تعيش تونس على وقع جدل استبق هذه المرة شهر رمضان، ويتعلق "بأوامر رئاسية للتضييق على المفطرين خلال هذا الشهر"، في البلد الذي لطالما نُظر إليه على أنه قطع أشواطاً، متقدّماً على بقية الدول العربية المحافظة في التحديث.
خرج الخبر إلى النور مع مقال نشره موقع محلي عن اتخاذ إجراءات لتشديد ملاحقة المفطرين خلال شهر صيام المسلمين، ما أعاد التساؤلات عن المواطنة ومدى تكريس هذا المفهوم على أرض الواقع، وخاصةً مدى احترام السلطات للحريات الفردية.
وقال المقال إن "رئيس الجمهورية قيس سعيّد أصدر تعليماتٍ بتطبيق القانون بصرامة على المجاهرين بالإفطار خلال شهر رمضان"، في خطوةٍ لم تنفِها رئاسة الجمهورية، ولم تؤكدها.
انتهاك للحريات
مع عودة الجدل بشأن المفطرين في رمضان، والذي يُطرح في الأوساط المجتمعية كل عام، تُطرح علامات استفهام جديدة بشأن احترام الحريات والحقوق في تونس من طرف السلطات هذه المرة، وكيفية استغلال حرية المعتقد في البلاد التي تشهد أزمةً سياسيةً واقتصاديةً حادةً باتت تهدد استقرارها، خاصةً بعد المنعرج الأخير الذي دخلته جرّاء حلّ البرلمان.
وكانت تونس قد شهدت في السنوات الأخيرة وقفاتٍ احتجاجيةً للمفطرين الذين عبّروا عن امتعاضهم من التضييق عليهم، سواء بإغلاق المقاهي أو غير ذلك، لكن اليوم أصبح استغلال هرم الدولة للمسألة ناقوس خطر يزيد من مخاوف تراجع الدولة عن المكتسبات الحقوقية للمواطنين.
وقالت إيهاب الطرابلسي، عضوة "المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة"، وهو منظمة غير حكومية، إن هناك "انبثاقاً لدكتاتورية جديدة في ثوب دينيّ، ونخاف على الحريات من أن تنتهك في بلد المدنيّة وفي بلد الحريات. يجب أن نحترم الفرد في اختياره حتى لا يقوم بأشياء لا يقبلها فلا إكراه في الدّين".
وتابعت الطرابلسي، وهي أيضاً عضوة في الجمعية الدولية للاستشراف والدراسات الأمنية المتقدمة، في تصريح لرصيف22، أن "السلطة يجب أن تكون حاميةً للجميع ومراعيةً لكلّ الأطياف والأديان، ولا تميّز فرداً عن فرد، إلا باحترام القانون. فكلّنا سواسية ويجب أن نبقى كذلك".
وشددت على أن "إشكالية إغلاق المقاهي لا يجب أن تُطرح اليوم بعد أن قام الشعب بتغيير النظام ناشداً بذلك حريته: حريّة التعبير وحريّة الضمير وحريّة المعتقد. وفي هذا الإطار لا يجب أن نغفل عن سمعة تونس الرائدة في مجال احترام حقوق الإنسان، وعليه لا نقبل العودة إلى الوراء، فمكتسباتنا ثمينة ولا تُقدّر بثمن".
إشكالية إغلاق المقاهي لا يجب أن تُطرح اليوم بعد أن قام الشعب بتغيير النظام ناشداً بذلك حريته: حريّة التعبير وحريّة الضمير وحريّة المعتقد
ومع صعود تيارات إسلاموية بعد ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011، التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، شهدت البلاد تحركات عدة أثارت جدلاً على غرار ملاحقة وجوه إسلامية متشددة مثل رئيس حزب الزيتونة الإسلامي، عادل العلمي، لمفطرين والتهديد بإغلاق المقاهي بالقوة.
وقالت الطرابلسي: "نحن لا نستطيع اتّهام هؤلاء بالجحود ونكران فعل الصوم من جهة، ولا نستطيع أن نفرضه على من تصحّ عليه الفرائض، وإن فعلنا سنكون قد تعدّينا صلاحياتنا كدولة تحترم قرارات الفرد ورغبته. وبما أنّ علاقة المواطن بربّه أو بما يعبد خاصّة جداً لا دخل لأيّ كان فيها، فنحن لا نرى أيّ إشكال في إفطار البعض إن أرادوا ذلك، فهذا أمر لا يخدش الحياء ولا يتعدّى على حرمة الآخرين، ولا يمسّ كرامتهم لأنّ الخيار يبقى شخصياً مئة في المئة".
قوانين بالية
الجدل القديم الجديد بشأن المفطرين في رمضان، يسلّط الضوء على منظومة القوانين في تونس التي تحتاج إلى تطوير، إذ ما انفكّ منشور أصدره وزير الداخلية في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة محمد مزالي، المعروف بقربه من الإسلاميين، في 1981، والذي ينص على حظر فتح المقاهي في رمضان، يثير سجالات.
ولا ينص دستور 2014، الذي علق الرئيس سعيّد العمل بجل أبوابه، في أي فصل من فصوله على ذلك، غير أنه يبدو أن هناك ثغرات قانونيةً، بالإضافة إلى "منشور مزالي" الشهير، يتم استغلالها للتضييق على المفطرين.
وقال المحامي التونسي، علاء الخميري، إنه "بالرغم من مخالفته الصريحة والمباشرة لدستور 2014، اعتقدنا أنه سيتم التخلص من هذا المنشور لأنه أولاً ليس قانونياً، وثانياً هو غير دستوري، وثالثاً دوره دور تفسيري لا أكثر، ولا يمكن لنصوص تفسيرية أن تخالف نصوصاً أعلى منها درجةً، حتى في الظرفية الحالية التي تم تعليق جل فصول الدستور فيها فإن الباب المتعلق بالحريات في دستور 2014 لا يزال ساري المفعول".
ويوضح الخميري في حديث إلى رصيف22، أن "نص 1981 مخالف لحرية الضمير، ومخالف للقانون، ومخالف للدولة المدنية، وهذا المنشور مرآة للدولة التونسية في تعاملها مع الدين، تعاملها الثنائي والمتناقض مع المسألة الدينية".
قال المقال إن "رئيس الجمهورية قيس سعيّد أصدر تعليماتٍ بتطبيق القانون بصرامة على المجاهرين بالإفطار خلال شهر رمضان"، في خطوةٍ لم تنفِها رئاسة الجمهورية، ولم تؤكدها
وأردف الحقوقي التونسي: "من ناحية فإن الدولة تتيح بيع الخمر بل تحتكر ذلك حتى في استيراده، لكن من ناحية أخرى لديها نصوص قانونية تمنع بيعه في شهر رمضان وفي يوم الجمعة. ومن جهة أخرى فإن قطاع السياحة من أهم القطاعات في الاقتصاد التونسي، وتالياً هذا المنشور إذا كانت له إيجابيّة وحيدة فهي فضح النفاق الرسمي التونسي في التعامل مع الدين وتعريته، لخدمة مصالح الدولة لا أكثر".
وختم بالقول إن "السلطات السابقة لم تتجاوز المنشور التعيس لسنة 1981. قضية ملاحقة المفطرين طُرحت مجدداً الآن، ولا أستبعد أن يتم التضييق على هؤلاء بالرغم من أن السلطة الحالية ليست لها علاقة مباشرة بالدين كمرجعية أو كأداة من أدوات الحكم، غير أنه في إطار التوجه الشعبوي كل شيء ممكن للحاكمين الجدد، خاصةً أنه ليست لديهم خلفية سياسية وفكرية تقدمية وحاسمة في مسألة الحقوق والحريات، حتى تصريح الرئيس الحالي عن علاقة الدين والدولة، كان مجرد لعب على الكلمات عندما قال إن الدولة كيان معنوي، وتالياً لا يمكن أن يكون لها دين".
ويُعرف الرئيس سعيّد، الذي يجمع بيديه كل الصلاحيات منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، بمواقفه المحافظة إذ رفض فكرة المساواة في الميراث عادّاً أن النص القرآني كان حاسماً، لكنه لم يتطرق إلى مسألة الإفطار في رمضان، وهو ما جعل التكهنات تتصاعد حول ما تجهّزه السلطات للمفطرين هذا العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...