بدأت القصة صيف العام الماضي. كاترين فتاة من جبل العرب في جنوب البلاد، الجبل الذي ينتمي أهله إلى طائفة الموحّدين الدروز. قررت الفتاة الزواج بشاب من طائفة أخرى. اتفق الحبيبان على الهرب والزواج في مدينته الشاب، حمص. ابنة الثمانية عشر ربيعاً، لم تكن تدري مغبة ما هي مقدمة عليه، هربها وزواجها أشعلا مدينة السويداء لشهرين متواصلين. فاتهمت عائلة الفتاة رجالاً بخطفها ونقلها إلى حمص، فاقتصت من 3 منهم قتلاً في وسط المدينة. بعد ذلك، خُطف أشخاص آخرون للسبب نفسه، بينهم قيادي في اللجان الشعبية، وهي المجموعات الموالية للحكومة السورية. تفاعلت الحوادث وتصاعدت، قبل أن تظهر الفتاة في فيديو مسجل نشر في الإنترنت، وتقول أنها هربت بكامل إرادتها، وتزوجت بعقد رسمي مثبت في المحكمة الشرعية بحمص، فزاد الفيديو الاحتقان في مسقط رأسها، ودفع عائلتها إلى رفض مضمون كلامها جملةً وتفصيلاً، معتبرة أنه قيل تحت الضغط. ولكن، في مرحلة لاحقة، نُشر في الفايسبوك فيديو عرسها، ولم يقبل به الأهل أيضاً، ما استدعى تدخل العقال من الطائفة لتهدئة الوضع، وقد نجحوا فاختفت التداعيات وقل الاحتقان. ويبدو أن القصة طويت كما قصص كثيرة مشابهة في سوريا.
الحرب والزواج
خلّفت الحرب أثاراً جمة على المجتمع السوري بتنوعاته المختلفة، أبرزها ما يتعلق بالزواج دون موافقة الأهل والنتائج المترتبة عليه، والتي قد تصل إلى القتل والثأر. بعض هذه حالات الثأر والعنف سببها الزواج المتباين دينياً، والتباين هنا قد يكون داخل الدين الواحد، كالزواج المرفوض عموماً بين الدروز والعلويين، بين الشيعة والدروز، بين الإسماعيليين والعلويين، بين السّنّة والعلويين. في هذه الحالات يقوم الشاب بالارتباط بالفتاة بعقد عرفي يعقده شيخ دون حضور ولي أمر الفتاة، ويبقى العقد عرفياً إلى أن يتم تثبيته في المحكمة، بناء على أوراق جديدة تطلب من طرفي العقد لإكسابه الصفة الشرعية. وبحسب محمود المعراوي القاضي الشرعي الأول في دمشق، تم تثبيت 161 ألف حالة زواج في المحاكم الشرعية السورية خلال العام الماضي، وشملت تثبيت عقود زواج عرفي وعقود زواج صادرة بسبب دعاوى قضائية، وبلغت النسبة في دمشق 37 ألف حالة. وبحسب مصدر محلي، وصلت إلى المحاكم طلبات عدة تقدمت بها فتيات لتثبيت زواج أو عقده بحجة غياب الأب، وهو ما تبين غير مرة أنه غير صحيح. فالتدقيق الاسمي بيّن مرات عدة أن الأب موجود وعلى قيد الحياة لتنتفي شرعية الحجة ويصير تثبيت الزواج غير مقنع للقاضي الناظر في القضية، وفي حالات كثيرة استُدعي الآباء لإطلاعهم على طلبات بناتهم، وبيّنت المحكمة أنه إذا غاب الأب ناب عنه أحد أصول عائلته. في سياق هذه الظروف، برز إلى الواجهة أخيراً حديث متنام عن قوائم لمنع الزواج.ماهي قوائم المنع؟
سمير رجل أربعيني يتحدّر من ريف دمشق الشمالي، قال في حديث إلى رصيف22، أنه سجل اسم ابنته البالغة 16 سنة في المحكمة الشرعية قبل نحو شهر لمنعها من الزواج من دون علمه، وأضاف أن هذا الجيل متهور، وأن الحداثة والفلتان في المجتمع جعلا خطوات مصيرية كالزواج تبدو لعبة أو تسلية له. لذا كان من الضروري أن يضمن مستقبل ابنته، نافياً أي شك حولها، مؤكداً أن الحرص واجب لا أكثر، وأنه لم يعش التجربة لكنه شاهد ويلات من عاشوها، وهذا ما دفعه إلى القيام بهذا الإجراء الاحترازي لضمان سمعة العائلة، وفق ما يقول. اتضح لرصيف22 بعد التدقيق والسؤال، أن هذه القوائم ليست بجديدة، بل كانت تقتصر سابقاً على حالات فردية لا تذكر، قبل أن تتخذ شكلها الحالي المندرج تحت بند العرف لا القانون. يتطلب تسجيل فتاة في قوائم منع الزواج حضور ولي أمرها (والدها) أو جدها أو عمها في غياب الأب، مصطحباً معه الأوراق الثبوتية، هوية شخصية ودفتر العائلة ليصار إلى تسجيل اسم القاصر في قوائم منع الزواج. وقد راجع عشرات الآباء السوريين المحاكم الشرعية في الأشهر الماضية، لتسجيل أسماء بناتهم القاصرات في قوائم منع الزواج، حتى لا يتزوجن من دون موافقة ذويهم، وبذلك يهربون من فضيحة محتملة. ريم فتاة لم تتم الثامنة عشرة، فوجئت بإدراج اسمها في لوائح المنع في المحكمة الشرعية بدمشق، وقد كانت تعتزم الاقتران برجل تربطها به علاقة حب، ولم تحظَ هذه العلاقة بموافقة أهلها، ما دفعها إلى اللجوء إلى المحكمة بغية عقد الزواج، الأمر الذي لم يحصل، إذ إنها فوجئت بالمنع واستدعاء ولي أمرها، بحسب قولها. من وجهة نظر القانون السوري، يحق للقاضي تزويج القاصر إذا ارتأى أن سبب المنع غير مقنع، أو في حال الحمل، أو وجود زواج عرفي. سلمى أرملة ووالدة لفتاة عمرها 17 سنة، تحدثت أيضاً إلى رصيف22، وأوضحت أنها طلبت من جد الفتاة لأبيها أن يسجل اسمها في قوائم المنع الشرعية، خوفاً على مصيرها، حيث تربت من دون أب، وهو ما تراه سلمى أولوية ضرورية تجنب العائلة ألسنة المجتمع الذي يرى زواج القاصرة بغير علم أهلها، أمراً يلحق بالعائلة سمعة سيئة مدى الحياة، لذا تقول سلمى لنا أن ما قامت به هو "عين الصواب"، وخطوة جيدة تحمي سمعتها وسمعة ابنتها. في حديث لرصيف22 مع المحامي منير محمود، أوضح أن الأب لا يحق له منع ابنته البالغة من الزواج حتى لو أدرج اسمها في قوائم المنع في حال لم يجد القاضي أن السبب مقنع للمنع. في حين يحق لولي الأمر أن يدرج اسم ابنته القاصر في اللوائح في المحاكم الشرعية، ويصير المنع ملزماً للقاضي بغض النظر عن القاعدة القانونية التي تقول أن القاضي ولي من لا ولي له، وتستخدم هذه الآلية إذا غاب ولي الأمر بصورة تامة وناب عنه العم أو الجد. وبيّن محمود أن فكرة قوائم المنع ما زالت محط جدال واسع، جدال يكتسب خصوصيته من حساسية تنوع المجتمع السوري، ويرى أنّ الفكرة ضرورية في مكانها لتجنيب المكونات السورية مزيداً من حالات العنف والثأر، وعلى الرغم من أنّ الأمر يبدو غريباً إلا أنه متاحٌ على الدوام، ويردف محمود أن الفكرة ليست وليدة اليوم، إنما تم تفعيلها بوضوح أخيراً، وشهدت المحاكم إقبالاً على الأمر، في ما يتعلق بتسجيل الفتيات، أما الذكور فلا قاعدة قانونية أو عرفية تتيح منعهم. تبطل قوائم المنع في حال قرر الوالد محو اسم ابنته القاصر من سجله طوعاَ، أو في حال رأى القاضي أن سبب المنع الذي ذكره الوالد غير مقنع، بالتالي يحق للقاضي تزويجها على أن يكون هو وليها في إتمام المعاملة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...