في كل محافظة من محافظات مصر عادات غذائية ترتبط بشهر رمضان. بعض عناصر المائدة تكاد تكون ثابتة. مثلاً، اعتادت الأسر المتوسطة الحال أن تكون وجبة "المحشي" بأصنافه المختلفة عماد مائدة إفطار اليوم الأول من الشهر، وقد يجاورها الدجاج. لكن في المحافظات المطلة على ساحل المتوسط وبعض محافظات الصعيد، يحل "البط" محل الدجاج.
هذا العام باتت جميع عناصر مائدة رمضان مهددة بسبب ارتفاع كبير في الأسعار جعل سعر الكيلوغرام من "ورق العنب" ثمانين جنيهاً، أما البط والدجاج فقد اضطرت الكثير من الأسر إلى حذفهما من القائمة أو تخفيض كميتهما بسبب ارتفاع أسعار اللحوم البيضاء، بعد هدوء نسبي في الأسواق تلا قفزة سابقة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بسبب ندرة الأعلاف.
هذه المرة، أتت الحرب الروسية الأوكرانية، مضافاً إليها تخفيض قيمة الجنيه، لتحرم أسراً عديدة من مناسبة موسمية لتناول اللحوم، إذ تعد مصر من الدول التي يتراجع فيها استهلاك الأفراد للحوم بسبب انتشار الفقر وندرة المعروض. بحسب دراسة لمركز البحوث الزراعية (حكومي)، لا يزيد نصيب المواطن من اللحوم البيضاء عن 9.3 كيلوغرام فقط في السنة، ما يعادل نحو عُشر المتوسط العالمي البالغ 90 كيلوغراماً من اللحوم البيضاء للفرد.
بحسب دراسة لمركز البحوث الزراعية (حكومي)، لا يزيد نصيب المواطن المصري من اللحوم البيضاء عن 9.3 كيلوغرام فقط في السنة، ما يعادل نحو عُشر المتوسط العالمي البالغ 90 كيلوغراماً من اللحوم البيضاء للفرد
لا للـ"بط"
اضطر محمد فاروق إلى التخلي عن كثير من الأحلام بعد تخرجه في أحد المعاهد الفنية، وهو ترك مسقط رأسه في بني سويف مخلّفاً فيها أسرته، وانتقل إلى القاهرة ليعمل نقَّاشاَ، مكتفياً بزيارة الأسرة مرة كل بضعة أسابيع، وينتظر قدوم شهر رمضان وتباطؤ أعمال الإنشاءات والتشطيبات فيه ليعود وينعم ببضعة أيام في كنف الأسرة. "الواحد استغنى عن حاجات كتير، فخلاص حياتنا مش هتقف على البط، هنقضيها بأي حاجة". يقولها فاروق معلقاً على ارتفاع سعر كيلو البط إلى 50 جنيهاً (2.7 دولار) في بني سويف والكثير من محافظات الصعيد، فيما وصل سعر الكيلوغرام في محافظات الوجه البحري إلى 65 جنيهاً (3.51 دولار) وينخفض في القاهرة والجيزة إلى نحو 60 جنيهاً للكيلوغرام (3.24 دولار).
يداخل محمد فاروق الحزن كونه لم يتمكن من أن يوفر لأبنائه الوجبة التي اعتادوا تناولها في رمضان من كل عام، لكن حزنه الأكبر أنه مضطر إلى أن يقضي أوقاتاً أطول بعيداً عنهم لتوفير المال. يقول لرصيف22: "بعد ارتفاع الأسعار الأخير قررت أن أتنازل عن إجازة رمضان. وأقضيه بعيداً عن زوجتي ووالدي وابني الذي يحتاج إلى رعاية خاصة، باحثاً عن عمل إضافي. ففي ظل هذه الزيادات لم يعد دخلي الحالي قادراً على الوفاء بمتطلبات أسرتي".
