مع انتصاف حقبة الثمانينيات، بدأت شركة لتجارة ورق الطباعة تقع في منطقة الفجالة، وسط القاهرة، في تنويع نشاطها التجاري ليشمل، عدا تجارة الأوراق، إصدار كتب دراسية متخصصة لتلاميذ التعليم الأساسي. ثم جاءت فرصة أخرى للتوسع من خلال إصدار سلاسل من كتب الجيب للناشئة في مرحلة نهاية الطفولة والمراهقة. وهي الفئة التي يندر أن تحظى بأعمال إبداعية تناسب مرحلتها العمرية وتطلعاتها عن الطفولة وما يباح لها الاطلاع عليه.
من السلاسل التي أصدرتها "المؤسسة العربية الحديثة"، حققت سلاسل رجل المستحيل وملف المستقبل لنبيل فاروق، وما وراء الطبيعة للدكتور أحمد خالد توفيق، نجاحاً واسعاً فاق توقعات المؤسسة نفسها التي وجدت أنه بات لمنشوراتها محبون ومتابعون في أنحاء العالم العربي. وهذا ما شجعها على مغامرة جديدة ومكلفة، هي طباعة سلسلة للقصص المصورة البالغة القصر، والتي تعتمد على نقد ظواهر اجتماعية يلاحظها النشء حوله وتشغله. ولكن يُترك الحديث عنها "للكبار". بالإضافة إلى مجموعة من الألعاب المسلية على غرار ما اعتاده النشء في السلسلة الشهيرة "ميكي جيب" التي كانت تصدر في نفس الحجم عن دار الهلال المصرية. حملت السلسلة الوليدة اسم "فلاش"، وتلتها "سماش" ثم "مغامرات فلاش"، وأضحت شخصياتها الشهيرة مثل علام وتوتو عضلات ونظير والمواطن مطحون والقبطان غريق وغيرهم، مصطلحات على ألسنة النشء.
هذا الجيل عينه هو الجمهور الذي يستهدفه صناع مسلسل "فلاش" المأخوذ عن السلسلة وشخصياتها، والذي بُدىء عرض موسمه الأول في رمضان هذا العام.
حلم قديم
ظلّ حلم إحياء فلاش وإنتاج عمل بصري يخلص للسلسلة وشخصياتها أحد أحلام الكاتب خالد الصفتي، مؤلف السلسلة، الذي كان يقوم أيضاً بتصميم شخصياتها ورسم صفحاتها وإعداد مسابقاتها.
ركّز الصفتي على تحويل الشخصيات، التي تمثل نماذج يسهل رصدها في جميع المجتمعات، ولكن بمذاق عربي ومصري خالص، إلى شخصيات أوسع انتشاراً عبر وسيط يوفر التواصل معها، كالتلفزيون.
كتب الصفتي عبر صفحته على فيسبوك عن هذا الحلم، وبدأ الإعداد لتحقيقه عندما وجد شركة منتجة تحمست لتحويل شخصيات فلاش إلى مسلسل كارتون، يشرف هو على ورشة الكتابة الخاصة بالمسلسل، كي تبقى الشخصيات مخلصة لما قدمه في سلسلته من مواضيع وحكايات.
عصر ما قبل "فلاش"
يغيب عن البعض التاريخ الممتد لروايات الجيب ويعتبرون أن البداية كانت مع "فلاش" التي ظهرت في مطلع التسعينيات، لكن تاريخ النشر المصري للناشئة والاطفال، يشير إلى بداية الفكرة قبل ذلك بعشرات السنين، بالتحديد عام 1936 عندما أسس المترجم والكاتب عمر عبدالعزيز أمين دار نشر أطلق عليها اسم "روايات الجيب"، اعتمدت على تقديم ترجماته لأعمال كبار الكتاب الغربيين. فترجم ونشر روايات أغاثا كريستي وسلسلة أرسين لوبان (عرف أيضاً في مصر باسم أرسين لوبين)، كما ترجم وأشرف على ترجمة وتقديم روايات من عيون الأدب العالمي لفيكتور هوجو والأخوات برونتي وألكسندر دوما الأب وغيرهم. ومثلت ترجماته رافداً لإنتاجات السينما المصرية التي قدمت أعمالاً ناجحة مؤسسة على تلك الروايات.
مستعيناً بخفة الظل والمواقف الطريفة التي تمر بها شخصيات السلسلة من دون الانعزال عن الواقع، نجح الصفتي بروحه النقدية الساخرة في جعل سلسلة فلاش طفرة في عالم أدب الأطفال الممزوج بالرسومات التعبيرية الساخرة
استمرت روايات الجيب المترجمة في الانتشار، وهو ما شجع آخرين على تقديم أعمال إبداعية متخصصة للأطفال والناشئة، منهم الراحل محمود سالم الذي قدم عام 1973 سلسلة "المغامرون الخمسة"، المأخوذة عن سلسلة إنجليزية تسمى "كاشفو الأسرار الخمسة" (Five Find-Outers)، وصدر من سلسلة المغامرون الخمسة عشرات الكتب وقدمت في عدة مسلسلات كرتونية.
