شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن لغة الأم وليلة الغربة الأولى..

عن لغة الأم وليلة الغربة الأولى..

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 29 أغسطس 201812:15 م
ذلك الليل جاءتني جدتي في المنام، من عالم الغيب ذراعاها امتدتا لتحمياني، لتضماني، حيث لم تعد أمي وأختي قادرتين على النفاذ. تذكرتُ حوار الأمس مع صديقٍ قديم، محللٌ نفسي، عندما كان يشرح لي عبر الواتساب "السيستم" الذي يعالِج به مرضاه، أو "الصابرين" كما يحلو له أن يسميهم. أحدث طرق العلاج النفسي التي ترتكز على نظرية السيستم أو المنظومة الفردية. شرح نبيل أن ما يؤثِّر بسيستم الفرد ليس الأهل والمدرسة والمجتمع والبيئة فقط، إنما الأجيال السابقة من الأسلاف تؤثر في تكوين السيستم خاصتنا أيضاً. يا له من توارد أفكارٍ رهيب. جاءت تيتا، أم أمي، وحضنتني. غمرتني بحنان، بحنان فقط، كما لم يحتضنني أحدٌ منذ زمن بعيد. يا له من حلمٍ غريب! كنا تحتَ عريشةٍ في جمعٍ كبير للعائلة، نريد توديعَ خالتي روز، قبل سفرها إلى ديترويت. عندما طفتُ على جميع الحاضرين مودعة، وعند وصولي إلى آخر الدائرة، قرب البوابة، وفي الكرسي ما قبل الأخير، وجدتها. جالسةً هناك بفستانها الجميل الوردي المعرق، ومنديلها الناصع البياض الملائكي الرائحة. اقتربتُ منها وانحنيت وعانقتها . دفءُ خدِّها حفر ناراً على خدّي أقسم أنني أحسستُ به بعد استيقاظي بساعات. يدها على كتفي وشمت حناناً على عظامي. مسٌّ لا يعرفه هذا العالم. جاءتْ جدتي بغريزتها الأمومية، وبجبروتها وسلطتها الأموميتين، هي أم العشرة، لتنتشلني من ألمٍ اخترقني، أنا أم الطفلين . فظيعةٌ نرجسيةُ الأم، تمتد من الجدّة إلى الأم وحتى الحفيدة وبنت الحفيدة. أربعةُ أجيالٍ متتالية، الواحدة تخرج من رحم الأخرى وحبل الحبّ السريِّ لا ينقطع. هل هناك حبلٌ سريّ يربط مصائرنا أيضاً؟ لا أعرف إن كانت الصدفة، أو أنه صديقُ الصبا الذي ذكرني بدور أجدادنا وأسلافهم في تكوين شخصيتنا والسيستم الذي يحكم حياتنا، يكوِّن شخصيتنا ويخطُ تاريخنا الفردي ويحدد هويتنا. وبالحديث عن الهوية، تكلمنا عن لغة الأم. كقطرات حليب الأم، تغذي الروح قطرة قطرة. لغة الأم تنجب وعينا. أوهمٌ كان ذلك العناق مع جدتي، وهمٌ كنت بأمسِّ الحاجة إليه لأحمي نفسي، تماماً كوهم سماعي لغتي الأم من شباك غرفة فندقي البرلينية في أول ليلةٍ لي في برلين؟ ليلة غربتي الأولى. وصلت برلين ذاتَ يومٍ حارّ في الثامن والعشرين من آب 2008  لمتابعة دراساتي العليا. الحرُّ شديد، عليّ أن أفتح الشباك رغم قلقي لأن غرفتي في الطابق الأرضي، وبإمكان أيٍّ كان أن يقفز من الطريق إلى الغرفة. لكن، تذكرتُ قول صديقٍ نصفه ألماني، لا تخافي، هناك أمان، إنها ألمانيا! أفتحُ عينيَّ حوالي منتصفِ الليل، ضوءٌ صغير بجانب سريري، لون الغرفة زاهٍ يبثُّ الراحة والتفاؤل.. رائحةُ غرفتي جميلة، كرائحتي ورائحة ثيابي وأغراضي ومكياجي. أرهف السمع، تحت شباكي تجلس مجموعة من الشبان والشابات يسهرون، يتسامرون ويشربون، ويتكلمون اللبنانية!!! صحيح أنني لا أستطيع فهم ما يقولون، لأن الصوت لا يصل إليَّ بوضوحٍ وأنا نصف نائمة! يا للغرابة، كيف شاءتِ الصدفُ أن تنزلَ هذه المجموعة اللبنانية في نفس فندقي، وفي منطقة غير سياحيةٍ من برلين بالمعنى التقليدي، صحيح أنها منطقة شابة وصاخبة وتضج بالساهرين حتى الضحى، لكنها منطقة alternative و underground. واحدةٌ من أكثر مناطق برلين فقراً وثورةً وتفلّتاً.. منطقةٌ تجد فيها صباحاً وأنت  تمشي لعملك أو جامعتك، السيرانغات (الأبر) التي استعملها المدمنون في الليل مرميّةً على الرصيف مع قناني الكحول الفارغة والمكسورة. قطْعاً ليست منطقةً للسيّاح التقليديين. هل أنا أحلم، أَهذي أمْ أُهلوس؟! بالطبع لا، أقسم أنني سمعتهم يتكلمون لغتي الأم بلهجتي. لكن لسببٍ ما أنا لا أفهم ما يقولون. شذراتُ كلامٍ لا يصلني منها إلا النَّزر اليسير. بالطبع كنتُ أهْذي... كان تَركي للبنان قد ولَّد ألماً شديداً، كبتُّه في داخلي، ولم أعبِّر عنه في اليقظة أبداً، حتى لنفسي. لبستُ قوّتي واتشحتُ بشجاعتي ووضعت مكياجي كدرعٍ أمامي وتركتُ بيروت. عدتُ إلى أوروبا حيث ولدتُ، حتى أحققَ ذاتي. البداياتُ دوماً تتطلب أقصى شجاعتنا.
فظيعةٌ نرجسية الأم، تمتد من الجدة إلى الأم وحتى الحفيدة وبنت الحفيدة. أربعة أجيال متتالية، الواحدة تخرج من رحم الأخرى وحبل الحب السرّي لا ينقطع. هل هناك حبلٌ سريّ يربط مصائرنا أيضاً؟
كان تَركي للبنان قد ولَّد ألماً شديداً، كبته في داخلي، ولم أعبّر عنه في اليقظة أبداً، حتى لنفسي. لبستُ قوّتي واتشحت بشجاعتي ووضعت مكياجي كدرعٍ أمامي وتركت بيروت..
بين الحلم والرعشة والخدر... في تلك المسافة السرابية الفاصلة بين الصحوة والنوم، تهيأ لي أنني أسمع الناس يتحدثون بلغتي في شوارع برلين، على الطريق خلف شباكي في الطابق الأرضي. استيقظتُ صباحاً وحرارتي مرتفعةٌ، حلقي يؤلمني كثيراً، ألَمٌ لمْ أعرفه من قبل. اتصلت بقسم شؤون الطلاب في الجامعة وطلبت من الموظفة أن تدلَني إلى طبيب يتكلم الإنكليزية. أعطتني رقماً وعنواناً لعيادةٍ قريبة من فندقي، والطبيب يتكلم الإنكليزية. ما كادتْ تقفل الخطَّ حتى عادت واتصلت بي من جديد: صوفي، هل أنت قادرةٌ على المشي والذهاب للطبيب بمفردك؟ أو تفضلين أن نرافقك أو نطلبَ لك طبيباً للفندق؟ - لا، شكراً جزيلاً عزيزتي، باستطاعتي المشي والذهاب إلى عيادة الطبيب. الجسدُ، يعرف قبل العقل الواعي بكثير، ما ينتظرنا، وما يمكننا احتماله وما لا يمكننا. ما سيؤول إليه مصيرنا. يحذرنا! لكن هل من يسمع؟ وكأنه جسدي عرف مسبقاً ما ينتظره من معاناةٍ وعللٍ وألم بسبب البرد، فقام بردّةِ فعلٍ مسبقة ليحذرني. كأنَّ جسدي عرف، قبل أن أدركَ أنا بسنواتٍ أن الغربة قاسيةٌ، وألمانيا طقسُها قاسٍ والناس فيها قُساة. قلبي المسكين كان شغوفاً بحبِّ ألمانيا وحبِّ شابٍّ ألمانيٍّ وسيم، جذاب، ذكي وناجح.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image