""فطورنا عليك يا رب"
"عشانا عليك يارب"، هكذا عبّر عبدالله محمود* الموظف في وزارة الأوقاف صباحاً، وسائق التوكتوك مساءً، وهو يصف مائدة إفطاره هذا العام في رمضان.
اضطر محمود إلى العمل على توكتوك بعد الظهر للوفاء باحتياجات أسرته رغم أن وضعه الصحي يجعل من خياره هذا خطراً على حياته. "أنا مصاب بمرض النزف الوراثي هيموفيليا، ولكن لم أجد امامي طريقاً آخر لزيادة دخلي، لأن مصروفات علاجي ومصروفات ابنائي الثلاثة تتخطى 8000 جنيه (432.51 دولار) شهرياً قبل القرارات الاقتصادية الأخيرة، بينما راتبي 2000 جنيه. من أين أغطي هذا الفرق؟".
اضطرار أسرته إلى الاستغناء عن اللحوم على مائدة شهر رمضان ليس الأمر الذي يشغله، إنما "كسر خاطر" أبنائه لأنه يرجح أنه لن يتمكن من شراء ملابس جديدة لهم للاحتفال بعيد الفطر المنتظر، يقول: "الولاد بيستنوا المناسبة دي عشان يفرحوا، ودا اللبس اللي بيكمل معاهم طول السنة".
تنهمك فهيمة بحسابات ذهنية معقدة، تخلص منها إلى أن أسرتها تحتاج إلى نحو أربعة آلاف جنيه شهرياً للوفاء باحتياجاتها الأساسية من طعام وبدل إيجار وعلاج. "نبحث عن الأساسيات الآن، كالأرز الذي بلغ ثمن الكيلوغرام منه 13 جنيهاً".
أين "الشنطة"؟
"الحياة بقت صعبة جداً والأسعار كل يوم في زيادة مش عارفين هندبرها منين، خاصة وأن زوجي لا يعمل منذ 4 أشهر". بهذه الكلمات بدأت السيدة فهيمة محمود*، 38 عاماً، حديثها لرصيف22.
مثل الكثير من سيدات الصعيد، تكتفي فهيمة التي تسكن وأسرتها في محافظة قنا، بدور ربة الأسرة، خاصة أن اثنين من اطفالها الثلاثة مصابان بأمراض تحتاج إلى رعاية فائقة، أحدهما مريض بالهيموفيليا "نزف الدم الوراثي " والآخر مصاب بارتشاح على المخ. تقول: "السنة الماضية كنا نشترى احتياجات المنزل من سكر وزيت وأرز وبروتين بألف جنيه، استعداداً لشهر رمضان. هذا العام أصبح الوضع أصعب بعدما فقد زوجي مصدر دخله. وحتى لو تمكنا من توفير الألف جنيه فهي لا تكاد تكفي لشراء الزيت والخبز وبعض الحبوب وتدبير علاج الطفلين، أما شراء اللحوم أو الدواجن فبات خارج نطاق قدراتنا وأحلامنا".
تنهمك فهيمة بحسابات ذهنية معقدة، تخلص منها إلى أن أسرتها تحتاج إلى نحو أربعة آلاف جنيه شهرياً للوفاء باحتياجاتها الأساسية من طعام وبدل إيجار وعلاج. "نظراً لظروف أسرتي، لم نعد قادرين على شراء الفاكهة والدواجن، فما بالك البط الذي خرج من حساباتنا تماماً. نبحث عن الأساسيات الآن، كالأرز الذي بلغ ثمن الكيلوغرام منه 13 جنيهاً".
وتختم: "كل ما نحتاج إليه هو توفير فرصة عمل لزوجي، وخفض الأسعار التي تزداد يوماً تلو آخر من دون رقابة". مشيرةً إلى أنها تنتظر "شنطة رمضان" التي ترسلها الجمعيات الخيرية كل عام للأسر المتعففة عن طريق عمدة القرية أو عبر مكتب البريد، وإلى الآن لم تأتها شنطة هذا العام. ووفقاً لفهيمة، تتكون الشنطة من "كيلو سكر، زجاجة زيت، كيلو أرز، نصف كيلو فول، نصف كيلو عدس، كيس سمن زنته نصف كيلو، دجاجة صغيرة تزن كيلو ونصف وكيلو تمر"، علماً أن كل الأسرة في بلدتها تحصل على شنطة واحدة طوال شهر رمضان.
البروتين ليس للجميع
في سياق متصل، أكد عبد العزيز السيد، رئيس شعبة الدواجن بالغرفة التجارية بالقاهرة، لرصيف22، ارتفاع أسعار الأعلاف خلال الشهر الأخير "من دون مبرر، رغم وجود مخزون إستراتيجي يكفي نحو سبعة أشهر"، لكن بعد الحرب في أوكرانيا وتخفيض سعر الجنيه مجدداً، زاد سعر الشوال نحو 200 جنيه، متابعاً: "الوضع في مصر آمن، وليس هناك مبرر لرفع الأسعار"، محملاً المستوردين مسؤولية تلك الزيادة التي تراوح بين 20% و 25%، ما أدى إلى زيادة أسعار الطيور والبيض 17% تقريباً.
وكشف السيد الأسعار الأخيرة للطيور: سعر كيلوغرام الدجاج المذبوح 36 جنيهاً، وطبق البيض الأبيض 56 جنيهاً، والبيض الأحمر 60 جنيهاً للمستهلك. أما الدواجن البلدية، فتباع للمستهلك بسعر 46 جنيهاً للكيلوغرام، والبط المسكوفي بسعر 36 جنيهاً للكيلوغرام، وسعر كيلوغرام البط البلدي للمستهلك نحو 58 جنيهاً.
واعتبر السيد أن الدولة تقوم بتحركات إيجابية في مجال توفير السلع للمواطنين من خلال معارض السلع الغذائية، متمنياً أن تنعكس تلك المبادرات التي توفر السلع في السوق على الأسعار.
وأضاف: "نحن أفضل من دول أخرى تأثرت سلباً نتيجة الأحداث الأخيرة. لكن وجود مخزون من السلع الإستراتيجية خفف الصدمة على الأسواق. وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار، فإن المواطن مطمئن إلى أن السلع موجودة وإن كانت القوة الشرائية ضعيفة".
وأكمل: "البط في مصر له مواسم كشهر رمضان والكريسماس"، مشيراً إلى استيراد مصر نحو ثمانية ملايين بطة هذا العام إلى جانب إنتاج محلي يراوح بين 13 و 14 مليون كيلوغرام. علماً أن الاستهلاك يبلغ 22 مليون بطة في وقت يتخطى عدد سكان مصر 103 ملايين.
ووفقاً لعبد العزيز، فإن واردات مصر من البط الفرنسي "المولار" العام الماضى قدرت بـ 22 مليون دولار. وقد انخفضت هذا العام إلى ثمانية ملايين "مما يعني انخفاض القوة الشرائية"، متابعاً "ما يهمنا حالياً هو توفير الدواجن للمواطنين في المنافذ"، ونافياً ما يتم الترويج له إعلامياً، وخلاصته أن المصريين شرهون في استهلاك اللحوم. قال: "لو فرضاً أن استهلاكنا 40 مليون بطة سنوياً، فهذا يعني أن نصيب الفرد نحو ثلث بطة في السنة، أو نحو كيلوغرام واحد".
وحذّر من استمرار ارتفاع أسعار الأعلاف: "لو استمر الوضع الحالي فالكل خاسر، حتى المستورد الذي يظن أن هذه هي فرصته لتحقيق ارباح خيالية. فالمنتجون (مربّو الدواجن) قد يتراجعون عن الاستمرار في الإنتاج، لأنه سيعود عليهم بخسائر. لذا لا بُد من رقابة صارمة من الجهات المعنية لمنع المنافسة والممارسات الاحتكارية".
_____
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين