يضم مجمع كايا شهير- إسطنبول عرباً كثراً، وعلى وجه الخصوص فلسطينيين، حيث تُرى هناك واجهة كافيه مضيئة، حتى في طقسٍ بارد جداً وليل شديد العتمة. سترى من خلف الزجاج الشفاف الوجوه الباسمة وتسمع من بعيد ضحكاتٍ مترامية وربما تجذبك جلسة ثقافية وحديث ثري في إحدى الزوايا. زجاج "كافيه مريم" تتشبث به بقايا أنفاسٍ أتعبها يوم طويل في الغربة فتلتقي مساء إلى طاولة مستديرة، وتسترجع ذكريات الأوطان وحكايات الذي كان. كل هذا في "كافيه مريم" الذي أطلقت عليه أم فلسطينية اسم ابنتها التي لم تستطع انتشالها من مدينة غزة لظروفٍ خاصة. لم تكن مريم ابنة الثانية عشرة عاماً تدري أن ابتعادها عن أمها قد يصنع من اسمها علامة تجارية رائدة تجوب أنحاء العالم.
"مريم" الكافيه والمصنع والحكاية
"مريم" هو اسم براند لقهوة من بن الأرابيكا برز أخيراً واشتهر سريعاً. بزغ نجمه مع أزمة جائحة كورونا وما تركته من شح في منتوج القهوة العربية بحب الهال.
كافيه مريم، أطلقت اسمه عليه أم فلسطينية لم تستطع انتشال ابنتها من غزة، ولم يخطر ببال مريم ابنة الثانية عشرة عاماً أن ابتعادها عن أمها قد يصنع من اسمها علامة تجارية تجوب العالم.
عن بداية المشروع، تقول لرصيف22 صاحبة الكافيه إسراء المدلل، وهي فلسطينية مقيمة في إسطنبول، 32 عاماً: "الفكرة بدأت بسبب مشكلة عدم توافر القهوة العربية بحب الهال، فمع جائحة كورونا، توقفت المطارات وأغلقت الحدود، وهذا أدى إلى عدم وصول القهوة الفلسطينية أو الأردنية إلى الموزعين".
بحماسة تشرح كيف تغلبت على هذه المشكلة: "عندما بدأت المشكلة تطفو على السطح ويزداد حجم تأثيرها على المزاج، لأن مزاجي الصباحي ومزاج الكثيرين من أشباهي لا يضبط بوصلته سوى فنجان من القهوة بحب الهال. لهذا بدأت وزوجي محمد الزهارنة رحلة البحث عن القهوة وأنواعها ومصادرها وكيفية تصنيعها وتفاصيل إعدادها حتى تصل إلى فنجانٍ بين يدي المستهلك"
كافيه مريم، إسطنبول
عن كيفية الوصول إلى نوع القهوة المرغوب فيه، تفسّر: "عندما بدأنا البحث عن البن وأنواعه، تركز أساس البحث عن الطعم الذي نريد، لأن البن أنواع ولكن القهوة الزاكية لا يختلف عليها أحد. وهذا لم يكن هيناً إذ استدعى مني الجلوس مع خبراء ومتذوقين من الشرق الأوسط حتى تم الوصول إلى الرائحة والنكهة المطلوبتين، ثم وسعنا نطاق التذوق إلى الأصدقاء والأقرباء وفوجئنا بردود الفعل التي كانت إيجابية غير متوقعة".
كيف استمرت أم مريم بصنع قهوتها؟
بما أن الحفاظ على استمرار النجاح بعد البدء أصعب ما يكون، كيف استمرت أم مريم بصنع قهوتها؟ تجيب: "بعدما رسى الاختيار على بن الأرابيكا و"التحويجة" وهي خلطة تعطي النكهة المميزة لقهوة مريم، بدأنا بالطحن لدى أماكن لا نملكها، ثم أردنا أن نطلق اسماً على القهوة فلم أجد سوى اسم مريم، ابنتي البعيدة عني. وبما أن القهوة بالهال تذكرنا بالوطن البعيد وبكل بعيد عنا، فهي أيضاً مثل مريم البعيدة ومن هذا النطاق الفلسفي أتى اسم قهوة مريم".
"بدأت المشكلة تطفو على السطح ويزداد تأثيرها على المزاج، لأن مزاجي الصباحي ومزاج الكثيرين لا يضبط بوصلته سوى فنجان من القهوة بحب الهال. لهذا بدأت وزوجي رحلة البحث عن القهوة ومصادرها وكيفية تصنيعها"
وعن اتساع المشروع تقول: "أنا وزوجي لم نكن نملك شيئاً، لدينا العديد من المسؤوليات، ولكن وجود الأحباء من حولنا دعمنا كثيراً في إنشاء مصنع وكافيه مريم، لهذا فإن حبنا للقهوة واجتهادنا على الفكرة قد أوجدا لنا المال اللازم للتوسع"
عن الخروج من نطاق تركيا إلى الدول العربية، تشرح: "كان رهاننا قائماً على مذاق القهوة لا الدعاية ولا العلاقات، فقمنا بإرسال عينات إلى موزعين في الدول العربية، فأبدوا إعجابهم بها حتى وصلت إلى تسع دول عربية في بادئ الأمر، ثم كانت عمليات الشحن إلى بعض الدول مكلفة من حيث الضرائب والجمارك. فعندما أردنا أن نشحن قهوة مريم إلى فلسطين كانت الضريبة مضاعفة لغزة والضفة، ولم يكن هناك أي ربح، كذلك العراق، لكنني لم آبه، لأني أريد أن تصل قهوة مريم إلى الجميع".
"كان الهدف أن تدخل مريم إلى كل بيتٍ"
ولأن كل رحلة نجاح تمر بالكثير من العقبات والعراقيل، تعلّق إسراء بشيء من الحماسة:" كونك فلسطينياً فأنت دوماً أهل لمواجهة كل العراقيل بسبب جنسيتك. ولكن السلطات التركية ساعدتنا بوجود ممثل قانوني أثناء الإجراءات وبعدها، مما جعل أمر فتح شركة في تركيا أسهل بكثير من أوروبا. وبدايتنا كانت برأس مال بسيط، ثم أتى موضوع تسعير المنتج، ووضع تسعيرة تسمح للجميع بأن يشتروه، لأن الهدف أن تدخل مريم إلى كل بيتٍ".
قهوة فلسطينية وفنجان إيطالي وغلاّية تركية
ولقهوة مريم طابع فلسطيني بحت، فشعارها بالأحرف العربية، ومميز بتطريزة قاع الفنجان، ولونه بلون التراب والشجر، وتمت إضافة بيت شعر لأحد الشعراء الفلسطينيين إلى مغلف القهوة ليكون كـ"البوك مارك". وهو ما جعل علامة مريم التجارية تتألق. تقول إسراء: "توسعت علامة مريم التجارية لتشمل كل ما يتعلق بأصول القهوة كالفناجين وغيرها. فقد التقينا بسيدة تركية تجيد صنع فناجين إيطالية من السراميك الإيطالي، فأصبحت تنتج لمريم بشكل خاص، بالإضافة إلى "غلاية" الغاز النحاسية المصنوعة يدوياً والتي أصبحت غير متداولة بين الناس لشيوع الأجهزة الكهربائية".
"يخصص المقهى قسماً لعرض المطرزات الفلسطينية لنساء من غزة. ويُعرض إلى جانب القهوة الكعك الفلسطيني والمعمول وبسكويت الجرادة ليشعر الزائر عندما يرى قائمة الكافيه كأنه في بيته"
أما الكادر العامل داخل المقهى تقول عنه إسراء بفخر:" كل من يعمل في المقهى هو فلسطيني من قطاع غزة. الغزيون يفرضون أنفسهم على الساحات التي يكونون بها، فسمتهم المهارة والإبداع. كما أن المقهى يخصص قسماً لعرض المطرزات الفلسطينية لنساء من غزة، بشكلٍ مجاني. ويُعرض إلى جانب القهوة الكعك الفلسطيني والمعمول وبسكويت الجرادة ليشعر الزائر عندما يرى قائمة الكافيه كأنه في بيته أو في حديقته الخاصة".
مريم الصغيرة ينتظرها الحلم والمسؤولية
أما عن شعور مريم جراء هذا النجاح الباهر تقول أمها: "كانت مريم رفيقتنا في كل خطوة منذ ولادة الفكرة حتى اليوم. فقد أرسلت لها عينات من القهوة إلى حيث تقيم في غزة، وأخذت رأيها في كل خطوة. وحينما تنامت شهرة العلامة التجارية في غزة، أصبحت مريم، وهي الفتاة الخجولة، مشهورة جداً بين قريناتها في المدرسة، وتوقفها الطالبات لأخذ صورة معها. فعلى وسائل التواصل الاجتماعي وعلى جداران الكافيه أينما وجدت قهوة مريم وجدت صورة مريم".
وبعد آهٍ طويلة ممزوجة بطعم النجاح تختم إسراء: "لطالما ظننت أنني سأورث مريم أثوابي الفلسطينية المطرزة، والكتب والحكايات وفناجين القهوة، لكن إرثها اليوم سيكون كبيراً على كبر الحلم في كافيه ومصنع مريم الذي صدّر قهوته إلى أنحاء العالم. لربما لا تشعر هي اليوم بثقل المسؤوليات التي جلبها نجاح العلامة التجارية، لكنها على دراية بحجم حب الناس لها".
ويبدو أن مريم التي وجد اسمها في الديانات السماوية الثلاث، هي هبة المغتربين ومؤنسهم في الغربة، وتذكير للجميع بفلسطين وقضيتها العادلة وبكفاح أمّ حولت فنجانٍ بن صباحي إلى حبل وصل سري، يجمع المحبين كلهم، إن لم يكن واقعاً ففي الذكرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...