طريقان فقط أمامكم للعبور إذا كنتم قادمين من القاهرة لزيارة هضبة سانت كاترين في سيناء. ولأن الطريق جزء من ذاكرة المكان نفسه، فقد التصق بذهني كلا الطريقين على نحو لا يمكن فصله.
كنت قادماً عبر أحدهما في فصل الصيف، من أراضٍ شديدة الحرارة، حيث قبائل مدينة "دهب" التي تنتمي في أغلبها إلى أصول في أراضي الحجاز، متجهاً إلى الهضبة المقدسة سانت كاترين حيث القبائل التي تعيش أعلى الجبل.
وهكذا تعرجت السيارة مرتفعة، حتى أصبحت على قمة جبل أبيض، كان بإمكاني معاينة العالم تحتي من نافذة السيارة، وهو يبدو كهوة بيضاء سحيقة تغري بالسقوط.
مائة رجل استقدمهم إمبراطور لحماية دير سانت كاترين من النهب، والمذابح... بعد مرور عقود دخل الرجال في الإسلام، وعرضوا على "الخليفة" أن يتوقفوا عن حمايته
حينذاك تذكرت أسطورة حكاها لي أحد أبناء قبيلة المزينة: "في هذه الهوة تحتك على طريق سانت كاترين جنيات جميلات يشغلن المرء عن القيادة، ويسحرنه للسقوط".
بعد ساعتين، كنت في وجهتي النهائية في الوادي المقدس، وما إن وصلت حتى أصبح فصل الصيف مجرد ذكرى، مجرد ساعتين من الزمان تفصلان بين فصل الصيف في خليج العقبة، وفصل الربيع في هضبة سانت كاترين.
قبيلة "الجبالية"
جو معتدل حتى في أكثر أيام الصيف صعوبة، نظراً للارتفاع الشديد عن سطح البحر، هناك يعيش أبناء قبيلة الجبالية المسؤولين عن حماية دير سانت كاترين منذ القرن السادس الميلادي.
الدير الذي يحتوي على الشجرة المقدسة، ويقع إلى جوار جبل موسى، وقريباً من الوادي المعروف بوادي التيه، لم يعد مجرد مكان للنساك يتعبد فيه الرهبان من ذوي الأصول اليونانية، لكنه فضلاً عن ذلك قد شارك في تشكيل روحه العديد من قبائل جنوب سيناء، وأصبح جزءاً من ثقافة وطبائع الناس ومصادر الرزق، لا لأبناء الجبالية وحدهم، ولكن لعدد آخر من القبائل هناك.
يتشارك الناس هناك الحكايات، وكل قبيلة تنسج حول نفسها الأساطير، التي تبدو متفقة أحياناً ومتضاربة أحياناً أخرى، وربما يصل الأمر في بعض الأحيان لشيء من التنافس، فتتبارى حول مَن بين تلك القبائل له الفضل في حماية الدير في هذه الفترة التاريخية أو تلك.
وجود الدير التاريخي في وسط سيناء، ضاماً جماعة من الرهبان الناسكين في عزلة تامة، جعله على مدار التاريخ عرضة لغارات البدو الرحل، كان هذا في القرن السادس الميلادي قبل أن يأمر الإمبراطور الروماني، يوستنيانس، بجلب جماعة مكونة من مئة رجل من خلف البحر الأسود لحماية الدير.
الرواية بحسب ناعوم بك شوقير، صاحب كتاب "تاريخ سيناء وجغرافيتها" تقول "هكذا جاؤوا بمصاحبة أسرهم ليستوطنوا المنطقة المحيطة بالدير، ويتولوا حمايته من "البربر"، ذلك بعد أن عكف "البربر" على استهداف رهبان الدير، ونهبهم، وارتكبوا عدداَ كبيراً من المذابح في حقهم".
هؤلاء الرجال المئة سيكونون بعد ذلك آباء قبيلة الجبالية، أصحاب الدور التاريخي في حماية الدير على مدار هذه القرون.
"لقد حمينا الدير قبلكم"
هناك طريق آخر لسانت كاترين يسلكه القادمون من القاهرة إلى الوادي المقدس مباشرة، هو طريق وادي فيران، وكنت على متن هذا الطريق مستقلاً أحد الأتوبيسات، قادماً من القاهرة في فصل الشتاء، وقد كان الطقس دافئاً على طول المسافة مروراً بفيران.
عند دير الراهبات في نهاية الوادي، وقبل الصعود لهضبة كاترين، تبدل الجو تماماً.
"هذا هو باب الثلاجة"، قال لي أحد أبناء قبيلة الترابين، وكان يجلس إلى جواري في الحافلة، "ما إن تعبر دير الراهبات حتى يصبح الطقس بارداً فجأة"، وهكذا بدأ يحكي عن الفارق بين دير الراهبات، الكائن قبل بوابات سانت كاترين، ودير الرهبان التاريخي الكائن أعلى الهضبة، ويحتوي على بعض أهم المعالم التاريخية والدينية بسيناء.
حميد أبو مساعد في وادي التلعة، في صورة تذكارية مع كاتب المقال
وتابع: "لقد حمى جدودي هذا الدير (يقصد الدير التاريخي) قبل أن يأتي الجبالية ليعيشوا في سيناء، قبيلتنا أقدم من قبيلتهم بكثير"، وكانت هذه هي أغرب معلومة سمعتها عن تاريخ القبائل في علاقتهم بالدير.
ما يجعل رواية رجل قبيلة الترابين غريبة، هو أن أغلب أبناء هذه القبيلة يعيشون في شمال سيناء، وبعضهم في مدينة نويبع على خليج العقبة، على بعد نحو مئة كيلومتر من هضبة كاترين وديرها التاريخي، إلا أن ناعوم بك شوقير يذكر أن أفراد قبيلة السواركة (وهي إحدى القبائل المنتشرة في شمال سيناء) كانوا قد تولوا حماية قوافل الرهبان في طريق الحج إلى القدس، وكانوا يتقاضون مقابل ذلك أجراً معلوماً.
أما في مدينة طور سيناء، فقد كنت على موعد للقاء صديق آخر من قبيلة أولاد سعيد، وقد حكى رواية أخرى عن قبيلته، التي تدخلت في الوقت الحاسم لحماية الدير، بعد أن تعرض أبناء الجبالية لأزمة ضخمة. تقول الرواية: "من يتولى مشيخة الدير الآن هو أحد أبناء قبيلة أولاد سعيد، يدعى الشيخ سليم، وهناك فرع في العائلة يتولى مهمة الطبخ لرهبان الدير وزواره، وكبير مشيخة الدير هو الذي يتدخل للحل إذا نشب خلاف بين قبائل العرب ورهبان الدير، وغالباً ما يراعي مصلحة الرهبان في هذا الشأن".
الدير وساكنو الجبال
حينما يأتي ذكر ساكني الجبال، يتبادر للذهن بشر فارعو الطول، شديدو البنيان، تتناسب أجسادهم مع سكنى المرتفعات الوعرة، وهذا ما تخيلته بالضبط قبل أن يدعوني حميد أبو مساعد الجبالي لزيارة وادي التلعة بكاترين، وبصحبته حميد، شاب هادئ، قامته أقل من المتوسط، ورفيع إلى درجة كبيرة.
مع صعود جبل التلعة وهبوط الوادي السحيق، حيث مزارع اللوز والزيتون وأشجار الصنوبر، وبينما كنت ألهث من فرط التعب، كان حميد يتسلق الجبل بخفة شديدة، وعلى جانبي مطلع الوادي كان هناك مراهقون من أبناء الجبالية، يتسلقون جبلاَ وعراً بسرعة لم أرَ مثلها من قبل، وكان يبدو على هيئتهم شيء فطري وبدائي، جعلني أشعر كما لو كنت في غابة جبلية بدائية، وهؤلاء هم البشر الأوائل، حتى الجمل القصيرة التي تبادلها حميد بصوتٍ عالٍ بدت كما لو كانت شفرات بدائية، تُعرف من صوتياتها أكثر مما تُعرَف بكلماتها. كان هو في الأسفل وهم يردون عليه في الأعلى دون أن يتوقفوا عن صعود الجبل، لذلك كله ليس غريباً أن يكونوا أدلاء مهرة في طرق الجبال الوعرة، والمتشعبة للسياح الذين يفدون لزيارة جبل موسى والدير التاريخي.
وكان من الطبيعي أن يلعب الدير دوراً في حياتهم وأرزاقهم.
وكان من الطبيعي أن يلعب الدير دوراً في حياتهم وأرزاقهم، سواءً عن طريق العمل بالسياحة أو في مزارع الدير المنتشرة أسفل هذا الوادي أو حتى في حراسته، فيما يُعرف بنظام الخفرة.
في تصريحات سابقة لأحد مشايخ الجبالية، حكى أحمد أبو راشد المسعودي أن أفراداً من قبيلة الجبالية أتوا من شبه الجزيرة العربية، ومنهم من أتى من داخل مصر، ومنهم من أتى من أوروبا، واختلطوا بقبائل العرب، ومع الزمن صارت طباعُهم من طباع العرب، ولغتهم من لغة العرب، وهم هنا في سيناء منذ القرن السادس الميلادي.
أما صديقي الذي خو من قبيلة أولاد سعيد، فيحكي: "أتى الجبالية في عهد محمد علي، وكانوا جنوداً مصريين كلفهم الباشا حماية الدير، أتوا ومعهم أسرهم وعاشوا في أعلى الهضبة، لذلك تجد من بين الجبالية فرع عائلي يدعى (الجندي) نسبةً للجنود الذين جلبهم محمد علي إلى هنا".
كان ناعوم بك شوقير ضابطاَ في الجيش المصري السوداني حينما هم بكتابة مرجعه عن تاريخ سيناء، واعتمد في أغلب سرده لتاريخ القبائل على روايات القبائل العربية هناك، ومن بين تلك الروايات ما يؤيد تاريخ الجبالية الممتد إلى القرن السادس الميلادي في سيناء، ومنها ما يؤيد تلك الرواية التي رواها صديقي من قبيلة أولاد سعيد عن مشاركة قبيلته في تاريخ حماية الدير باختلاف بسيط.
كيف لدير في صحراء يسكنها البدو، دانوا بدين آخر فيما بعد، أن يختبر السلام والطمأنينة طوال تلك العقود، رغم الاضطرابات التي تجتاح المنطقة بين حين وآخر؟
يروي شوقير أن الجبالية كانوا قد تقاتلوا فيما بينهم، وظلوا على هذا الأمر حتى قل عددهم، وأصبحوا لقمة سائغة لقبائل العرب، فتدخل رهبان الدير، ووسطوا قبيلة أولاد سعيد لحماية الفتيان القلائل المتبقين من الجبالية حتى يشتد عودهم مرةً أخرى، وكان ذلك مقابل مزرعة منحها الرهبان لفرع الحسنية من قبيلة أولاد سعيد.
ويضيف صديقي من قبيلة أولاد سعيد إلى رواية شوقير: "كانت قبيلة الجرشة هي التي طردت الجبالية، وتدخل جدودي لضمانهم عند قبائل سيناء، وساعدوهم على العودة".
يذكر شوقير في كتابه أن الجبالية لم يكونوا قد دخلوا إلى الإسلام إلا متأخراً، وبالتحديد بعد دخول العثمانيين مصر، وله حكاية طريفة في هذا الشأن، هي: "وحينما علموا بأن السلطان العثماني سليم الأول دخل إلى مصر، أوفدوا وفداً منهم، يطلبون إليه أن يسمح لهم بدخول الإسلام، وأن يعفيهم من أعمال السخرة في الدير، فأجابهم السلطان: أما الدخول في الإسلام فلا أمنعكم عنه ولكم ما طلبتم، أما عن الدير فقد عرفت أن الإمبراطور يوستنيانيس عاهد الدير على حراسته بكم، والملوك لا ينقضون كلام الملوك، وإلا أتى من ينقض كلامي من بعدي".
دخول مفاجئ
أحمد محنا، هو صديق آخر من قبيلة المزينة من طور سيناء، تخرج من كلية الإعلام، وتعلم الإخراج السنيمائي، وأخرج عدداً من الأفلام الوثائقية عن سيناء، حكى أن أفراد قبائل سيناء لم يكونوا يسمحون بزواج أبنائهم من أبناء الجبالية، وقال: "كانوا يقولون إنهم مش مأصلين (أصولهم غير معروفة)، بس الكلام دا كان زمان، ولما الناس اتعلمت واتنورت أصبحت القبايل تتزوج من الجبالية والعكس".
وهكذا يتطور الزمن أيضاً، لكن الجبالية الذين أتوا من خلف البحر الأسود، ودخلوا الإسلام في عهد السلطان العثماني، ومروا بصراعات وانقسامات، ما زالوا على عهدهم بحراسة الوادي المقدس، يشاركهم في تاريخهم هذا عدد لا بأس به من أبناء القبائل الأخرى، أولاد سعيد والسواركة وربما الترابين أيضاً، من يعلم ربما تكون رواية سليل تلك القبيلة صحيحة على غرابتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع