هنا، يجمّد البرد أطراف أحلامك الكبيرة، ويبتر الثلج أمانيك الطفوليّة الأولى، وتجترّ ساعة يدك النعناع الذي ينام على جدار رحمك، منذ تورطّت الملائكة في صورتها، فنفخت في الرضّع من نفسها، كنايةً عن نقائها وبياضها، وتشبيهاً دقيق التصويب.
هنا، العالم الذي جئته أشكو قلّة الجرذان، جئته أطمع في بيت للحكمة أشيّد به أحابيل اللغة، وجئته هرباً من قبرٍ قفرٍ بلا حرب. هل يصف الرشيد بلده-الأمّ بقبرٍ قفرٍ؟
وهنا، أنا بلا بلد، وبلا أمّ، وبلا قبر. هنا فقط بدأت أدرك أن القفر الأكبر أخذ يمتدّ ويكبر في داخلي، وأنّ حياة الثلج الرغيدة جحيم يحرق أجمل غرائزي: الأمومة.
أحببت منذ البداية أن يترابط المشروعان اللذان يتخبّط داخلهما حلمي، وأنقاض هزائمي: الكتابة والأمومة. ولأنّ الكتابة جزء من هويّة الفرد الفكريّة، ولأنّ الأمومة جزء من هويّة الفرد الروحية، اخترت لها اسما لتحيا: اسماً لا ريب فيه، يمشي على أربعٍ إلى سماء فكرتي الأنبل. ولأنّني أريد للمشروعين أن يتوحدّا، جعلت كلّ الكتّاب والمبدعين الذي ألتقيهم، منذ تاريخ انبثاق هذا الحمل الأسطوري -وهو كذلك لأنّها اصطفتني أمّاً- يوقعّون لها بدلاً منّي نوتةً، أو حرفاً، أو صورةً تفترشها يوم تغيب يداي عن ضفيرتها.
وهنا، أنا بلا بلد، وبلا أمّ، وبلا قبر. هنا فقط بدأت أدرك أن القفر الأكبر أخذ يمتدّ ويكبر في داخلي، وأنّ حياة الثلج الرغيدة جحيم يحرق أجمل غرائزي: الأمومة.
لكنّ فرنسا جعلت منّي مشروع مهاجرة دائمة، وجعلت من مشروعها مشروعاً قابلاً للتأجيل دائماً. عليّ أن أعترف بأنّني في البدء لم أنتبه إلى هذا المكر الباريسيّ، بيد أنّني هذه السنة، حين أشار ثعلب الروزنامة إلى دنّو أجل عقدٍ من عمري السريع، أدركت أنّ الأخفش أسود وأنّ المدينة المؤنثة لفظاً ومعنىً، في اللسانين العربي والفرنسي، شرعت تعبث بالبيت المدوّر داخلي، وأنّها نصبت لي مكيدةً: تنفث خبر عقمي، وما كنت امرأة سوء.
أنا لست مريم.
ولا أريد عيسى. أريدها هي من لدني، ومن دمي، ومن حبري، ومن أرضي، ومن سمائي، ومن جنّتي، ومن جحيمي، ومن انتصاراتي، ومن هزائمي. لسنا ندّعي نبوءةً. نحلم أن نكون بشراً عاديين، فينا ثقلان للشرّ كما للخير. نبكي ونحبّ ونموت ونصفّق طويلاً أمام معزوفة آخّاذة.
ألِفتُ أن أكتب في البيت. لم أرتَد يوماً مقهىً، لأرفو هذا الفراغ الذي اسمه العالم. وألِفتُ أن أكتب ببيجامتي، وأن أحتفظ لحظة الكتابة بكلّ رائحة النوم التي لا تغادر بُصيلات شعري بسرعةٍ، وبجوارب شتاءٍ تغصّ بالصوف وبالدفء. كنت أضع نفسي دائماً في حالة "نفاسٍ"، وأتعامل مع الورق الأبيض كما تتعامل الأمّ مع الوليد. كنت أكتب بثقةٍ كأنّها تدور حولي في مساحة الدار الضيّقة، حتّى أنّني أحياناً أطلب منها أن تكفّ عن المواء، لئلا تهرب الفكرة. وأيّ فكرة أنشد وهي فكرتي أبداً؟
البيت عندي صورة عن الرحم. نمشي أنا وهي بنديّةٍ: لكِ رحمي، ولي البيت. لكِ الدفء، ولي جورب من صوفٍ.
أهدتني باريس لقاء ما بذلته -فباريس لا تهب لتهب- شهادةً من إحدى أعرق جامعاتها، وبطاقة مؤلفٍ من دار "كبيرة"، وصِفة أستاذ يدلف إلى مدارج الجامعة التي كانت أمس تبتلع قامتي القصيرة، وصفة طالبٍ، وفرصة عمل صحافي في مؤسسةٍ عريقةٍ، وسفراً كثيراً، وحرمتني منكِ... من أمومتي
ربّما يتعفّف الرشيد، فلا يدنو من قبرٍ مجهولٍ، وبيتٍ مجهولٍ لشاعر مجهول. بيد أنّ موت مريد البرغوثي السنة الفارطة، في شباط/ فبراير، فتح أمامي هذه الشهيّة. إنّ ما كتبه لها مريد، من أجمل ما دُوِّن من أجلها حتّى اللحظة. وغيابه أوقد رغبتي في حضورها. جعلتها أمنيته، علّني أستعجلها، فإنّ أماني الشعراء، كما معجزات الأنبياء، ولكنّ باريس لم تمنحها تأشيرةً.
ولأنّني تعودّت على أن أقدّمها إلى الناس، وإلى الطبيعة والحجر والأقلام ودور النشر، وضعت اسمها تحت اسمي في جواز السفر الأوّل الذي استخرجته حين قرّر أبي عنّي الهجرة. تركت لها أن توقّع اسمها بدلاً منّي، دليلاً على أثري. وهكذا حضر جوازها وجوازي. قلت: فلتوقّع. أليس وقعها على قلبي وعلى أنوثتي أبلغ؟
ولأنّني أكتب، فإنّ علاقتي بالخيوط وطيدةٌ، كما علاقتي بالخطوط. خطّ يفضي إلى خيط، وخيط يحبك الخطّ. ولعلّ أجمل تماسٍ بين السرد والخيط، مادّة (ح،ب،ك)، ولعلّني أعترف أنّ لهذا الفعل مكانةً خاصّةً في نفسي، فكلّما شدّدت وثاق الخيط، كلّما عصر أجود ما يضمر خطّاً وحبراً: زلالاً تنزّ منه الصور المبتكرة، وينزّ منه دمي.
في باريس. أعني في أوروبا. لم نسلم نحن، ولن يسلم الجيل الذي سيلي. مثلنا سيرون عكس كل شيء: انهيار المعنى والروح. وخطواتٍ مجهولةً، وطريقاً غير واضحة.
ومن باب الابتكار أيضاً ـ في اللغة كما في ناصيتي- أنّ "البكرة" محمول لفظي يحمل إلى مدلولٍ واحد: كبّة الخيوط. ومن باب الابتكار أن هذا المحمول مكوّر ودافئ كما الأرض، وكما الجنين.
ولذا ابتكرت، فرأيت أن أشتري كبّة صوفٍ قبل كتابة كلّ نصٍ. واشتريت لهذه الكبب سلّةً بيضويةً تنام فيها الخيوط، كما تنام الخطوط في جفن الورق.
نغيّر الأزمان، والصيغ، والآلهة، حتّى نجد التوازن الذي لا نخاف معه عبور هذا الصراط الطويل الذي اسمه المغامرة. نعجب من فتنة هذا الفريق: خيط وخطّ وحبر وماء. ألسنا كلّنا ماءً؟
وفرنسا ما تزال فرنسا. تكفر بي وبنبوءتي. تشمّ عطورها وتغازل شعرها النائم على كتفيها. تعبد تاريخها الفرنكفوني وتخيّرني بين غريزة بلا أرض، وبين زنزانة تحتبس فيها الكرات والأرض.
هنا، جئت لأتركك بعيدة المنال. إن اخترت غريزتي سحبت الأرض من تحتي، وإن اخترت الأرض حرمتني غريزتي منك. وأنا إنسان هلوع أريد الأرض، وأريدك على أربعٍ، ومن أربعٍ فوقها وتحتها وفيها.
هنا، أهدتني باريس لقاء ما بذلته -فباريس لا تهب لتهب- شهادةً من إحدى أعرق جامعاتها، وبطاقة مؤلفٍ من دار "كبيرة"، وصِفة أستاذ يدلف إلى مدارج الجامعة التي كانت أمس تبتلع قامتي القصيرة، وصفة طالبٍ، وفرصة عمل صحافي في مؤسسةٍ عريقةٍ، وسفراً كثيراً، وحرمتني منكِ... من أمومتي.
وماذا أفعل في مدينةٍ لست فيها؟
الآن، الآن هنا في فرنسا، في باريس، وتحت هذا المساء، وفوق هذه السماء، أريدك، ولتقتلني باريس بعدها.
في باريس... كلّ أبواب المجد مفتوحة، لكنّها ثمينة جدّاً ومؤقتة جدّاً. يحبّ الفرنسيّون لفظ "مؤقت"، لئلا ينسوا تذكيرنا بأنّنا أجانب مغتربون: بطاقة إقامة مؤقتة، وتصريح عمل مؤقت، وبطاقة علاج مؤقتة، وحقوق مؤقتة، ومواطنية مؤقتة، وإنسان مؤقت.
في باريس... كلّ أبواب المجد مفتوحة، لكنّها ثمينة جدّاً ومؤقتة جدّاً. يحبّ الفرنسيّون لفظ "مؤقت"، لئلا ينسوا تذكيرنا بأنّنا أجانب مغتربون: بطاقة إقامة مؤقتة، وتصريح عمل مؤقت، وبطاقة علاج مؤقتة، وحقوق مؤقتة، ومواطنية مؤقتة، وإنسان مؤقت
هنا الآن، إذا وضعت هذا الحمل غداً، ستلفظني أبواب الجامعة، لأنّني سأمسي حملاً ثقيلاً داخل أسوارها مؤقتاً، وستستغني عنّي الصحافة لأنّني فيها بديل ولد، ولا يلد. وسنعود معاً عاديتين كالأيّام والرتابة. سنبيع كبب الصوف والكمنجة التي أودعت ثمنها من ماء عينيّ. كم كان ذلك الراتب الأوّل سخيّاً ليستحيل نوتةً منك مؤجلة! ولن تهزّ مريم لا السرير الذي اخترته بعناية من قمقم التاريخ، ولا الجذع. وسنهدي الكتب الموقعّة إلى رضيعٍ شاب آخر، لئلا يسخر منّا ريلكه. وهنا آنذاك لن نجد قبراً، ولا حرباً، ولا قفراً.
هنا، لست أكثر من بديل يسدّ رمق الفراغات. وبيروت تفّاحة، والقلب لا يضحك.
في باريس. أعني في أوروبا. لم نسلم نحن، ولن يسلم الجيل الذي سيلي. مثلنا سيرون عكس كل شيء: انهيار المعنى والروح. وخطواتٍ مجهولةً، وطريقاً غير واضحة.
هذه الطفلة التي خلقتها منّي في أحسن تقويم، تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد. بعيدة كالنيازك، وممكنة كما فلسطين. خلقها الطين الذي أتنفسّ منه من النّار التي تشتعل في معاني اسمها الأرمنية الأصول، الفلسطينية المصدر.
ولأعترف أنّ مقولة "الخالة" التي اجتاحتني في السنتين الماضيتين، حرّكت فيّ هذا الشبق لأمومة تثقب كلّ زنازين الأرض، وتتحرّر من سؤال البيت الصغير.
يهرب من حقيقتي سؤال جبان: هل كانت أمومتي لتنال تأشيرةً في تونس؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...