ثم قدّم سالم سلسلة "الشياطين الـ١٣"، وهي سلسلة روايات بوليسية لبنانية- مصرية صدرت لأول مرة ببيروت عام 1978 وصدر منها أكثر من 250 عدداً، وحققت انتشاراً كبيراً، وأُنتج بناء على شخصياتها فيلم سينمائي وحيد للمخرج أحمد أبوزيد، لكنه لم يحقق نجاحاً.
بعد سنوات من تلك السلاسل، أتت سلاسل روايات مصرية للجيب، وحملت المؤسسة العربية الحديثة للنشر لواء القراء الأطفال فيما عرف بـ"مشروع القرن الثقافي".
كانت سلسلة فلاش وجبة ثقافية دسمة وخفيفة في آن واحد، إذ حرص المؤلف خالد الصفتي على تقديم معلومات واقعية وطرح أفكار تفاعلية تشد القارئ وتدفعه لمزيد من القراءة والمتابعة. كانت السلسلة متماسكة وذات رؤية واضحة تقوم على تثقيف الأطفال بشكل مبسط والعمل على ربطهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، دون تركهم للروايات التي تعبر عن مجتمع مختلف عن مجتمعهم.
منذ عام 1990 حتى عام 2007، كانت سلسلة فلاش واحدة من أكثر الروايات قراءة في مصر والدول العربية
وبخفة دم المصريين والمواقف الطريفة التي تمر بها شخصيات السلسلة من دون الانعزال عن الواقع، نجح الصفتي بروحه النقدية الساخرة في جعل سلسلة فلاش طفرة في عالم أدب الأطفال الممزوج بالرسومات التعبيرية الساخرة، إذ حرص على تقديم وجبات خفيفة ممزوجة بالمعلومات والمواقف والنوادر في رمزية ملموسة لعدد من سلبيات المجتمع، فاشتهرت شخصياتها في عالم أدب الأطفال مثل المواطن المطحون (الموظف الغلبان)، توتو عضلات (البلطجي)، ونظير(الحاسد)، وعلام (مدعي المعرفة) وغيرهم من الشخصيات التي زينت سلسلة مغامرات فلاش.
منذ عام 1990 حتى عام 2007، كانت سلسلة فلاش واحدة من أكثر الروايات قراءة في مصر والدول العربية. يقول الصفتي لرصيف22: "أعتقد أن سبب نجاح سلسلة فلاش وقربها من الكبار والصغار هو شخصياتها التي جاءت من قلب المجتمع المصري، والتي تكونت على فترات متباعدة. فمع كل عدد تظهر شخصية جديدة تثري العمل".
استمر نجاح السلسلة 17 عاماً، لكن المبيعات أخذت فجأة في الانحسار وقرر المؤلف والرسام التوقف عن إصدارها. ويفسر الصفتي ذلك بقوله: "مكنش انسحاب بالظبط، في الفترة دي حسبتها غلط، وجالي عرض بره أمسك مجلة أطفال عربية. ومع الانشغال تباعدت الفترات لأن فلاش يحتاج مزاج جيد لأنها حاجة بحبها".
بعد عودته إلى مصر من رحلة اغتراب استمرت نحو ثماني سنوات، حاول الصفتي إعادة إحياء سلسلة فلاش، خاصة مع ظهور الكوميكس وانتشاره عبر السوشيال ميديا. إلا أن النجاح في تلك الفترة احتاج إلى استعداد جيد ومواكبة لمتطلبات العصر.
قبل ثلاث سنوات، قررت المؤسسة العربية الحديثة التي أصدرت روايات مصرية للجيب أن تبدأ مغامرة جديدة من خلال اقتحام مجال الإنتاج الدرامي، وتحمس الصفتي لأن تكون سلسلة فلاش باكورة إنتاج المؤسسة. يقول: "مكنش عندي مانع لأن هم كان لهم الفضل ف نجاح فلاش بانتاجهم، وبالتالي انتاج المسلسل سيكون على نفس القدر من النجاح، وبالفعل العجلة دارت. أيادينا العمل بدون أي معوقات وبدعم كامل من الشركة العربية الحديثة وأنا محظوظ بانتاجهم لفلاش".
الموسم الأول الذي يعرض على إحدى منصات المشاهدة الإلكترونية يخاطب نوعين من الجمهور، أولهما الذين تربوا على قراءة السلسلة ممن صاروا الآن أمهات وآباء لأجيال جديدة يمكن جذبها إلى السلسلة، وثانيهما محبون جدد لم يتعرفوا على السلسلة قبلاً، ولهم كُتب الجزء الأول لتعريفهم إلى شخصيات فلاش وعالمها، تمهيداً لأجزاء جديدة في المستقبل تتوسع في الحكايات المستوحاة من الواقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه