يحمل حقيبته الصغيرة قاصداً محطة القطار أو الأتوبيس، يبتسم كلما تذكر أن رحلته تُبعده عن نطاق عمله أو مسكنه مسافة زمنية لا تقل عن 10 ساعات، يكرر الأمر كلما سنحت له الفرصة. تزداد سعادته بمصاحبته لذاته من دون غيرها. يحاول أن يستبعد التفكير في رحلة العودة، فمجرد التفكير فيها يعني التفكير في كل ما يخلفه وراءه. فليستمتع إذن بالفاصل القصير، فهو يعرف ان حالته ستزداد سوءاً عندما يعود بعد أيام إلى روتينه اليومي.
استغرقه الأمر عدة سنوات، حتى واجه نفسه بحقيقة أنه لم يعد راغباً في تلك الحياة التي ظل يسعى ويعمل لتحقيقها سنوات طويلة. فما يرغب فيه حقاً هو الابتعاد، وترك الأشياء المضمونة، والتضحية بالحياة في كنف الأٍسرة والوظيفة الثابتة التي تدر دخلاً ثابتاً، في سبيل مصير مجهول يعلم يقيناً أنه مريح.
هذه حكاية أبطال تقريرنا، الذين رفضوا السير على الدرب الآمن، واتحدوا على قرار اغتنام فرصة الابتعاد عن الوادي الضيق الذي يضم أغلب المحافظات المصرية، ليرحلوا إلى أطراف الخريطة، ما بين سيوة في الصحراء الغربية وأسوان في الجنوب، وحتى دهب في أقصى الشرق، في تيار يسير في اتجاه معاكس لما دأبت عليه المجتمعات شديدة المركزية كالمجتمع المصري، حيث تتركز السلطة والخدمات والفرص جميعها في المركز وحده من دون الأطراف، فيهاجر الجميع إليه في الوقت الذي تغيب فيه التنمية وفرص العلاج والتعليم الجيد عن تلك الأطراف.
هذه حكاية أبطال تقريرنا، الذين رفضوا السير على الدرب الآمن، واتحدوا على قرار اغتنام فرصة الابتعاد عن الوادي الضيق الذي يضم أغلب المحافظات المصرية، ليرحلوا إلى أطراف الخريطة
بحث عن الاستشفاء
استطاع عبدالرحمن التهامي، 35 عاماً، أن يجد فرصة عمل لائقة كمُحلل ومُطور عمل، في فرع لإحدى الشركات الفرنسية العاملة بالقاهرة. لكن رغم الوظيفة المستقرة والامتيازات التي يحلم بها ملايين الشباب في عمره من راتب مرتفع كفل له شراء سيارة خاصة وتأميناً صحياً لائقاً وغيرهما، وجد أن روحه تظلم يوماً بعد يوم. يقول لرصيف22: "الوظيفة قاتلة للروح والجسد والعمر. وجدتني أقضي 15 ساعة من يومي جالساً على كرسي أمام الكمبيوتر. بدأت أعاني مشاكل صحية تبدأ من زيادة الوزن وانزلاق الغضاريف ولا تقف عند ذلك، أما روحي وعقلي، فقد أصابهما الاكتئاب".
قرر مطور الأعمال الشاب خوض تجربة جديدة بحثاً عن الاستشفاء النفسي والجسدي. ترك وظيفته، وانتقل إلى أسوان في جنوب مصر ليعمل في فندق صغير"موتيل" على ضفاف النيل. وبسبب خبرته في مجاله استطاع أن يكون مديراً للفندق بعد أسبوعه الأول في العمل. يوضح التهامي أن الميزة الوحيدة في تحمل مسؤولية الوظيفة الجديدة هي حصوله على نسبة 14% من دخل الفندق، وهو ما لم يحدث في عمله السابق رغم مشاركته بأفكار أتت إلى شركته السابقة بأرباح بلغت 40 مليون جنيه في عام واحد، من دون مكافأة لائقة.
رغم الوظيفة المستقرة والامتيازات التي يحلم بها ملايين الشباب في عمره من راتب مرتفع كفل له شراء سيارة خاصة وتأميناً صحياً لائقاً وغيرهما، وجد عبد الرحمن أن روحه تُظلِم يوماً بعد يوم
كانت التحديات في التجربة الجديدة مختلفة. فلم يكن من السهل أن يقتنع البعض بأنه قرر ترك الوظيفة الثابتة في الشركة الكبرى ليبدأ من جديد في مكان على أطراف مصر. يقول التهامي إن البعض اعتقد أنه فُصل من العمل أو سرق شيئاً، ولم يكن أحد يصدق أن هناك من يقرر ترك كل شيء بحثاً عن تجربة جديدة وبعض الهدوء.
لكن الوقت الطيب لا يدوم. انتهت رحلة التهامي في أسوان بسبب فيروس كورونا المستجد وآثاره على السياحة، فاضطر للعودة إلى الأسكندرية مدينته الأصلية ليبدأ مشروعاً صغيراً يتصل برعاية الحيوانات الأليفة، ليحقق حلماً خاصاً راوده منذ سنوات.
الاستقرار هدفاً
كما كانت جائحة كورونا سبباً في نهاية تجربة التهامي في أسوان، كانت هي الحافز الأكبر للمخرج المسرحي أيمن الجوهري وزوجته لاتخاذ قرار لم يكن لديهما الشجاعة الكافية لحسمه من قبل.
كان الجوهري ابن الأسكندرية يعمل في مجال الإنتاج المسرحي بشكل مستقل، وكان قد شارك في العديد من المسرحيات المصاحبة للحملات التوعوية مثل ختان الإناث، وبعض العروض الخاصة.
كانت سيوة محطة رئيسية في حياة الجوهري وزوجته علا، التي اعتادت السفر لمساعدة فتيات سيوة في تعلم الأعمال اليدوية والمشغولات، بينما يصاحبها أيمن بهدف الاسترخاء، وهو ما تنجح الواحة في توفيره في كل مرة، إلا أنه كمُحب للطعام لم يكن يكتفي بما يُقدم من أصناف محدودة في مطاعم الواحة، حسب قوله لرصيف22.
يقول أيمن إن رحلاته المتكررة إلى الواحة بدأت عام 2015 حيث اعتاد الذهاب إليها مرتين أو ثلاثاً في العام الواحد، بينما بدأت رحلة زوجته مع الواحة وأهلها منذ عام 2006، ومع توقف العمل المسرحي بسبب جائحة كورونا، قررا تنفيذ حلم راودهما منذ سنوات، وهو افتتاح مطعم لتقديم أكلات متنوعة لزوار سيوة.
لم تسمح طبيعة الواحة ومحدودية الخيارات في توفير المواد الخام للأصناف التي يُقدمها "مطعم علا" الذي يقوم أيمن فيه بمهمة الطبخ، فلجأ إلى تقديم أكلات سيوية تُقدم في منازل الواحة ولم تخرج إلى المطاعم مثل "المجردك"، إضافة لاعتماده وزوجته على لحم"الإبل" نظراً للطبيعة الصحراوية. ويشير إلى أنهما لجأأ أيضاً لمكونات البيئة من زيتون وتمر وحاولا استخدامها في عدة أكلات.
بدأت مغامرة الزوجين عام 2021، فحصلا على قطعة أرض أُقيم عليها منزل صغير، إضافة إلى المطعم، واستمر العمل نحو عام راوح الدخل فيه مبين الجيد والمتوسط. يقول الجوهري إن العائد يغطي المصروفات في بعض الأوقات ولا يغطيها في أوقات أخرى، موضحاً أن موسم الشتاء هو الأفضل، وأنهما خلال العام الأول حصلا على تقييم عالٍ من الزائرين فأصبح مطعمهما في الصف الأول على موقع تريب أدفايزر Trip advisor.
يعتمد الزوجان على عمال من الواحة لمعاونتهما. كما أسسا مدرسة لتعليم الطبخ استكمالاً لما يعدّانه دوراً لهما في المساهمة في العمل التنموي داخل الواحة. يقول الجوهري إنهما وجدا استقبالاً جيداً من أهالي الواحة، وأن أصحاب المطاعم المجاورة رحبوا بهما وساعدوهما كثيراً، مرجّعاً ذلك إلى طبيعة أهل الواحة الودودة، التي ساعدتهما على التأقلم سريعاً والتآلف مع الغربة.
يبتعد كي يقترب
لم يكن العمل هو هدف سيف ماهر* في رحلته إلى دهب، بل كان الهدف كما يصفه هو "التقاط الأنفاس والبحث عن نفسي".
اتخذ سيف قرار الرحيل عندما بلغ الرابعة والعشرين، وكان قد تخرج في كلية السياحة والفنادق وعمل في البدء "مساعد شيف" وتدرج في وظيفته بنجاح على الرغم من شيوع تخصصه وصعوبة إيجاد فرصة عمل فيه، خاصة في القاهرة. إلا أن الاختلاف الدائم بينه وبين أسرته بحكم تمرده ومحاولته رسم ملامح واضحة لشخصيته تعبر عن قناعاته، حال دون أن يجد في نجاحه استقراراً.
يقول ماهر لرصيف22 إنه واجه انتقادات من محيطه العائلي تصل حد الاتهام، فالبعض رأى انتقاله للعيش في دهب وانطلاقه في حياة جديدة أقل قيوداً "خروجاً عن المألوف وسيراً في طريق الخطأ والابتعاد عن الدين، لأن مجرد الترويج لمكان عملي بمقاطع مصورة تتضمن مقطوعة موسيقية أو رقصة لشاب وفتاة في الخلفية خروجاً على الدين" بحسب قوله.
عانى ماهر في مرحلة مبكرة من صعوبة التعبير عن نفسه، ويذكر أنه كان يقابل "الحجر على أفكاره" بتمرد زائد، وهو ما لم يرقه. ويلفت إلى أن قرار الابتعاد جاء "للحفاظ على صلتي بأسرتي"، وأنه اصطبغ بطبيعة دهب الهادئة والمرنة، "فالمدينة تستوعب أشخاصاً من كافة الجنسيات، حتى أن المصريين المقيمين فيها يستطيعون التعبير عن ذاتهم بشكل أفضل وهم أكثر انفتاحاً وقبولاً للآخر"، وفق قوله.
خمس سنوات قضاها سيف ماهر ممارساً "الحياة في دهب"، واستطاع خلالها اتخاذ خطوات يرى أنه "لم يكن يجرؤ على التفكير فيها" وهو في بيت الأسرة، نظراً لقناعات والديه التي يصفها بـ"المتشددة دينياً". يقول إنه أعلن ارتباطه بفتاة أجنبية قبل سنوات، وحرص على إبلاغ الأسرة قبل الإعلان عن ذلك، ففوجىء باتهامه بالكفر والسطحية.
وفرت دهب لماهر ما لم يجده في مدينته الأم. يصف مشهد وصوله لمنزله القاهري الواقع بين البنايات المرتفعة وسط أصوات المواصلات ونداءات الباعة الجائلين بأنه "فيلم رعب"، على عكس ما يراه في موطنه الجديد. يعمل ماهر حالياً موظف استقبال ومنظم رحلات داخلية في المدينة، وهو ما يضمن له حياة هادئة "بعيدة عن الصراعات".
-------
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع