كنت أمشي هائمة في المرّة الأولى التي قررت السفر فيها من هانوفر إلى برلين عبر محطة القطارات، أنظر لبطاقة القطار في يدي، وإلى الأسهم واللوحات وسكك القطارات والأدراج الكهربائية. كل ما أعرفه أنه علي أن أتوجه إلى الرصيف رقم ثلاثة وأنتظر قطاراً يسمى إي سي يحمل رقم 849.
المعلومات واضحة جلية على البطاقة، لكن حسناً. أين الرصيف رقم ثلاثة يا ترى؟
أقف وأنا أشعر بصغر حجمي وكأني إبرة في كومة قش.
رأيت شاباً يحمل حقيبة ظهر وزجاجة مياه، وهذا ما جعله يبدو لي وكأنه متمرس في السفر. توجهت نحوه وأنا التي كانت لا تعرف حرفاً واحداً من اللغة الألمانية، ابتسمت له كبلهاء تحتاج شيئاً وكنت قد ترجمت كلمة رصيف إلى الإنجليزية وكررتها في فكري ألف مرّة قبل أن أتفوه بها. سألته: هل تتحدث الإنجليزية؟ فرد بابتسامة وسرعة: نعم. قلت في نفسي وأخيراً وصلت.
أين الرصيف رقم 3 من فضلك؟
أجابني إجابة بكل ثقة وأشار إلى مكان، لكنه بدا أنه يخبرني أمراً مهماً.
يا إلهي؟ هل هذه إنجليزية حقاً؟ لماذا لم أفهم حرفاً؟ لماذا بدت بهذه الغرابة والسرعة؟ شكرته وأكملت رحلة بحثي عن الرصيف.
هل جرّبت يوماً أن تقف قبالة أحدهم، تمتلك كل الكلمات التي تريدها لتعبّر عن شعورك، لكنها مخزنة بلغة مختلفة عن اللغة التي تحتاجها؟
وصلت وحدي لكن بعد انطلاق القطار بعشر دقائق.
لقد ظننت أنني تعلمت الإنجليزية على الأقل لعشر سنوات على مقاعد الدراسة.
في طريق الهروب نحو ألمانيا لم يخطر في بالي أن أفكر بلغة الألمان، ولم يخطر في بالي أن هناك لغة ألمانية أساساً. بالتأكيد أعرف أن هناك لغة لكن لم يخطر في بالي موضوعها، ولم أظن أنها ستبدو بهذه الصعوبة وكأنها تحصيل حاصل. كان الهدف الوحيد أن أصل. وها قد وصلت.
هل جرّبت يوماً أن تقف قبالة أحدهم، تمتلك كل الكلمات التي تريدها لتعبّر عن شعور ما، لكنها مخزنة بلغة مختلفة عن اللغة التي تحتاجها؟
هل جرّبت أن تقف مكبلاً ممسكاً بهاتفك تناجي مترجم غوغل كي يعبّر عنك ليعلّمك قول ما تشعر به وما تريد قوله، أو ما عليك قوله بطريقة تشبهك بعيدة عن القواعد التي تعلمتها في صفوف اللغة ودورات الاندماج؟
هل جرّبت مثلاً رمي نكتة أو معاتبة أحدهم بمرادفات تحمل شيئاً من دفء تشعر به، لكنك لا تعرف كيف تقوم بهذا؟
إن اللغة مرايا الشعوب وأسرارها، نمط حياتها وعاداتها، حكايا الجدات وقصص تتداولها الجارات كل صباح.
هذا ما أشعر به أحياناً، كأنني طفلة ابنة عامين، أعرف كل المشاعر، أفهم ما يدور حولي، لكنني لا أعرف كيف أعبّر عنها.
أفتح يدي لأقول إن العالم كبير لهذا الحد. يدي التي بدأت تعبر عني هنا، بالإضافة لأصوات بلهاء أصدرها في سياق حديث ما ( هااااا ،، مممم ،،، اهااا،،) ليشعر الآخر أني أفهم، لكن كل هذه الإشارات لا تعطيني سوى مزيد من الشعور بالبلاهة تجاه نفسي.
إن اللغة مرايا الشعوب وأسرارها، نمط حياتها وعاداتها، حكايا الجدات وقصص تتداول بين الجارات كل صباح.
لم أعرف أن التعبير عما بداخلي سيكون بهذه الصعوبة. كيف يمكنني أن أكون أنا ولا أملك مفاتيح اللغة ولا أسرارها، الأسرار البعيدة عن القواعد.
للغات أيضاً قلوب تشذ عن قواعدها لتعبر عن شيء على طريقة أولادها.
اللغة هنا عقبة يعاني منها الآلاف، ربما يعود الأمر إلى كل ما مررنا به سابقاً ، كومة مصائب نفسية جعلت أدمغتنا مغطاة بطبقة هائلة من الذكريات والمصائب التي تمنع تسرب المعلومات الجديدة إلينا. بذلت جهوداً كبيرة، سهرت وأنا أحاول تهجئة الكلمات الطويلة وتقسميها وتبسيطها. خالطت أشخاصاً تُعتبر الألمانية لغتهم الأم لكنني لم أنجح.
لا يمكن لأي مترجم أن يقول ما تريد قوله حرفياً.
وحدك تملك الكلمات المعجونة بمشاعرك، فلا يمكن لأي أحد أن يترجم إحساسك
كنت أشعر دائماً أنني ربما لو أني أصغر بعشرين سنة لكان نجح الأمر. لو أنني لا أحمل ما أحمله من تراكمات لكنت الآن أكتب هذه المدونة بالألمانية.
على الرغم من قدرة أغلب القادمين الجدد على تعلم اللغة قراءة وكتابة، تبقى هناك صعوبة كامنة لدى ممارستها، مشاعر غريبة تختلط بعدم الاستقرار والتردد. لماذا علي أن أعود لتعلم كل شيء؟ ولعل أكثر ما ينجح في جعلي متحمسة لتعلمها هو بناتي. اللغة هي السبيل الوحيد لتعيش هنا.
لا يمكنك فعل أي شيء بدونها، ولا حتى الدفاع عن حقوقك.
لا يمكن لأي مترجم أن يقول ما تريد قوله حرفياً.
وحدك تملك الكلمات المعجونة بمشاعرك، وحدك تعرف ما يجب أن يقال هنا، وكيف يقال وبأي نبرة وأي نظرة؟
لا يمكن لأي أحد أن يترجم إحساسك حين يقال.
مهما تعلمت فسيظل ينقصني الكثير
تقول نور أ. التي تقيم في ساربوركن، ألمانيا، منذ ست سنوات: "حصلت على شهادة المستوى الخامس سي 1 في اللغة الألمانية وعملت عامين مترجمة ومحررة بالألمانية وما زلت إلى الآن أتعثر بالكلمات حين أتحدث وجهاً لوجه. جلستُ في منزلي فترة قصيرة لأكمل دراستي، فلاحظت أنني بدأت أفقد الكلمات البديهية التي أستخدمها بشكل شبه يومي".
هناك شعور دائم يلاحقني بعدم الثقة، تردد وخوف من التحدث. لو أنني تحدثت بسرعة وطلاقة أخاف أن لا أفهم رد الطرف المقابل. شعور غريب بعدم الارتياح، أشعر وكأنه يجب علي أن أبقي تركيزي كاملاً، عينان مفتوحتان وأذنان كالرادار وهذا ما يضعك تحت ضغط وتوتر طوال الوقت.
أعيش في بلدة سالزغيتر الألمانية. حيث يمكنك فعل كل شيء بلغتك الأم، فالأطباء والموظفون والباعة هم عرب. وحين أطلب ما أريد من موظف عربي بالألمانية يضحك ويرد: يرحم جدك نسيتي العربي؟
بيان س. التي تقيم في دورتموند، ألمانيا، منذ سبع سنوات، وقد وصلت للمستوى الرابع من اللغة، تقول: "من يسمعني أتحدث في المنزل وبين أصدقائي المقربين يقول إني ختمت اللغة الألمانية. أتحدث بثقة وطلاقة ولغة سليمة قواعدياً. ولكن عندما أتعرض لأول موقف خارج المنزل أرتطم فجأة بألف حائط ولا أعرف كيف أرتب جملة واحدة. لا أعرف لماذا أخاف ويحتلني شعور بأن بحر اللغة أكبر من قدراتي. مهما تعلمت فسيظل ينقصني الكثير. ألوم نفسي وأعدها ألف مرّة أنني سأتحلى بالشجاعة، ولا يهمني إن أخطأت. ولكن عند بداية كل حديث يصيبني الخرس كأنني لم أتعلم يوماً .
ترى حلا د. أن مشكلة اللغة الأساسية تكمن في وجود مصطلحات وأفعال سهلة تجعل أي شخص يستسهل اللغة ويتخلى عن الأفعال والكلمات الطويلة. ثم بالشارع تفاجأ بأن هناك حرفاً صوتياً قد يغير معنى جملة كاملة. وتلفت حلا إلى أن المشكلة الكبرى هي أن اللغة المكتوبة لا تمت بصلة للغة المحكية في الشارع، فتتعلم في دورات اللغة شيئاً ويصدمك الشارع بتراكيب عامية لم تسمع بها من قبل.
وتقول فرح د. إن اللغة بحاجة لاختلاط وصداقات، وإنه من الصعب تأمين كل هذا. ستنسى الألمانية إذا جلست في بيتك شهراً واحداً.
وصلت راما أ. إلى المستوى السادس وهي طالبة جامعية تدرس بالألمانية وتستطيع أن تقضي كل حاجاتها وإرسال رسائل البريد والترجمة، لكنها تتهرب من كل نقاش وحديث مفتوح لشعورها بأنها لن تتمكن من مجاراة المتحدث .
أعيش في بلدة ألمانية منذ خمس سنوات، اسمها سالزغيتر حيث لا تحتاج لتعلم الألمانية ولا الإنجليزية. يمكنك فعل كل شيء بلغتك الأم حيث الأطباء والموظفون والباعة والممرضون هم عرب.
كل محاولاتي لتعلم اللغة تنتهي عندما يقول طبيبي: "أهلين ست تغريد خير إن شاء الله؟". يقولها وكأنه يفتح لي باب العيادة في دمشق. كأننا لم نتحرك ولم نمر بكل ما مررنا به
ليس هناك مكان في كل مدينة لا يوجد فيه موظف عربي واحد على الأقل، بذلت جهوداً مضاعفة لأني أبحث عن أشخاص أتحدث معم بالألمانية.
وحين أطلب ما أريد من موظف عربي بالألمانية يضحك ويرد: يرحم جدك نسيتي العربي؟
لا أعرف كيف تعاملت الحكومة الألمانية مع توزيع القادمين على المدن والبلدات. لكنني أعيش هنا بمدينة عربية قد تخلو بعد قليل من أبناء البلد. وعلى الرغم من استيائي بعض الأحيان من عدم وجود أشخاص حولي تُعتبر الألمانية لغتهم الأم لم أستطع أخذ قرار الانتقال. شيء من الدفء يسيطر على هذه البلدة الهاربة من الخريطة ويجعلني لا أشعر بالقلق عندما تذهب أمي لطبيبها محمد من دون مترجم.
وكل محاولاتي لتعلم اللغة تنتهي عندما يقول لي طبيبي: "أهلين ست تغريد خير إن شاء الله؟". يقولها وكأنه يفتح لي باب العيادة في دمشق. كأننا لم نتحرك ولم نمر بكل ما مررنا به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 11 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري