مرّ 37 أسبوعاً وستة أيّام على الحدث الأهم بحياتي، وهو الإنجاب. وقد قضى ابني داخلي 37 أسبوعاً وخمسة أيّام، أيْ اليوم، وأنا أكتب هذا النصّ، تُصبح عدد أيّامه خارج رحمي أكثر مما قضيناه سويّاً كقلبين في جسد واحدٍ.
لا أدري لماذا يكتسي هذا اليوم أهميّة خاصّة عندي. قبل الأمومة كنت أستغرب وأسخر أحياناً من حماسة الأمهات وتعظيم كلّ ما "ينجزه" الصغير. كنت أستغرب من فرحتهن المبالغ فيها مع كُلّ "أوّل": أوّل ابتسامة وأوّل صوت وأوّل لقمة وأوّل خطوة...
فما الجديد في هذا كلّه؟ وما المثير في الأمر؟
يولد كل يوم حوالى 400 ألف رضيع في العالم، ويبتسم الآلاف وينطق الآلاف. ولكن، يبدو أنّ للأمومة منطقاً مُختلفاً.
يولد كل يوم حوالى 400 ألف رضيع في العالم، ويبتسم الآلاف وينطق الآلاف. ولكن، يبدو أنّ للأمومة منطقاً مُختلفاً. مُنذ أن اكتشفت بأنّي حامل وأنا في رحلة انبهار وتقدير لمعجزة الحياة، أُتابع بشغف ما الذي يحدث في كلّ مرحلة من مراحل تكوّن الجنين. ويأتي السؤال الفلسفي الشهير: هل أنا/ جسمي هو الذي يَخلق الجنين أم هو فقط وعاء مُلائم لإرادة الله ونواميس الطبيعة؟ هل نحن فعلاً شخص واحد بقلبين وفصيلتي دم مختلفتين؟ هل نبدأ واحداً ثُم ننفصل رويداً رويداً؟
للعلم أجوبة قطعية، وللدين أجوبة قطعية أيضاً، كُلّ من منظوره، ولكنّها بالنسبة لي نصف إجابات. على الأقل، وجدتُ إجابة عن أسئلة ما قبل الأمومة، أي حول "مبالغة" الأمهات في حماستهنّ. نحن مُتحمسات لا لعظمة "الإنجازات"، وإنّما لجمال وعظمة الحياة نفسها. نُدرك منذ الأيام الأولى للحمل وخوفنا من الإجهاض هشاشة الحياة. ونُقدّرُ مع أوّل "الترا ساوند" كم هي قيّمة دقّات القلب، ثُمّ مع الولادة، نقدّر أهميّة النّفس، ومع النّفاس، نقدّر أهميّة النوم.
طبعاً هذه صورة وردية حالمة. فالوجه الآخر لهذه الصورة هو القلق المُرافق للتقدير والإدراك. ومع كل الانبهار والدهشة تتسلّل تساؤلات الـ"ماذا لو؟"، ماذا لو حصل مكروه ما وأجهضت؟ أو أنجبت طفلاً بإعاقة معيّنة؟ ماذا لو توّقفت رئتاه؟ ماذا لو انزلق من يدي خلال الحمام؟ ثُمّ تأتي مرحلة الـ"هل": هل أنا جيّدة بما يكفي؟ هل طفلي سعيد؟ هل النوم مهارة مُكتسبة أم تطوّر طبيعي؟ هل معدّل نموّه طبيعي؟ وهلُّم جرّاً. تساؤلات واستفسارات لا نهائيّة، ولا أدري هل هي طبيعية أو ناتجة عن شخصيتي القلقة.
هذه صورة وردية حالمة. فالوجه الآخر لهذه الصورة هو القلق المُرافق للتقدير والإدراك. ومع كل الانبهار والدهشة تتسلّل تساؤلات الـ"ماذا لو؟"، ماذا لو حصل مكروه ما وأجهضت؟ أو أنجبت طفلاً بإعاقة معيّنة؟ ماذا لو توّقفت رئتاه؟ ماذا لو انزلق من يدي خلال الحمام؟ ثُمّ تأتي مرحلة الـ"هل": هل أنا جيّدة بما يكفي؟
أغني له كل ليلة التهويدة الشهيرة "نني نني جاك النوم"، أحضنه وأنا أغنيها وأستحضرُ ميمة - في تونس ننادي الجدّة ميمة وهي مشتقة من كلمة أُمَيْمة كصيغة تصغير لكلمة أمي. أغمض عينيّ فأشعر بالدفء والأمان نفسيهما اللذين جاد بهما حضنها. وأتساءل كيف مرّرت ميمة حنانها إلى هذا الصغير دون أن تلتقيه؟ وأستغرب في كل مرّة كيف لا يعرف أحدهما الآخر! الكائنان الأقرب إلى قلبي لم يلتقيا، جاء بعدما غادرت هي. أم تراها تعرف؟ تقول التهويدة في مقطعها الأول "يا هليّل في أوّل يوم" يرقّ قلبي لهذه العبارة وأدعو الله أن يُريني إيّاه قمراً وأنْ يُطيل أيامه ولا يفجعني فيه. أضعه في سريره وكلّي أمل بأن ينام نوماً عميقاً غير متقطّع، فلم أعد قادرة على المواصلة على نفس النّسق! أُحبّه حُبّاً صادقاً، وفي نفس الوقت اشتقت إلى النوم بهدوء لليلة كاملة. اشتقت إلى حُريّتي، إلى عملي، إلى نفسي السابقة. حقيقةً، لا يوجد أيّ تناقض فمن حقّ كل أم أن تحظى بوقت لنفسها وللراحة. ولكنّنا في ثقافتنا العربية، ربطنا مفهوم الأمومة بالتضحية والفداء، فكلما تخليت عن نفسك أكثر، نلت تقدير المجتمع واستحققت كلمة "أم".
في مجتمعاتنا، كثيراً ما نسمع: "ساهلة مالا هي الجنة تحت أقدامك"، "إحْمد ربي غيرك يشتهي الضنى"، "يزيك ما رقدت"، "آش ريت ما رات الناس". وهذه عيّنة ممّا تسمعينه إن اشتكيت أو استصعبت أمور الحمل والولادة. تجرأتُ مرة وقلت بحضور قريبتي: "شكراً لا أريد جنة تحت قدميّ ولا أريد أن أُضحي أو أنْ أسعى لأن يُطيعني، ولست مُقدّسة". كادت المسكينة تفقد وعيها من "صدمة" ما سمعت. أريد أن أعيش حياتي برفقته، أريده أن يقاسمني ما تبقى من عُمري ولن أبتزه "بتضحياتي" التي لم يطلبها منّي، ولن أفرض عليه خياراتي ومبادئي.
في مجتمعاتنا، كثيراً ما نسمع: "ساهلة مالا هي الجنة تحت أقدامك"، "إحْمد ربي غيرك يشتهي الضنى"، "يزيك ما رقدت"، "آش ريت ما رات الناس". وهذه عيّنة ممّا تسمعينه إن اشتكيت أو استصعبت أمور الحمل والولادة
قالت لي طبيبتي النفسية في أثناء حديثنا عن الأمومة ذات مرّة: "فكري فيها كالتالي: أنت الآن تُقدّمين لابنكِ لا ردّاً للجميل الذي قُدِّمَ لكِ ولا انتظاراً لجزاء مُستقبليّ، إنّما عربوناً للطبيعة حتّى تستمر سلسلة العطاء التي اخترتِ، بمحض إرادتك، أن تكوني حلقة منها". ولا أجِدُ خاتمة أفضل من كلماتها هذه للتفكّر والتأمّل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.