تحاول بعض العائلات العربية التي تعيش في أوروبا أن تنقل معها عادات المجتمع الأصلي وتقاليده وأن تورّث أبناءها هذه العادات، وفي سبيل ذلك تمارس الكثير من الضغوط لتحافظ قدر الإمكان على النظام الأبوي الموروث ضمن حدودها المنغلقة.
النساء هن من يتحملن العبء الأكبر، إذ تسعى هذه العائلات العربية جاهدة إلى عزلهن عن المجتمعات المضيفة قدر الإمكان، ليبقين تحت كنف العائلة. في المقابل نجد أن بعض العائلات العربية عموماً والسورية خصوصاً، تتقبل انفتاح أولادها الذكور على نمط الحياة الأوروبي، ولا تعارض استقلالهم وخوضهم تجارب جديدة غير مقبولة في المجتمع الشرقي، كعلاقات المساكنة مثلاً، بينما نجد هذه العائلات ذاتها تعارض عموماً استقلال الفتاة وخروجها من بيت العائلة أصلاً.
ففي الثقافة الشعبية السورية مثلاً، العديد من الأمثال التي ترسم خط حياة المرأة بالمجمل، مثل: "قبر المرأة بيت زوجها" و"البنت ما بتطلع من بيتها إلا لبيت زوجها، وما بتطلع من بيت زوجها إلا للقبر". هذه الثقافة السائدة تنعكس عند العائلات السورية في أوروبا بالتمييز في التعامل بين الذكور والإناث.
في هذا السياق تقول آية، سورية تقيم في برلين مع عائلتها: "عندما انتهى أخي من دراسته الجامعية، قرر أن يترك البيت ويقيم بمفرده. حينها رفضت أمي الفكرة، لكن أبي أقنعها بالموافقة، على اعتبار أن دعم أخي بخياراته هو طريقة لكسبه والحفاظ عليه بالغربة، وأنه سيترك البيت آجلاً أم عاجلاً ليتزوج ويكوّن أسرة. واعتبر أيضاً أن خروجه من البيت فرصة لكي يتحمل المسؤولية باكراُ، الأمر الذي جعلني أتشجع لأطلب منهما الطلب ذاته عندما أنهيت دراستي الجامعية، إلا أن طلبي قوبل بالرفض القاطع، ليتفق أبي وأمي على جواب واحد: ما إلك طلعة من البيت إلا على بيت زوجك".
العائلات العربية عموماً، تتقبل انفتاح أولادها الذكور على الحياة الأوروبية، ولا تعارض خوضهم تجارب جديدة غير مقبولة في المجتمع الشرقي، كعلاقات المساكنة، بينما هذه العائلات ذاتها تعارض استقلال الفتاة وخروجها من بيت العائلة.
لا يوجد قانون أو عُرف في أوروبا يجبر الفتيات على البقاء بمنزل عائلاتهن، كما هو الحال في سوريا ومعظم البلدان العربية. فالقانون هنا يدعم الحريات الفردية. لذلك تلجأ معظم العائلات السورية لأساليب مختلفة لضبط زمام الأمور ومنع بناتها من مغادرة بيت الأسرة، كالابتزاز العاطفي والتهديد بالقطيعة والنفي من الأسرة. تقول أسماء، جزائرية تقيم في مرسيليا مع زوجها: "عندما علمت والدتي أنني أبحث عن شقة لأسكن وحدي، هددتني بأنني اذا تركت المنزل فستقاطعني حتى يوم مماتها، وانهارت بعد الحديث لتبين لي أن مجرد الحديث بالموضوع يجعلها تمرض. خفت عليها حينذاك، خصوصاً لأنها مصابة بداء السكري، وخشيت أن يصيبها مكروه بسببي وأن تنفذ وعيدها وتقاطعني بالفعل، فرضخت لرغبتها ونسفت الفكرة من رأسي، ولم أغادر بيت عائلتي إلى أن تزوجت".
وأحياناُ تكون ردة فعل الأهل مبالغاً بها بغرض ردع باقي أفراد الأسرة. تقول نوران، سورية تقيم في باريس بمفردها: "كنت أقيم مع عائلتي في مدينة ليل منذ أن وصلنا إلى فرنسا، وعندما أنهيت دراسة الثانوية، كنت أود أن التحق بجامعة السوربون في باريس. لم يكن لدى أمي مشكلة ولكن أبي عارض الفكرة وخيرني بين الدراسة في جامعات ليل والتوقف عن الدراسة بالمطلق، لأن فكرة السفر والعيش بمفردي غير ورادين إطلاقاً. لكن كلماته لم تردعني، فتقدمت لمنحة لدراسة الطب في جامعة السوربون في باريس، وتم قبولي، وتحديت قرار أبي لأني لا أريد أن أضيع فرصة الدراسة في أهم جامعات فرنسا. عندما سافرت، أرسل لي أبي رسالة مفادها أنه يعتبرني ميتة، ومنع أخواتي ووالدتي من التحدث معي. مرت ثلاث سنوات ولم يتراجع عن قراره، أتكلم مع اخوتي وأمي سراً، وأعرف أنه يهددهم بشكل دائم من السير بطريقي، فبرأيه أنني قررت الذهاب إلى باريس لأعيش وحدي حرة بعيداً عن رقابته، حتى (أفلت) وليس من أجل دراسة الطب".
عندما علمت والدتي أنني أبحث عن شقة لأسكن وحدي، هددتني بأنني اذا تركت المنزل فستقاطعني حتى يوم مماتها
لا تلجأ كل العائلات إلى الحلول الإقصائية، بل تتجه بعضها إلى حلول دبلوماسية تنسجم أكثر مع المجتمع الجديد، لكنها تحقق الهدف ذاته، فبعض العائلات تفضل إعطاء امتيازات وصلاحيات للفتيات بالنوم خارج المنزل والذهاب برحلات لعدة أيام أو شهر، شرط عودتهن في النهاية إلى المنزل. تقول حنين، سورية تعيش في باريس مع أهلها: "عندما بدأت بالعمل فكرت باستئجار أستوديو بمفردي. عرضت الفكرة على أبي، فرفض على الفور وبرر ذلك بالخوف من أن يطرأ لي مكروه وأنا وحدي في بلد غريب، لكنه في الوقت ذاته تعهد لي أن أعيش استقلاليتي كما يحلو لي في المنزل إن بقيت فيه، وصار بعدها يسمح لي بأن أعود في ساعات متأخرة من الليل من دون أي أسئلة، ويوافق على ذهابي برحلات مع أصدقائي إلى بلدان مختلفة لأيام محدودة، ولم يعد يعارض أن أنام عند صديقاتي شرط أن يكون على اطلاع على كافة تحركاتي من باب الاطمئان. وسمح لي أيضاً باستقبال من أشاء من أصدقائي بشرط حضوره والتعرف عليهم. ربما يرى البعض أن تلك الأمور بديهية في أوروبا، ولكن هذا يعرض أبي للكثير من الانتقادات من قبل أقربائنا وخاصةً أنهم يقطنون في باريس أيضاً. فباقي البنات في عائلتنا لا يُسمح لهن حتى بالتأخر عن المنزل".
عندما سافرت، أرسل لي أبي رسالة مفادها أنه يعتبرني ميتة، ومنع أخواتي ووالدتي من التحدث معي
الخوف من الانتقادات والصورة الاجتماعية قد يكون لهما الدور الأكبر في رفض بعض العائلات العربية فكرة استقلال بناتهم، فإلى اليوم لا تزال صورة المرأة التي تسكن بمفردها مرتبطة لديهم بالانحلال الأخلاقي. وبمنظور البيئات الشرقية المحافظة، هو عار يلاحق العائلة. لذلك تلجأ بعض العائلات إلى إخفاء أمر استقلال بناتهن عن الأوساط المحيطة بهم خوفاً من التعرض للانتقادات. تقول نوف، سودانية تقيم في باريس بمفردها: "أبي منفتح ومتعلم يقبل فكرة استقلالي وعيشي وحدي، لكنه يخفي الأمر عن جدتي وأعمامي، فهو يخبرهم بأنني أعيش في بيت العائلة. لذلك يجب علي البقاء في منزل عائلتي خلال الأعياد، من أجل الظهور برفقتهم في مكالمات الفيديو العائلية، لأن استقلال البنت غير مقبول على الإطلاق عندنا، ويثير الكثير من البلبلة. لذلك نلجأ إلى الحيلة".
لا تزال صورة المرأة التي تسكن بمفردها مرتبطة بالانحلال الأخلاقي في منظور البيئات الشرقية المحافظة، لذلك تلجأ بعض العائلات إلى إخفاء أمر استقلال بناتهن عن الأوساط المحيطة بهم خوفاً من التعرض للانتقادات
بعض العائلات العربية تدعم استقلال بناتها بموجب شروط معينة، ولأسباب تتعلق بمتابعة التعليم أو العمل، إلا أنها تعتبر الاستقلال دون تلك الدوافع غير منطقي وغير مبرر ولا تصلح مناقشته إطلاقاً. تقول أم علي، سورية مقيمة في تولوز: "أنا أم لفتاتين، وليس لدي مانع في المستقبل أن تغادرا المنزل في سبيل التعليم في مدينة أخرى، أو إذا حصلتا على فرصة عمل في مكان بعيد، فأنا لا أعارض أي شيء يخدم مستقبلهما. لكن إذا لم يكن هناك سبب مقنع لن أسمح لهما بترك البيت، فعيش الفتاة وحدها أمر غير مستحب، ليس بالنسبة لي فقط وإنما بالنسبة لكل العائلات السورية. فإذا عشنا في أوروبا، لا يعني هذا أبداً أن نتخلى عن عاداتنا وتقاليدنا وعلى شكل أسرتنا".
إن الخوف الأكبر من استقلال الفتاة يتعلق بخوف الأهل من انجرارها نحو المساكنة، التي تمثل كابوساً للعائلات العربية في أوروبا، حيث لا تزال المساكنة أحد أكبر التابويات التي لم يتمكن عدد كبير من الأسر تخطيها. تقول نايا، فرنسية سورية تعيس في بوردو:" على الرغم من أنني ولدت في فرنسا، كانت لدى أفراد عائلتي دائماً تحفظات كبيرة على فكرة الاستقلالية والعيش وحدي. حاولوا كثيراً إقناعي بالبقاء في المنزل لكنني رفضت، وعندما عزمت على الاستقلال، كانت والدتي تحاصرني بالأسئلة حول إذا ما كان لدي نية لإيجاد شاب يشاركني في السكن وتتحدث بكثير من القلق عن الموضوع حتى قبل أن أفكر فيه أو أن أفعله، وطوال الوقت تحاصرني بالاتصالات والزيارات المفأجاة لتتأكد أنه ليس هناك رجل في شقتي، الأمر الذي جعلني أشعر بأنني لا أزال محاصرة حتى بعد خروجي من بيت عائلتي". أما ريهام فتقول: "لقد تقبلّ أهلي سكني في فرنسا بمفردي بعد طلاقي، ولكنهم دائماً يحذروني من أنهم سيتدخلون بقوة إذا علموا بأن رجلاً سيعيش في منزلي".
إن الخوف الأكبر من استقلال الفتاة يتعلق بخوف الأهل من انجرارها نحو المساكنة، حيث لا تزال المساكنة أحد أكبر التابويات التي لم يتمكن عدد كبير من الأسر تخطيها
بعيداً عن القيود العائلية، تواجه بعض الفتيات المستقلات مشاكل من نوع أخر، مشاكل مرتبطة بالبئية المجتمعة التي ينتمين لها، إذ تتعرض بعض النساء العربيات المستقلات في أوروبا لمضايقات من الشباب العرب، مضايقات لا تواجه النساء الأوروبيات المستقلات، والسبب يكمن في النظرة المجتمعية الذكورية للمرأة المستقلة على أنها لقمة سائغة. لذا يبيح الرجال لأنفسهم مضايقة النساء العربيات المستقلات ومعاكستهن والتحرش بهن، بينما لا يقمن بالأمر ذاته مع الأوروبيات المستقلات، لأنهم يعتقدون أن ذلك أمر طبيعي بحكم اختلاف الثقافات. تقول سارة، شابة مصرية تقيم بباريس: "تعرضت للعديد من المضايقات من شباب مصريين، لكوني فتاة تعيش بمفردها، معتبرين أنني فتاة سهلة، فهم يبيحون لأنفسهم معاكستي. في إحدى المرات تعرفت على شاب مصري وطلب مني على الفور المجيء إلى منزلي لإقامة علاقة، فرفصت واستغرب رفضي، لأنني أعيش بمفردي وباعتقاده من المفترض أن أقبل".
"لقد تقبلّ أهلي سكني في فرنسا بمفردي بعد طلاقي، ولكنهم دائماً يحذروني من أنهم سيتدخلون بقوة إذا علموا بأن رجلاً سيعيش في منزلي".
الأمر الذي يدفع العديد من الفتيات المستقلات إلى إخفاء تلك المعلومة عن الأوساط المحيطة بهن، هو الخوف من تعرضهن لمضايقات من قبل الجالية العربية، تقول نوران: "عندما أقابل سوريين لا أخبرهم أنني اعيش وحدي، بل أخبرهم أنني مقيمة في سكن مشترك خاص بالفتيات، لأنني تعرضت للكثير من المضايقات من قبل، خاصةً عندما يعلمون بقصة تبرؤ أهلي مني. مرة رفضت استقبال شاب في منزلي، فأخبرني بأنه ليس هناك من داع لتمثيل دور المرأة الشريفة، فلو لم أكن عاهرة لما تبرأ أهلي مني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...