شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"جايين من ورا الجاموسة"... تنمر وطبقية تلاحق أبناء الأقاليم في القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 16 يناير 202103:51 م

تعج الثقافة الشعبية في مصر بالكثير من العبارات والنكات التي تسخر من أبناء الأقاليم، باعتبارهم أقل تمدناً من سكان المدن الكبرى، كالقاهرة والإسكندرية، وهو ما ساهم مع الوقت في ترسيخ هذه الصورة، ودفع البعض من سكان الأقاليم الأخرى إلى عدم الإفصاح عن هوياتهم الحقيقيّة، وراحوا يندمجون في مجتمع المدينة، حتّى يصيروا جزءاً منها، دون الالتفات إلى الماضي.

ساعدت مركزّية مدينة القاهرة على تعزيز هذه النظرة الدونية نحو القادمين إليها، وأجبرت القاصي والداني على الرحيل إليها، بحثاً عن فرص أفضل للحياة، دون تصحيح هذه الثقافة المتوارثة عبر أجيال، ما أدّى في النهاية إلى حالة تشبه الاغتراب والشعور بالرفض، يكتنف حياة القادمين إلى المدينة.

محاولات للتكيف

تسكن ثناء محفوظ (28 عاماً)، في القاهرة منذ عشر سنوات، بعد التحاقها بكليّة العلوم جامعة عين شمس، وتزامنت إقامتها في العاصمة مع قيام ثورة يناير، ما أصابها بحالة من العزلة، وعدم الاندماج، نتيجة لحالة الاستقطاب، التي كانت تتّم آنذاك داخل الجامعة، وقت كان الحراك الطلابي على أشدّه.

تحكي ثناء لرصيف22: "كانت أول رحلة خارج محافظتي قنا، بعدما التحقت بالجامعة، وهو ما كانت تخشاه عائلتي بشدّة، ولولا حرص الأهل على أن أحصل على حقي في التعلم كاملًا لما وافقوا على قدومي إلى القاهرة من الأساس، نظرًا للصورة السلبية التي نحملها عن مدينة القاهرة وسكانها".

"نحن بنات الأقاليم، يسخرون من طريقة لبسنا، ولهجاتنا، وأشهر التعليقات المسيئة التي سمعتها (جاية من ورا الجاموسة)، كل هذا خلق إصراراً على مواصلة الاندماج في مجتمع يلفظني".

عن أجواء التمييز التي عاشتها ثناء في الجامعة، تقول: "كان الجميع يعرف بمجرّد النظر إلي أنني لست من المدينة، نظراً لبشرتي الأفريقية السمراء، وملابسي التي لم تكن تشبه ثياب بنات الجامعة، أما نحن بنات الأقاليم، فكنا نعرف بعضنا بعضاً من الملابس المختلفة، ونكوّن صداقات في ما بيننا، بعيدًا عن تعالي فتيات القاهرة، اللاتي أطلقنّ علينا لقب (فلاحات) باعتباره سُبّة".

بقيت ثناء أربع سنوات من الدراسة في حالة من الانعزال التام عن زميلاتها من بنات المدينة وزملائها الشباب أيضاً، الذين رأت أنّهم كانوا يحاولون استغلال فتيات الأقاليم باعتبارهن أكثر سذاجة من بنات المدينة، وسيكنّ "فرائس" سهلة، لإقامة علاقات جنسية عابرة، لكنّها عادت لاحقًا إلى بلدتها بعدما انتهت من الدراسة، دون أي رغبة في العودة مرّة أخرى إلى المدينة.

يرى أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية الدكتور أشرف منصور أنّ الصدمة التي يتلقاها القادمون من خارج القاهرة، والتي عززت شعورهم بالاغتراب، ويستدرك، قائلاً: "ليس كل أبناء الأقاليم يشعرون بالاغتراب في المدن الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية، لأن ما يسمى بالأقاليم مقولة كبيرة جداً، تضم الأرياف، والمراكز الكبيرة والصغيرة، والمدن الريفية، والمدن الكبيرة في الدلتا، وفي مثل هذه المدن تعيش طبقات ميسورة على مستوى عال جداً من التعليم والثقافة والتحضر، بل نستطيع أن نجد في هذه المدن طبقات عليا تعيش في مستويات من الرفاهية لا يعرفها أبناء القاهرة والإسكندرية".

استعلاء زملاء الجامعة

أقامت ليلى سعد، اسم مستعار (27 عاماً)، قبل تخرجها من كلية الفنون التطبيقية جامعة القاهرة، ثلاث سنوات حتى بدأت تندمج مع زملائها في الجامعة، الذين كانوا يعرفون أنّها من الأقاليم، وفق طريقة ملبسها التي تختلف عن الأخريات.

تقول ليلى لرصيف22: "أنا قادمة من المنوفيّة، ملابسي كانت غريبة بعض الشيء، وهي أول علامة تُعرف بها بنات الأقاليم في الكلية، وبعض الألفاظ التي لا يعرفها سكان المدينة، لكنني لم أتكلم بلهجة مختلفة عن زملائي، وبالرغم من ذلك، كان كل من حولي يسخر من أبسط الأمور حول الفلاحين، ولن أتحدث عن الطبقية والتعالي لأنّهما أمر بديهي ويعرفهما كل القادمين من خارج القاهرة".

حالما تلقي ليلى السلام على أحدهم، يسألها من أي بلدة هي، فما أن ترد "المنوفية"، حتى يخيّم الصمت على المكان، أو "يسخرون من المنوفية تحديداً لما تحمله الثقافة الشعبية في مصر من تعالٍ على هذه المحافظة"، بحسب ليلى.

فقدت عاماً دراسياً بسبب صعوبة التأقلم مع زملائها، وإحساسها بالاغتراب.

كان تكوين الصداقات أمراً معقداً للغاية، ولم تحدث إلّا وهي في السنة الثالثة، أو الرابعة، بعدما فقدت عاماً دراسياً بسبب صعوبة التأقلم مع زملائها، وإحساسها بالاغتراب عنهم.

تغيّرت ليلى مع الوقت، وبدأت في السخرية من نفسها قبل أن يسخر منها الآخرون، أو تلقي بعض النكات حول (المنايفة)، وهو ما كان يجبر الآخرين على الصمت والتراجع عن السخرية، ولاحقًا غيّرت طريقة ملابسها، واندمجت في القاهرة بشكل كامل، حتى الألفاظ المختلفة، وما تبقى من لكنتها الأصليّة، تبددت تماماً، وبعد مرور تسع سنوات، لم يعد أحد يعرف من أي محافظة هي.

يعلق منصور، أستاذ الفلسفة: "المسألة نسبية جداً لأن المدن الكبرى تعرضت للترييف، وصارت أكثر تخلفاً مما في السابق، فلا أعتقد أن هناك فجوة كبيرة بين عشوائيات القاهرة والإسكندرية والمناطق الريفية".

ويكمل: "أرى الكثير من الطلبة في الجامعة يأتون من مناطق ريفية أو شبه ريفية، لا يشعرون بأي اغتراب في المدن الكبرى بل على العكس تماماً، يتكيفون بسرعة. لاحظي أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي جعلت المقيم في الريف يفقد عزلته السابقة، ويتواصل بشكل جيد مع أي شخص آخر في العالم".

"غيرتُ سكني في البطاقة"

التحقت سلوى منصور (35 عاماً) بأحد الجرائد المصرية، قبل عقدٍ كامل، بعدما تركت موطنها الأم (كفر الشيخ)، فور تخرجها من كلية الزراعة، لكنّها لجأت في البداية إلى المراوغة بشأن عدم الإفصاح عن موطنها الأصلي، خشية التعرض للنظرة الدونية والاستعلاء الطبقي.

تقول لرصيف22: "جئت إلى القاهرة، بعد تنحي حسني مبارك عن السلطة عام 2011، أحمل أحلاماً كبيرة في العمل الصحافي الذي اخترته عن حب ورغبة، لكنّ الأحلام سرعان ما تبددت نتيجة الشعور بالاغتراب، والتفكك الذي غمرني بعد أشهر قليلة من بقائي في القاهرة، النظرة الطبقية التي كان الجميع يرمقني بها، جعلتني أتظاهر بما لست أنا عليه، غيّرت سكني في بطاقة الهوية سريعاً بعدما رحلت عن بلدتي، ربما يشعرني هذا بأنني ابنة المدينة أيضاً، لكن النكات السخيفة غالباً ما كانت تلقى في حضوري، والسخرية من طريقة ملبسي واختياراتي للألوان، وأشهر التعليقات التي كنت أستمع إليها (جاية من ورا الجاموسة)، وهو تعبيركثيراً ما يستخدمه المصريون لتحقير أبناء الريف، كل هذا خلق إصراراً في داخلي على مواصلة الاندماج في هذا المجتمع الذي يلفظني باستمرار".

حالما تلقي ليلى السلام، يسألها من أي بلدة هي، فما أن ترد "المنوفية"، حتى يخيّم الصمت، أو "يسخرون من هذه المحافظة تحديداً لما تحمله الثقافة الشعبية في مصر من تعالٍ عليها"

يعلّق الدكتور منصور: "الموضوع معقد للغاية؛ لأنّ الإحساس بالتهميش لدى فئة الريفيين داخل المدينة الكبيرة، يعتمد على عدة عوامل، فهل هؤلاء طلبة جامعيين كانوا أم مهاجرين يبحثون عن فرصة عمل؟ وما هي خلفياتهم الاجتماعية الأصلية؟ هل هم من طبقات فقيرة في الريف أو المدن الريفية؟ وإذا لم يكونوا فقراء من الأصل فلن يعانوا من أي تهميش أو تحقير، بل سوف يكونون متفرنجين أكثر من ملايين يسكنون المدن الكبرى، فالأمر إذن طبقي بامتياز يتعلق بالمكانة الاجتماعية لهؤلاء القادمين من خارج المدينة، وهناك إشكالية أخرى تتعلق بإخفاء اللهجة الريفية أثناء الحديث، سواء كانت لهجة فلاحية أو صعيدية، وعدم الكشف عنها إلا للأصدقاء أو المقربين. المهم هو الأنماط السلوكية التي يضطر إليها مهاجرو الريف في تعاملاتهم مع أهل المدن الكبيرة. تظهر هذه الأنماط السلوكية في تغيير طريقة الحديث والملبس. مثل الوصمة في عبارة (ده فلاح)، (دي فلاحة)، وتأثيرها على هؤلاء".

يعزو منصور مشاعر الاغتراب والتهميش التي يعانيها الفرد الصغير في المدينة الكبيرة إلى هروبه لجماعة ينتمي إليها وتشبع احتياجاته النفسية من الاحترام والتقارب، وهو ما يجعله "فريسة سهلة لدى الجماعات الإسلامية، التي تلعب على هذا الشعور تحديداً، وتمنحه للغرباء فيصبحون أتباعها الأوفياء، ويحيلنا إلى تفسير ظاهرة تنامي أعداد الإخوان المسلمين من منطلق زيادة الهجرة الريفية إلى المدينة، لتصبح الجماعة مرجعية بديلة لهؤلاء المهاجرين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image