يبتلع ديفيد لينش سبعة أكواب من القهوة والآيس كريم بالشوكولا ليجد الإلهام، ويندفع وودي آلن تحت دش بارد كلما اعترضه مشهد يشتّت الذهن في السيناريو، أما ترومان كابوتي فلا يستطيع "بدء أو إنهاء أي شيء يوم الجمعة".
إذا كانت القهوة والتبغ والكحول "الوقود" الأكثر شيوعاً لدى المبدعين، نجد أن البعض طوّروا عادات عمل ملتوية: خواكين ميلر على سبيل المثال، كان يثبّت مرشّات فوق منزله لأنه لا يستطيع كتابة الشعر إلاّ على صوت المطر وهو ينهمر على السطح.
أما إيزابيل الليندي فتبدأ كل كتبها في الثامن من يناير تحديداً...تُجهّز مساحتها الخاصة، تُخلي المكتب من الكتب التي لا تحتاجها، وتُبقي المعاجم والمسودات الأولى والمواد التي تحتوي على بحوث العمل الجديد.
في الثّامن من كانون الثاني/ يناير، تخطو سبع عشرة خطوةً من المطبخ باتّجاه المُلحَق الصغير حيث المكتب، تقول: "هذه الخطوات هي بمثابة رحلة إلى عالم آخر. إنه الشتاء، وعادة ما يكون الجو مُمطراً. أمشي بمظلتي وكلبي يتبعني. بعد هذه الخطوات السبع عشرة أنا في عالم آخر، أنا شخص آخر".
في هذا التحقيق الخاص يكشف روائيون وشعراء عرب لرصيف22 عن طقوسهم وعاداتهم الصغيرة التي يواجهون بها الصفحة البيضاء، في هذه الأوقات التي تسودها السرعة والإيجاز وحيث الجميع منعزلون في أبراجهم الإلكترونية
هو السعي للوصول إلى حالة ذهنية أبعد إذن، ولكلّ كاتب طقوسه الخاصة لإزاحة الواقع: إبريق شاي عملاق، زجاجة ويسكي، مكان عام، غرفة منعزلة، معجم، أقلام ريشة، شموع، ضوء فلورسنت...
وحده أمبرتو إيكو يدّعي أنه يستطيع العمل تحت أي ظرف: "في المراحيض، في القطار"، في المقابل تحتاج إدموند شارل- رو إلى جوارب صوفية سميكة ودائماً من نفس النوع قبل أن تبدأ العمل، ويرتدي ماركيز يونيفورم الميكانيكي، بينما يطلب فيكتور هوغو من الخدم أن يُخفوا ثيابه كيلا يتمكن من الخروج، ويحتجز نفسه عارياً في الغرفة، وحيداً في مواجهة اللغة.
بين الغرابة والطرافة والرعب تتنوع "العادات الكتابية" أو الطقوس، قرأنا عن أبي تمام الذي كان يرش الماء على تراب خيمته الحارّة ويتوسّل شياطين شِعره: "أخوكم... أخوكم"، وعن جيمس جويس الذي يرشو قباطنة السفن ليجعلوا سفنهم ترتطم بالصخور أو تقارب وضع الغرق كي يتمكن من الكتابة.
يذكرنا هذا بشعراء اللاتينية القدامى الذين قارنوا صنعة الكتابة بالملاحة، وقد كتب بترارك: "أنا غريب على الأرض، عابر كأجدادي كلهم، منفيّ، مسافر، قلق في هذه الحياة القصيرة"، لكن المجاز يولد من عجز الكلمات عن تسمية تجاربنا على نحو ملموس، وكقرّاء نستطيع أن نحدس من يكتب لاهثاً وبجَرَّة قلم، ومن يعود بعُصابية ليعدّل ويزخرف نصه عشرات المرات، وتكون كل جملة عُرضة للتصويب والمحو والندم.
في هذا التحقيق الخاص يكشف روائيون وشعراء عرب لرصيف22 عن طقوسهم وعاداتهم الصغيرة التي يواجهون بها الصفحة البيضاء، في هذه الأوقات التي تسودها السرعة والإيجاز وحيث الجميع منعزلون في أبراجهم الإلكترونية.
بين الغرابة والطرافة والرعب تتنوع "العادات الكتابية" أو الطقوس، قرأنا عن أبي تمام الذي كان يرش الماء على تراب خيمته الحارّة ويتوسّل شياطين شِعره: "أخوكم... أخوكم"، وعن جيمس جويس الذي يرشو قباطنة السفن ليجعلوا سفنهم ترتطم بالصخور أو تقارب وضع الغرق كي يتمكن من الكتابة
سنان أنطون (روائي عراقي): موسيقى عالية في الخلفية
كنت أكتب في الماضي على الورق ثم أنسخ ما أكتبه إلى الحاسوب. كتبتُ مسودة روايتي الأولى "إعجام" على دفتر. لكنّي لُقِّنْتُ درساً قاسياً حين تبلل الدفتر بالمطر، وتحولت كلمات الرواية والساعات الطويلة التي أمضيتها وأنا أكتبها إلى خطوط وغيوم ملوّنة (كنت أكتب بقلمين، أخضر وأحمر)، أو ما يشبه لوحة مائية. فأعدت كتابة الرواية من جديد.
ومن يومها بدأت أكتب، في الغالب، على الحاسوب مباشرة، وأحتفظ بعدة نسخ مما أكتبه، خوفاً من ضياع المخطوطة. لكنّي أعود أحياناً للكتابة في دفتر. الفصول الأولى من "وحدها شجرة الرمّان" كتبتها في دفتر. يمكن أن أكتب في المقاهي أو في البيت، بحسب الظروف. الشرط الوحيد هو حضور الموسيقى التي لا بد أن تكون عالية. أضع السماعات لكي تفصلني عن ضجيج المقهى أو صمت البيت.
تتنوّع الاختيارات بحسب الحاجة والمزاج: موسيقى عود، أو سنطور، أو بزق، أو موسيقي كلاسيكية. ولا بد من القهوة. أنظر إلى بياض شاشة الحاسوب. أو ما كتبته في آخر فرصة سنحت، وأبدأ.
عزت القمحاوي (روائي مصري): البحث عن فراغات
أتصور أن طقوس الكتابة تتربى في جو من رفاهية امتلاك الوقت. وقد منعتني الصحافة ونوعية الحياة في مصر من امتلاك مثل هذه الطقوس. امتلاك وقت الفراغ هو النعمة الوحيدة الكافية للكتابة. أعني بوقت الفراغ، مساحة الزمن وفراغ البال. لا أستطيع كتابة إبداع بينما أعرف أن عندي موعداً بعد يومين مثلاً، لابد أن أشعر بأن الحياة أبد وأنها مخصصة لهذا الكتاب بالذات.
يحدث الانقطاع قسراً بالطبع، ويتطلب جهداً لإعادة الصلة مع الكتابة، ولكن لا أحب أن أعرف عن مشاغل لم يأت وقتها بعد. ضرب المواعيد لمهام خارج الكتابة ممكن فقط أثناء المراجعة والتدقيق بعد الكتابة الأولى، أما وقت البدء فذلك غير ممكن.
نورة ناجي (روائية مصرية): سوبر ماريو وباغز باني وبطوط
لا أملك غرفة مكتب ولا حتى مكتباً، أكتب على اللابتوب وأنا جالسة على السرير، السرير غير مريح والغرفة صاخبة جداً، صوت التلفزيون يدخلها بسهولة وأصوات الشارع خلفية حياتي. لا أتمتع بنعمة الهدوء والصمت لكني تأقلمت على الصخب، أستبدل الهدوء بإحساس الراحة الذي توفره لي الملابس، أحب ارتداء الملابس القطنية وتمنحني التيشيرتات المطبوعة بالرسومات المضحكة سعادة غريبة.
اكتشفت مؤخراً أنني لا أستطيع بدء رواية أو قصة إلا بتيشيرت مطبوع عليه شخصية كارتونية، من سوبر ماريو إلى باغز باني وصولاً إلى ميكي وبطوط.
سنان أنطون: "الشرط الوحيد هو حضور الموسيقى التي لا بد أن تكون عالية. أضع السماعات لكي تفصلني عن ضجيج المقهى أو صمت البيت"
الطقس الحار يزعجني، لذلك كانت الأولوية بالنسبة لي هي التخلص من مشكلة الحر الشديد واللزج، ادخرت شهوراً لأتمكن من شراء تكييف خاص بالغرفة لأستطيع الكتابة في الصيف. من الغريب أنني من يومها كلما دخلت الغرفة واستمتعت بنسمات التكييف الباردة اللطيفة، أنسى الصخب والأصوات العالية والجلسة غير المريحة على السرير.
طقوس الكتابة بشكل عام تعتمد على التأقلم، همنغواي كان يكتب وهو واقف أمام الآلة الكاتبة، لا يوجد قالب واحد ولا خطوات مسجلة في الكتب تحت عنوان "طقوس الكتابة"، لكنها كلها تعتمد على مزاجية الكاتب وأهوائه.
عبد الله ناصر (قاص سعودي): بين اليقظة والنوم
لا أكتب كل يوم. لا أكتب وقد علت الأصوات من حولي، حتى ولو كانت أغنية من الراديو، إلا إذا كان صوت الفكرة في رأسي أعلى من الأصوات الأخرى. على أنني لا أعتزل لأكتب. يوترني السكون التام، وأحب أن أكون محاطاً ببعض الحركة ولا أمانع أن يقاطعني أحدهم أثناء الكتابة. لعل المكان المثالي للكتابة عندي هو الطائرة أو القطار.
كان ماريو بوزو مؤلف العراب يظن أن العائلة وصخبها هي من تحول بينه وبين كتابة الروائع. وحدث أن حصل على ما يشبه التفرغ وانقطع للكتابة طوال اليوم فظل عاجزاً عنها. يود لو تقاطعه زوجته فتسأله أن يعجل بالخروج لشراء الخضروات أو يقتحم أطفاله الغرفة فيلعب قليلاً معهم. أما الأوقات المفضلة عندي هي حالما أصحو.
تلك المنطقة الضبابية بين اليقظة والنوم، والمأهولة بالأفكار العجائبية حيث يتداخل كل شيء، وإن اتضح لاحقاً أن بعض الأفكار غير صالحة للكتابة. أحب أن أكتب القصص في الصباح الباكر، قبل أن تفسد حالتي الذهنية والنفسية بتقدم اليوم والاحتكاك بالآخرين وتلقي الأنباء التي غالباً ما تكون غير سارّة. فإذا استعذبت الفكرة تملكتني وظللت أطاردها طوال الوقت كما لو أنها ستضيع مني.
لا أستطيع النوم حتى الانتهاء منها، أو على الأقل تفريغ ما في رأسي في تسجيل صوتي على طريقة الحوارات في الزمن القديم لأعاود الكتابة في الصباح، ويكون الليل للتنقيح والتحرير واختزال ثلاث جمل في جملة واحدة.
علاء حليحل (روائي فلسطيني): وأنا أطبخ أو أجلي الأطباق
لديّ في الكتابة مبدأ واحد لا غير: أنتَ لا تتحكّم بأوقات حضور الوحي والإلهام (المُوزا)، لذلك عليكَ أن تكون جاهزاً طيلة الوقت لحضورها. وكيف أكون جاهزاً؟ معي دائماً ورقة ودفتر صغير؛ ومعي هاتفي المحمول الطافح بصفحات كثيرة في تطبيق notes، ومعي ماكينة الطباعة الديجيتال التي اشتريتها من فترة. أمّا ما تبقّى من الأمور فهي لا تعنيني بشيء.
علاء حليحل: "لديّ في الكتابة مبدأ واحد لا غير: أنتَ لا تتحكّم بأوقات حضور الوحي والإلهام، لذلك عليكَ أن تكون جاهزاً طيلة الوقت لحضورها. وكيف أكون جاهزاً؟ معي دائماً ورقة ودفتر صغير"
ليست عندي أيّ طقوس أو مطالب: أكتب واقفاً وقاعداً، وَحدي ومن حولي العشرات، في البيت أو المقهى أو بستان الحارة أو شاطئ البحر أو القطار أو سيارات الأجرة... لا أحتاج إلى أيّ شيء ماديّ خاصّ: لا كأس نبيذ، ولا نوع سيجار مُعيّناً، ولا رائحة بخور، ولا تجهيزات روحانيّة، ولا أيّ نوع من العدّة. كلّ ما أحتاجه هو أصابعي وشيئاً ما أصبّ عليه الكلمات المتتالية.
أعتقد أنّ هذا نابع من إيماني بأنّ الكتابة حرفة وعمل مهنيّ يجب إنجازه بمهنيّة ومثابرة، وهي ليست طقساً روحانياً أو علاجيّاً تحتاج إلى ظروف خاصّة يجب توفيرها. عندما أخلِد إلى فقرتيّ التأمّل اليوميّتيْن (المديتيشن) فإنّني أوارب الشبابيك، وأخفض الأضواء وأجلس بهدوء.
أما حين أكتب فإنّني أنغمس في الحياة وتفاصيلها التي قد يراها الناس مُعطّلة أو مُنغّصة، لكنّ الضجة والحياة من حولي هما ما أحتاجه للكتابة. لذلك فإنّ أفضل الأفكار تأتيني وأنا أطبخ أو أجلي الأطباق.
كاظم خنجر (شاعر عراقي): العقاقير المهلوسة والمرور بأماكن الجرائم
• الذهاب إلى أماكن الجرائم أو المرور بقربها، ثم إعطاء الخوف الحرية الكاملة في السيطرة على تفاصيل الحياة.
• إعادة تمثيل الفكرة او الجريمة أمام مرآة. إذا كان أدائي جيداً فهي فكرة تستحق الكتابة.
• "عصب العينين" خلال عملية الكتابة، والمباشرة بقناعة تامة بأن ما سأكتبه هو أتفه شيء على الإطلاق.
• أقوم بحلاقة شعر الوجه والعانة والابطين بشكل جيد، والتحمم لمرتين أو أكثر قبل الكتابة.
• اللجوء إلى الطريقة السحرية في جمع الأفكار وهي "إضاعة الوقت". تبدأ كل يوم من مقهى (أسعد) والتعرف العشوائي بالكسبة والمجانين والمعاتيه والعابرين، ثم الانتقال إلى مقهى (الخرسان) لتعلم الصمت وقيم الإشارة، ثم الانتقال إلى مقهى "مسار" لمعرفة تطورات الصراع الطائفي بين السنة والشيعة بالإضافة إلى صراعات كرة القدم.
• أحيانا تعاطي جرعات عالية من الكحول، وسابقاً تعاطي بعض العقاقير المهلوسة والمهدئة وغيرها التي تباع بأشكال غير قانونية؛ للحصول على بعض الأفكار الغبية التي تخدم بناء النص.
• التأكد المستمر من صلاحية جواز السفر.
حسن عبد الموجود (قاص وروائي مصري): ألبير كامو كدوزنة تسبق العزف
أعرف لماذا قال جاك لندن: "لا يمكنك أن تنتظر الإلهام. عليك أن تطارده بهراوة"، فقد امتهن كثيراً من الأعمال، وعاش سنوات صعبة، ولم يكن انتظار الوحي - في نهاية يومه الضاغط والقاسي والكئيب - رفاهية. تعلمت هذا، لكنني، بمرور الوقت، أصبحت أكثر خبرة منه، إذ إنه صار بمقدوري ربط الإلهام في كرسي المكتب.
كاظم خنجر: "أحيانا أتعاطى جرعات عالية من الكحول، وسابقاً تعاطيت بعض العقاقير المهلوسة والمهدئة وغيرها التي تباع بأشكال غير قانونية؛ للحصول على بعض الأفكار الغبية التي تخدم بناء النص"
لا أحتاج إلى كثير من التحضيرات غالباً، باستثناء الابتعاد عن الكتابات الرديئة، فمنها ما يمكن أن يتسرَّب إليك ويصيبك بالتشوش. أبحث عن نبرةٍ ما في اللغة، وأجدها بسهولة إن أعدت قراءة غريب ألبير كامو، كأنه "دوزنة" تسبق العزف، كأنه محاولة إمساك بطبقة الصوت. قرأت هذه الرواية أو صفحات منها، قبل كتابة كل قصة ورواية. قرأتها حتى قبل أن أكتب بعض الموضوعات الصحافية.
بدأت الكتابة مبكراً، وكان هناك كتّابٌ في الأربعين من أعمارهم، لا أعرف الآن كيف تجاوزوا الستين، ولا كيف تجاوزت الأربعين بسنوات، لكنني أعرف أن الأعمار قصيرة جداً على التحضير الكثير.
أدخل مكتبي، أغلق هاتفي، ومعه أغلق كل أبواب الحيوات المتخيلة لكائنات السوشيال ميديا، وأفتح "فايل ورد". أركز قليلاً حتى أجد الباب المسحور، نفس الباب الذي لم يخذلني في أي مرة عبرته. أسير أحياناً، أجري أحياناً، أطير أحياناً، وفي ذهني فكرة، وربما أمنية، أن أصبح جزءاً من هذا العالم بعد رحيلي.
سومر شحادة (روائي سوري): أوقات أطلُّ فيها على العالم وكأنّني خارجه
ليس لدي طقس خاص أو معقّد للكتابة، كذلك، لا أكتب كيفما اتفق. أكتب فقط عندما تشغلني رواية ما، لا أجلس أمام اللابتوب وأفكر فيما سوف أكتب، أجلس فقط، كي أكتب. ما جنّبني شعور الإحباط والفشل دائماً. أكتب خلال ساعات الصباح الأولى، في التاسعة صباحاً أُنهي واجبي تجاه الكتابة.
أَتحدَّث هُنا عن الكتابة الأولى للنص، تحريرهُ أمر آخر، تجهيز النص للنشر يجعلني لا أتوقف عن العمل عليه طوال الوقت، قد أعمل في المطبخ في منزلي وفي منزل أهلي وعند أصدقائي وفي المقهى، وفي أي مكان، لكن عندما أكتب أُحبّ أن أجلس من السابعة حتى التاسعة صباحاً في المنزل، حيثُ تنعدم أيَّة إمكانية لأحداث مفاجئة، عدا أخبار الموت التي تجيء باكراً.
وثمة أمر، لا أعرف إن كنتِ ترينه مهماً؛ أكتب صفحة واحدة في اليوم. ونادراً ما كتبتُ أكثر من صفحة واحدة، 250 كلمة في اليوم وأصبح كائناً سعيداً بعدما أدّى واجبه. ينتهي يومي عندما يبدأ يوم الآخرين، كأنّما الكتابة تجعلني في عالمٍ أكثر هدوءاً ودِعَة. أو لربما هذا هو العالم الذي تحتاجه، لذلك تتوقف الكتابة بالنسبة إلي، عندما تَتَخَلْخَل تلك الهشاشة المُحيطة بها.
في التاسعة تبدأ السيارات بالحركة في الشوارع والناس بالحركة في البيوت، وتبدأ أخبار الواقع بالتسرّب إلي. إذن، دائماً كنت أكتب في أوقات أطلُّ فيها على العالم وكأنّني خارجه؛ أُراقِبه وأَترقَّبه.
سكينة حبيب الله (شاعرة وروائية مغربية): صوت طرطقة أزرار الكيبورد
إذا لم يحدث الأمر في غضون الساعات الثلاث التي تلي فتح عينيّ - سواء صادف أن كان ذلك صباحاً أو ليلاً أو فجراً- فلن أكتب بقيّة اليوم. المهم أنْ أكون عائدة للتوّ من كوكب النّوم. الإنسان الخارج من الأحلام هو قادم من وجودٍ مختلف سحريّ. كالعائد من السّفر لديه الكثير ليحكيه ويخبر عنه. محمّل بأشياء لا تنتمي إلى هذا العالم.
عبد المجيد سباطة: "أميل عموماً إلى التنظيم وتجنب العشوائية، لا أبدأ بالكتابة إلا بعد إعداد مكثف قد يستغرق شهورا طويلة، وربما سنوات. أقرأ كل ما يمكن أن تقع عليه يدي من وثائق ومراجع تتناول الموضوع الذي أخطط للكتابة عنه"
مولودٌ للتوّ. مزوّد بكل ما يلزم كي يرى الأشياء بعين جديدة. بلا شوائب تعيق تدفق الأفكار. والأهمّ: مُتغيِّر. هذا حين يتعلق الأمر بكتابة سردية، أما الشعر فلا يتطلب بالنسبة لي سوى التماع الصورة. ألتقطها وأضعها في أيّ مكان، وغالباً أفعل ما كانت إيميلي ديكنسون تفعله، أدوّن على باكيتة الخميرة، أو أفتح هاتفي وأنقر ما أظنّه فكرة واضحة على المفكّرة الرقمية.
ولأن الصورة تكون مشعّة وقتئذ أظنّ أن ما كتبته يكفي، لأعود إليها بعد وقت، وأجدني أمام كلمات افتتاحية وعبارات مبهمة ومتفرّقة لا توصلني لأيّ شيء.إذا لم يتعلق الأمر بالشّعر، لا أكتب على الورقة بالقلم، ولا باللمس على الشاشات. شيء داخلي لا يتفجّر ويسرّب القصص والصّور إلا باستخدام حاسة اللمس والسّمع والبصر دفعة واحدة.
انسحاق الأزرار تحت أصابعي، سماع الطّرطقة الناتجة عن ذلك، ورؤية الكلمات تركض أمامي على الشاشة وأنا ألحقها بعينيّ هي المقادير اللازمة لأبدأ الكتابة. حين يتعطّل جهاز الكمبيوتر، أقلعُ عن الكتابة. رغم توفر بديل: الهاتف، التابلت، الورق. حين كنتُ أكتبُ روايتي الأولى، فقد اللابتوب بضعة أزرار. وكان عليّ في كل مرّة أضغطُ على خمسة حروف منه أن أتكهرب.
حرف بالضّبط كانت لسعة الكهرباء التي يمرّرها إليّ قوية بالفعل. أذكر أنّي في إحدى الليالي لم أستطع تحمّل الأمر، فاضطررت إلى كتابة صفحة كاملة دون اللجوء إلى استخدامه. قبل أن اضطرّ مرغمةً إلى الإذعان مؤقتاً إلى لوحة المفاتيح الافتراضية البطيئة والقاتلة. بعد الزواج والإنجاب، لم يعد ممكناً لي الكتابة فور أن أستيقظ، اضطررت إلى اقتطاع الوقت من نومي الذي كان أيّامها قليلاً ومتقطعاً بالأساس.
وهنا بدأت علاقتي تسوء بما أعتبره ترجماناً لوجودي الصغير: الكتابة. صار الجلوس إلى الطاولة أمام مشروع جديد أو قديم يعني الحرمان، الاستيقاظ صباحاً متعبة وبلا ذكرى واحدة من عالم الأحلام، ارتباك علاقتي مع الصّباح والليل والأصوات. فكّرت في خطّة بديلة، ماذا لو بدأت أتعوّد على الكتابة فيما رضيعي مستيقظ؟ حينها ضغطت على زرّ التدمير واختفت نشوة الكتابة تحت أنقاض الشّعور بالذنب والتقصير.
بسبب طقوسي القديمة، كبرت القطيعة بيني وبين الكتابة. وضعتها جانباً لفترة طويلة. إلى أن وصلت مؤخراً إلى ما يشبه الهدنة. أتخلّى أنا عن طقوسي، ونتصالح. صرت أكتب كلّما توفر لي الوقت.
على أن يبقى ذلك في نطاق الصّباح، لأنّي في الليل، رغم توفر الوقت، تكون يدي، التي قامت بالغسل والشطف ومسح البلاط وتقشير الخضروات واللعب بالعجين وكتابة تقارير العمل، قد قدّمت كلّ ما يمكنه تقديمه، ولم يعد بوسعها سوى أن تـ"سكرول داون" بحثاً عن فيديوهات مضحكة وبلا هدف.
عبد المجيد سباطة (روائي ومترجم مغربي): ثلاث مذكرات صغيرة
أميل عموماً إلى التنظيم وتجنب العشوائية، لا أبدأ بالكتابة إلا بعد إعداد مكثف قد يستغرق شهورا طويلة، وربما سنوات. أقرأ كل ما يمكن أن تقع عليه يدي من وثائق ومراجع تتناول الموضوع الذي أخطط للكتابة عنه، أستعين بثلاث مذكرات صغيرة، الأولى أخصصها للأفكار المرتبطة بتطور الحبكة والأحداث والشخصيات، الثانية لبعض الاقتباسات أو المعلومات التي قرأتها وأرى بأنها على صلة وثيقة بموضوع الرواية، ثم المذكرة الثالثة التي أكتب فيها جملاً أو فقرات صغيرة، أتخيل بأنها ستجري على لسان الشخصيات الورقية فيما بعد.
وجدي الأهدل: "في الليل لا أكتب أبداً، إنه وقت الترويح عن النفس، وإذا كانت لديّ واجبات كتابية فإنني أؤجلها لليوم التالي"
بعد انتهاء هذه المرحلة، ووصولي لما أعتبره تشبعاً معرفياً مرتبطاً بعوالم الرواية، أنتقل فوراً إلى مرحلة الكتابة، حيث أفضل التركيز التام على المشروع، فأغلق بالتالي كل وسائل التواصل الاجتماعي.
وأبتعد عن "العالم" قدر الإمكان، لتتمحور كل أيامي حول الرواية، كتابة يومية متواصلة، بلا انقطاع، إعادة كتابة وتدقيق ومراجعة، وفق المخطط الذي وضعته في المرحلة الأولى، مع ترك هامش للقدر، الذي قد يسير بالشخصيات نحو مسارات ربما لم أكن أتوقعها بداية. أستمر على هذا المنوال إلى حين وضع نقطة النهاية، ساعتها أعود إلى "العالم".
وجدي الأهدل (روائي يمني): قصاصة متروكة على الطاولة
في الليل لا أكتب أبداً، إنه وقت الترويح عن النفس، وإذا كانت لديّ واجبات كتابية فإنني أؤجلها لليوم التالي.
أستيقظ غالباً في الساعة السادسة، وأعد لنفسي كوب ماء دافئ، أرتشفه وأنا أفكر في العمل الذي سأكتبه.
أحوم حول طاولة الكتابة وكأنني شخص يُساق إلى المنفى، وهناك قصاصة مرمية على سطحها، فيها عبارة موجزة مكتوبة بخط رديء تُملي عليّ ما يتوجب فعله.
أزفر متضايقاً مثل موظف يملي عليه مديره الأوامر الجنونية ويكلفه بأعمال صعبة، فيهز الموظف رأسه مظهراً الخنوع والطاعة، وهو حقاً لا يعلم كيف سيتصرف.
حينها أزيح الحيل النفسية التي تحاصرني، فأبدأ أولاً بمسح الطاولة، لأن مديري إذا وجد ذرة غبار واحدة فسوف يغضب، ثم أرش عطراً على كفيّ، لكي أُعطي انطباعاً حسناً عن كفاءتي للزبائن، والحقيقة هي زبونة وحيدة، فاتنة ومدللة، قد تأتي أحياناً وأحياناً لا تأتي، وإذا أتت فإنها لا تمكث أكثر من ساعة واحدة، ثم تتملص وتغادر وهي تحلف بأغلظ الأيمان أنها ستزورني في أقرب فرصة!
في المساء أضرب لها موعداً، وأترك لها قصاصة على الطاولة ثم أذهب للنوم، إذا كنت محظوظاً فإنها ستقرأ دعوتي وتأتي في الصباح.
يعرب العيسى (صحفي وروائي سوري): "لا شيء مهم.. أكتب رواية"
إجابتي على هذا السؤال مخجلة ومحبطة: لا عادات ولا طقوس لدي في الكتابة. أكتب حين يتاح لي.
يخطر لابني أن يشرح لي شكل الجرس الجديد الذي سيضعه على الدرّاجة، ويحتاج مني تركيزاً تاماً، فأمنحه إياه، ومع جملته الأخيرة أعيد أصابعي إلى لوحة المفاتيح وأكتب جملتين. ثم يخطر له أن يشرح لي أيضاً تحليله لفشل تجربته في زراعة شجرة ليمون في الحديقة، فأتوقف عن الكتابة وأمنحه تركيزي. يغادر فأكتب جملتين.
تدخل جارتنا سونيا لتناقش مع زوجتي التغييرات المصيرية الكبرى التي حصلت بسبب رحيل السيدة التي تشطف درج البناء. أرحّب بها وأعود لشاشة كومبيوتري. تشرح بانفعال تفاصيل الصراعات الناشبة بين الطوابق على اختيار السيدة الجديدة.
يعرب العيسى: "أكتب أثناء المشي. أمشي يومياً في أماكن أحبها، غالباً في دمشق القديمة، وخلال ساعة من السير تكون نصوصي ومقالاتي قد كتبت نفسها في رأسي، ثم يصبح نقلها إلى الورق عملاً يدوياً فقط"
تعدّد مواصفات مرشحتها المفضّلة، وعيوب المرشحة المنافسة، بعد قليل تضمن تصويتنا إلى جانبها وتنتبه، وتستعيد لطفها وتهذيبها الأصليين، تضحك من نفسها، وتعتذر مني: "لا تواخذني جار، يمكن عملت ضجة وشغلتك عن شي مهم عم تشتغلو"، فأقول لها: "لا عليك، لا شيء مهم، أكتب رواية".
الكتابة بوصفها تدوين كلمات على ورق مسألة تقنية بحته بالنسبة لي. فأنا أكتب أثناء المشي. أمشي يومياً في أماكن أحبها، غالباً في دمشق القديمة، وخلال ساعة من السير تكون نصوصي ومقالاتي قد كتبت نفسها في رأسي، ثم يصبح نقلها إلى الورق عملاً يدوياً فقط. وكلمة الورق بالنسبة لي مجاز، فأنا لا أستطيع الكتابة سوى على الشاشة مباشرة.
وربما حرّرني ذلك مما يسميه الكتّاب "رهبة الورقة البيضاء". لا أخافها، ولا أحسب حساباً لها. ولماذا سأخشاها، ما دمت قادراً على ملئها بأي ثرثرة، بنسخ 400 كلمة من نص لكاتب آخر والصاقها عليها؟ بكتابة جملة واحدة وتكرارها حتى نهاية الصفحة؟
لا تشغلني هذه المجازات، وأتعامل معها بتبسّط ومرح: تخاف الورقة البيضاء؟ يا رجل أنت تكتب على الكومبيوتر، بأمر واحد يمكنك جعلها زرقاء، أو سوداء إذا أردت، والكتابة بخط أبيض. افعل ذلك، لأنه لن يسألك أحد: كيف تتعامل مع رهبة الورقة السوداء؟
أكتب في أي ظروف، المهم أن يكون أمامي شاشة كومبيوتر، حتى برنامج الورد لم يعد توفره ضرورياً، أكتب على مستندات غوغل مباشرة.
أبدأ من أي مكان، أبدأ من منتصف النص، من نهايته، من جملة لا مكان لها، من ردّة فعل لا أعرف ما الفعل الذي سبقها.
لا يهم، أحياناً ما يسوقني إيقاع جملة لأخترع لها جملة بديلة بمفردات أخرى، أو حتى أخترع لها حكاية. أحك رأسي وأقول لنفسي: ما هي الحكاية التي يمكنها أن تبدأ بهذه الجملة: يمكنني ولطالما فعلت؟ أو ما الصراع الذي يمكن أن أقول فيه: وانجدلا معاً كخيطين؟
إذا أردت أن أكون جدياً وأجيب على أسئلتكم بطريقة مسؤولة كما يفعل الكتّاب الحقيقيون: لا طقوس للكتابة لدي، ولا خوف منها. أتيت من مهنة الصحافة، من هناك، حيث يمكن لرئيس تحرير أن يمدّ رأسه من باب القاعة وهو ذاهب باتجاه الحمّام ويقول دون أي شعور بالذنب:
اكتب ألفي كلمة عن رحلة الفضاء السورية الروسية المشتركة، ثم خمسمئة كلمة عن حتمية انهيار الولايات المتحدة. ثم وفي طريق عودته من الحمام يكون خير الله الشهابي قد مات، فيمد رأسه ثانية: عبد الكريم إجازة اليوم؟ إذن اكتب بدلاً عنه أيضاً عن التاريخ المعاصر لدمشق ودور المؤرخ الشهابي في تصويبه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون