق الملوَّنة، والمراوح الملتصقة بظهرها".
ويعود الخلاف محتدماً كلّ سنة حول أصل عروسة المولد، وأبرز تلك الآراء ما كتبه الدكتور عبد الغني الشال، صاحب الكتاب الأبرز "عروسة المولد"، (إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة)، وأرجع الاحتفال بعروسة المولد إلى معتقد غابر، شائع، يُصدّق في وجود "القرين"، إذ لكلّ إنسان قرينه من عالم الجانّ، المختلف عنه في النوع، فإن كنت ذكراً فلك قرين أنثى، والعكس صحيح.
إن كان المصريون قد ابتدعوا عروسة النيل لإرضاء إله الخير بعد كل جفاف، فقد ابتكروا أيضاً عروسة القمح لشكر "رنوتت" إلهة الحصاد، التي حرص المصريون على شكرها بعد كل موسم للحصاد
أما الشاعر والكاتب المصري، محمد الحمامصي، فيلفت في مقال منشور في "البيان" الإماراتية، إلى اكتناز تفاصيل عروسة المولد بدلالات طبيعية، واجتماعية، ومعمارية، مُشدّداً على أنّ ما يميّز الفنّ الإسلامي هو "التوافق الذي يكوّن الوحدة"، فالزخارف مثلاً تشير لسقوف الجوامع، وألوان العروس تشير إلى أزياء ذلك الزمان المزركشة، والمراوح هي نفسها التي يستخدمها الولاة والحكام، وهكذا.
ويجادل المعتقدون في "فرعونية" الأصل، بوجود نسخ لعرائس صغيرة مصنوعة من عسل النحل الممزوج بدقيق القمح، معروضة في المتحف الزراعي المصري، هذه العرائس كان لها حضور في الأعياد في حقب زمنية مختلفة، وفي توابيت الموتى أيضاً، ولكنها بدأت في الانتشار زمن الفاطميين.
العروسة الأولى
تحضر أسطورة عروسة النّيل في عمل أمل أحمد، مرشدة سياحية، وهي تشرح للأجانب السيّاح ثقافة المصريين الأوائل.
تقول أمل لرصيف22: "أجمل فتاة في البلاد كانت تزيّن كعروس جميلة، وتزفّ في حفل أسطوري، لتُلقى في النهاية في مياه النيل، كقربان بشري لإله الخير حتى يرضى، ويفيض النهر".
تشرح أمل الأسطورة، كما اعتادت أن تفعل مع السيّاح طوال سنوات عملها، أنّ عروس النيل كانت فكرة كبير الكهنة في عهد الملك زوسر، أحد ملوك الفراعنة في عهد الأسرة الثالثة، كحلّ لإرضاء النيل، الذي غضب، وامتنع عن الفيضان وحلّ الجفاف.
أكّد كبير الكهنة للملك آنذاك أنّ النيل لن يرضى، ويفيض حتّى يتزوّج فتاة بكراً وجميلة.
حينذاك أمر الملك بجمع الفتيات الجميلات من كلّ أنحاء البلاد، واختار أجملهنّ على الإطلاق، فزُيّنت، وأُقيم عرس كبير لها، ثمّ أُلقيت في النيل وتزوّجت النهر في الحياة الأخرى وفاضت المياه.
كان على الفرعون الاختيار بين التضحية بابنته أو التخلي عن إيمانه.
استمرّ الحال هكذا في التضحية بالجميلات، حتى حلّ عام لم يجد فيه المصريون أجمل من ابنة الملك (إيجيبتوس). بات عليه الاختيار بينها وبين الالتزام بالتضحية، فقرّر الالتزام، ولكن خادمة الأميرة لم تستطع التضحية بها فصنعت فتاة خشبية، وزيّنتها، وطلبت من الجميع أن تُزفّ، باعتبارها الأميرة، إلى إله الخير.
وتحكي الأسطورة أنه بعد نجاح الخادمة في مبتغاها، مرض الملك، فكان لا بدّ أن تكشف عمّا فعلته لتعود إليه صحته، وبالفعل عاد الملك لحالته، ومنذ ذلك الحين توقف الفراعنة عن إلقاء الفتيات الجميلات في النيل، واكتفوا بالعرائس الخشبية أو ما يطلق عليها "عروس النيل".
تشدّد أمل على أنّ تلك الحكايات هي أساطير يتناقلها الناس، وأنّ الأمر برمته لا يخرج عن نطاق أساطير تناقلها الشعب المصري عبر العصور، فالوثائق التي عُثر عليها، والتي تحدثت عن النيل وغيره من الآلهة لم تشر مطلقاً إلى وجود قربان بشري في عداد القرابين التي اعتاد المصريون تقديمها إلى آلهتهم.
عروسة القمح
إن كان المصريون قد ابتدعوا عروسة النيل لإرضاء إله الخير بعد كل جفاف، فقد ابتكروا أيضاً عروسة القمح لشكر "رنوتت" إلهة الحصاد، التي حرص المصريون على شكرها بعد كل موسم للحصاد.
صنع المصريون عروسة القمح من باكورة المحصول، وقدموها للإلهة مع وعاء ممتلئ، يضعها الملك أمامها بنفسه في احتفال مهيب.
كثيراً ما يُنادى الفتيات في مصر منذ طفولتهنّ بـ"يا عروسة"، ويقال لهن عندما يكبرن،"ماشاء الله، كبرتِ وبقيتي عروسة"، وبحسب خبراء فإن عروسة المولد والنيل وغيرها، يشرن إلى جمالها، وتضحيتها
كان يتم تضفير سنابل القمح على شكل مفتاح الحياة "عنخ"، بشكل أقرب للعروسة، وهو التقليد الذي استمر عبر عصور المختلفة، وانتقل للعصر القبطي، إذ أصبحت "عروسة القمح" أحد مظاهر احتفال الأقباط بعيد "أيوب"، تصنع فيه العروسة من سنابل القمح لتعلّق في المنازل، وعلى الأعتاب العلوية للأبواب، وكثيراً ما كانت تُترك هكذا طوال السنة إلى أن يحل العام التالي، فتُصنع بديلتها الجديدة فى أربعاء أيوب.
عروسة السبوع ورقم (7)
قدّس المصريون رقم (7)، واعتقدوا أنّه رمز للخير والسلام والحياة، واختاروا اليوم الـ(7) بعد ميلاد الطفل للاحتفال بقدومه في احتفالات تُعرف بـ"السبوع"، وارتبطت بطقوس عديدة قاومت الزمن، واستمرت كرشّ الملح 7 مرات، وتخطّي الأم على المولود 7 مرات، واستخدام الـ(7) حبوب (الفول، والأرز، والقمح، والترمس، والذرة، والفاصوليا، والعدس)، ودقّ "الهون" النحاسي 7 مرات.
وتبرز عروسة السبوع في تلك الطقوس، التي كانت في البداية عبارة عن قُلّة للبنت، وإبريق للولد، يتم تزيينهما بالورود، والأشرطة الملوّنة، ويطلقون عليها عروسة السبوع في الحالتين، إلى أن تطوّر الأمر، وأصبحت القلّة عروسة، ذات ثياب منفوشة، وبات الإبريق دمية لولد صغير ذي ثياب بيضاء.
"العروسة في كلّ أحوالها السابقة ما هي سوى رمز للأنثى".
يرى حسن الحلوجي، فنّان تشكيلي وكاتب مهتم بالتراث، في تصريح لرصيف22 أنّ العروسة في كلّ أحوالها السابقة ما هي سوى رمز للأنثى، ودالّة عليها بما تحمل من معانٍ كالجمال، واحتواء الأسرة، والفداء من أجل أبنائها، "هي الفِداء في طقوس عروس النيل، والجمال في عروسة الحلوى في احتفالات المولد النبوي".
كانت الأنثى هي العروسة، التي طالما لعبنا بها في طفولتنا، في الماضي كانت تُصنع من قماش محشوّ بالقطن، حاضرة في كل بيت، وتتقمص الفتيات دور الأمومة من خلالها، ثمّ صارت بلاستيكية، واسمها باربي، وتنطق أصواتاً مسجلة في سمّاعة.
ذكّرني الحلوجي بتلك الكلمة التي كثيراً ما يُنادى بها الفتيات في مصر منذ طفولتهنّ "يا عروسة"، وبتلك الدعوات التي تنهال عليهن عندما يكبرن، وينضجن، "ماشاء الله، كبرتِ وبقيتي عروسة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون