المكان والزمان يخيم عليهما الحزن، والدموع تتساقط من عيون الجميع. النساء يرتدين الأسود الداكن، وغالباً ما يزلزل بكاؤهن الملتاع المكان، فيما يقف الرجال في صف طويل، يتلقون واجب العزاء. كل هؤلاء يحتضنهم صوان كبير، يجلس في آخره شيخ يرتدي الزي التقليدي ويتلو آيات من القرآن.
هذه صورة لا تكاد تتغير لمراسم العزاء في صعيد مصر وريفها، لكنها مقدمة لمشهد قد يبدو لغير المصريين غريباً. فعقب الانتهاء من مراسم الدفن يتناول أهل الفقيد والمعزون وجبة دسمة، عمادها الفتة (الثريد) وبعض الخضر المطهوة والأرز واللحم، وأحياناً نصيب من الفاكهة، في وليمة أُعدّت على روح الفقيد، يسمونها في بعض نواحي الصعيد "المديدة".
مع أن عادة الولائم للأهل والأصدقاء في تجمعات العزاء ليست مقتصرة على مصر، وتوجد في ثقافات أخرى شرقية وغربية، إلا أنها تتخذ في مصر أهمية خاصة، ولها قوانين صارمة في العُرف يلتزمها الجميع
موروث قديم
طهو الطعام في العزاء بمصر عادة متوارثة، يصعب رصد متى بدأت تحديداً وإن هناك دلائل على أن لها جذوراً في الحضارة المصرية القديمة.
ومع أن عادة الولائم للأهل والأصدقاء في تجمعات العزاء ليست مقتصرة على مصر، بل هي عادة موجودة في الكثير من الثقافات الشرقية والغربية، إلا أنها تتخذ في مصر أهمية خاصة، وتختلف في تقاليدها المتصلة بنوعية الطعام ومواعيده وعاداته بين منطقة جغرافية وأخرى داخل الإقليم المصري الممتد على مساحة مليون كيلومتر مربع. ولها قوانين صارمة في العُرف يلتزمها الجميع. وتلك القوانين قد تتسبب في حدوث ضائقة مالية لأحدهم من أجل أن يطهو الطعام المتعارف عليه، وقد تكون "موت وخراب ديار" للبعض الآخر، وتنطوي على قدر من التفاخر بالنسبة لكثير من العائلات.
بين "بَحَرِي" والصعيد
العادات المصرية في الريف والصعيد لها لون خاص، ويستوي الزفاف والعزاء في إقامة ولائم الطعام. وعلى الرغم من غياب أية أبحاث أو وثائق يمكن من خلالها الاقتراب من جذور تلك العادات، ينسب الكثيرون أصل العادة إلى "سنة نبوية" وهو ما لا يفسر وجود العادات نفسها لدى المسيحيين المصريين.
لكن التراث الإسلامي يحتوى على بعض الشواهد التي تقول إن تلك العادة وجدت كذلك في شبه الجزيرة العربية وإن نبي الإسلام (ص) دعا إليها وأيد مارستها. من تلك الشواهد حديث منسوب للنبي يقول فيه عقب موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب: "اصنعوا لآلِ جعفر طعاماً، فقد أتاهم أمرٌ يشغلُهُم". وقال الإمام الشافعي "أحب لعائلة الميت وجيرانه أن يصنعوا لأهله طعاماً يشبعهم فإن ذلك سنّة وذكر كريم".
باتت مناسبات العزاء فرصة لإظهار كرم الأسرة و"غلاوة الميت" من خلال حجم الوليمة وجودة ما يقدم فيها من طعام وشراب
لكن يبدو أن مرور الزمن أضفى على تلك "السُنّة" أبعاداً أخرى، اجتماعية في الأساس، تتصل بتوفير الطعام للمعزين القادمين من مدن بعيدة، بعد انتشار النزوح من القرى والمدن عن القاهرة نحو المدن والمراكز التي تتمتع بنصيب أوفر من الخدمات والفرص، وهذا ما أدى إلى تشرذم العائلات التي كانت يوماً تسكن نفس القرى وتتجاور في مساكنها. كذلك باتت مناسبات العزاء فرصة لإظهار كرم الأسرة و"غلاوة الميت" من خلال حجم الوليمة وجودة ما يقدم من طعام وشراب.
من دمياط إلى أسوان
الحاج جابر مصطفى جابر الذي يسكن محافظة دمياط الساحلية ذات الطابع الريفي، لا يزال يحافظ على "السُنّة"، ويحرص وأسرته على إقامة ولائم الطعام للمعزين إذا ما أصاب الأسرة مصاب.
يقول جابر لرصيف22: "إلى جانب كونها سُنّة، فالعادة أصلها إطعام الغرباء لكسب ثواب للميت، لكن تطور الأمر حتى باتت واجباً بين الناس لا يمكن إهماله. هذه العادة لن تنتهي ما دام هناك مسلمون في الأرض، وسوف تظل تقدم حتى لو أصبحت مجرد عادات ومجاملات".
في سوهاج بالصعيد، أفنى الشيخ أيمن منصور منصور حياته في قراءة القرآن بالعزاء، ويحظى بمحبة خاصة لدى أبناء المحافظة، فهو من يرتل القرآن ويضفي جواً روحانياً. وخوّل له موقعه المميز أن يشهد ولائم عزاء لا تحصى، رأى فيها "ما لذ وطاب من أنواع الأطعمة".
يقول الشيخ أيمن إنه في أحد مجالس العزاء في بلدته، أولمت الأسرة وليمة تجاوزت تكلفتها 25 ألف جنيه (1300 دولار)، ويواصل: "في أحد العزاءات قدم أحدهم لي طعاماً به العديد من الأصناف الشهية، ويتوسطه ديك رومي، ما يجعل الفقراء دوماً في مأزق إذا وقع بالبيت حالة وفاة، لأهم غير قادرين على منافسة هذا البذخ ويضطرون أحياناً للاستدانة".
فرح أم عزاء؟
في مركز كوم حمادة في محافظة البحيرة -شمال غربي العاصمة- تختلف عادة طهو الطعام في العزاء قليلاً. هناك ينطبق على الحال المثل الشعبي المصري "موت وخراب ديار"، إذ لا يطهو أهل الفقيد الطعام بأنفسهم، بل عليهم استئجار طاه محترف لإعداد الوليمة في الفرح أو العزاء، وبعد إنجاز الذبائح وإعداد الطعام، تظهر القدور المنتفخة بالأطعمة كي يكيل منها المعزون. والأكل هنا فرض واجب، وإلا يعد المعزي الذي يرفض الطعام قاصداً إهانة الفقيد وأسرته.
يقول إسلام رمزي الذي يسكن في مركز كوم حمادة لرصيف22 إن أحد جيرانه ذبح عجلين لإطعام المعزين القادمين لمواساته في وفاة والده، وهو "أمر مشرِّف"، ويضيف: "هناك بسطاء يذهبون إلى العزاء خصيصاً من أجل تناول الطعام وليس أداء الواجب، ولكن هناك من يذهب إلى العزاء ليرصد ويقيم مدى كرم الأسرة ووفائها للفقيد".
ماذا يحدث إذا كانت حالة أهل الميت المادية لا تسمح بالذبح وإعداد طعام؟
وماذا يحدث إذا كانت حالة أهل الميت المادية لا تسمح بالذبح وإعداد طعام؟ يجيب رمزي: "كل بيت من العائلة والجيران يخرج صينية أكل للحضور، ولكنها لا تقل قيمة عن طعام الطباخ، فيها اللحوم والفواكه وحصة من أشهى الأطعمة".
الأمر يختلف في القبائل البدوية تماماً عن الصعيد ووسط الدلتا، فحينما يموت أحدهم يعدّون فوراً الذبائح، يقول الشيخ محمد طاحون الذي ينتمي لإحدى القبائل البدوية في الشرقية: "حينما نقيم العزاء يأتي الأقارب من سيناء ومطروح وغيرهما، ويأتي أبناء القبائل الأخرى، لذا لا بد من وجود ذبيحة من أجل ضيافة هؤلاء. ولا يوجد وقت محدد للطعام، بل يقدم الطعام على مدار الساعة".
يبدأ الـ"أوبن بوفيه" وفق وصف الشيخ عقب الانتهاء من مراسم الدفن، ويظل مفتوحاً لاستقبال المعزين الذين تأخروا عن موعد المراسم.
صراع ومعاناة
لتلك العادة جوانب محمودة اجتماعياً، من حيث مشاركة الجيران والمعارف في التراحم والمساندة، وتوفير الطعام الشهي لمتواضعي الحال، لكنها كذلك سبب للمشاحنات والتنافس واضطرار بعض العائلات للاستدانة كي يستطيعوا الوفاء بمصروفات العزاء.
يتذكر الحاج جابر مصطفى ساكن دمياط واقعة جيران له، ظلوا يكدحون عامين لسد الدين الذي اقترضوه من أجل إقامة وليمة عزاء: "وكل ده عشان العادات والتقاليد، يعني موت وخراب ديار". مضيفاً أن ضغوط "رد الواجب"، أي المشاركة بأطعمة ومشروبات في الوليمة رداً على مشاركة أهل الميت سابقاً في واقعة وفاة لدى أسرة أخرى، يجعل بعض الأسر المتواضعة الحال تحيا في حالة دين شبه دائم: "هذا واجب عليك لا محالة. إذا كانت حالتك المادية جيدة، فقد ينجيك من المشاكل التي تواجهها، أما إذا كنت فقيراً، فلا بد أن تضطر لاقتراض بعض الأموال لتنفيذ هذا الواجب المكلف".
محظورات خاصة
الطعام الذي يصنع في العزاء يشتمل على قائمة من أفخر الأنواع وأشهاها، إلا أن في الأمر بعض المحظورات التي يجب أن لا يتخطاها أحد من عائلة الميت وأهله وأقاربه. هذه المحظورات طالت الطعام نفسه، فيمنع الجميع من أكل الأشياء التي تشير إلى حالة البهجة والسعادة لدى البعض، والتي يلخصها الكثيرون في "محشي الكرنب، العيش باللحمة، الرقاق، السمك، الفطائر"، وغيرها من الأكلات التي تفتح الشهية، لما يرون في ذلك نوعاً من "الشماته في أهل الفقيد". لذا يُحرم الجميع من تناول هذه الأطعمة أسبوعاً على الأقل.
يقول جابر مصطفى إن قوائم الطعام التي تقدم في العزاء معروفة، وهناك أعراف تحددها "فلا بد أن تختار من اللحوم أفضلها، ومن الطيور أجملها، ومن الفاكهة أكثرها طزاجة، إلى جانب الابتعاد عن المحظورات".
يؤكد علي عادل الأمر ذاته: "حينما تحدث حالة وفاة لا يجوز أن يقيم أحد الأقارب أو أحد الجيران حفل زفاف لمدة عام على الأقل، وأيضاً تمنع المخبوزات مثل البسكويت والفايش والفطير المشلتت، ولا يستخدم التلفزيون مدة طويلة "لأن هذه الأشياء تشير إلى عدم تقدير حرمة الميت والشماتة به". إلا أن بعض المناطق في البحيرة كما ذكر إسلام رمزي تضرب بهذا الأمر عرض الحائط، رغم أن الفطير المشلتت والعسل - وهما من الأكلات المفضلة للمصريين - يعتبران من قائمة الطعام المحظورة في العزاء إلا أن رمزي يؤكد أن قبيلة بجوار بلدتهم تكسر هذه العادة.
الدكتور محمد عبد الحليم المدرس بقسم التاريخ بجامعة القاهرة، قال إن هذه العادة المنتشرة بين المصريين، بدأت سنّة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عقب موت جعفر بن أبي طالب، وظل الأمر يتكرر بين القبائل العربية، وخير دليل على ذلك أبيات القاضي صدر الدين بن العز الحنفي، التي ذكرت في كتاب "فص الخواتم فيما قيل في الولائم" لابن طولون:
أسامي الطعام اثنان من بعد عشرة... سأسردها مقرونة ببيان
وليمة عرس ثم حُرس ولادة... عقيقة مولود وكيرة بان
وضيمة ذي موت نقيعة قادم... غدير أو إعذار ليوم ختان
ومأدبة الخلان لا سبب لها... حذاق صبي يوم ختم قرآن
وعاشرها في النظم تحفة زائر... قرى الضيف من نزل له بأمان
وفي بيان معاني تلك الأبيات السابقة، قال "القاضي صدر الدين بن العز الحنفي" إن الوضيمة هي الطعام الذي يتم طهوه لأهل الميت خلال الأيام الثلاثة التالية على وفاته، الأمر الذي يشير إلى أن العادة ذاتها كانت منتشرة بين القبائل العربية، فيما يشير عبد الحليم في حديثه لرصيف22 إلى أن العادات التي ظهرت قبل مئات السنين تتطور مع تطور الزمن، "العادة كانت الطهو لأهل الميت، الآن باتت وليمة يأكل منها الأقارب والجيران".
وليمة على جدار المعبد
البعث والرحلة إلى العالم الآخر، شكّلا قناعة راسخة لدى المصريين القدماء، لذا كانوا يشيدون المقابر الفخمة، ويعدون العُدة من أجل الرحلة الطويلة التي تلي الموت، وكانت قبورهم تحتضن العديد من الأشياء التي تدفن مع الميت، من ذهب ومجوهرات ونصوص مرسومة على الحائط تستخدم لحماية الجسد وإحيائه، إلى جانب الأطعمة والمشروبات التي يرجح أنها إما كانت قرابين للأرواح التي ترافق الميت في العالم الآخر، أو مخصصة لتعين الميت نفسه على مشاق الرحلة التي قد تطول.
وقد يكون هناك رابط بين الولائم في العزاء والمعتقدات القديمة عن حاجة المتوفى إلى "القوت" في العالم الآخر.
عام 2018، عثر باحثون في جامعة كاتانيا الإيطالية على أقدم قالب جبن في العالم في إحدى مقابر سقارة. وفي دراسة أجرتها سليمة إكرام، أستاذة المصريات بالجامعة الأمريكية، عثر على لحوم محنطة ومعدة ومغلفة بـ"الراتنج" - وهي مادة صمغية كانت تستخدم ضمن لفائف التحنيط.
وترى إكرام أن هذا يوضح مدى عناية المصريين القدماء بالحياة الآخرة التي ينتقلون إليها. كما اكتشف الفريق العامل مع إكرام بمقبرة آباء الملكة تي زوجة أمنحتب الثالث ويعرفان باسم يويا وتويا، عيّنة من أضلاع اللحوم، التي كانوا يعتنون بها جيداً في التحنيط كي تدوم مدة طويلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع