شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من منطلق الحروب إلى سوق لإنعاش القلوب... باب سريجة الدمشقي

من منطلق الحروب إلى سوق لإنعاش القلوب... باب سريجة الدمشقي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 22 فبراير 202203:31 م

إن كانت لديكم رغبة في تمضية بعض الوقت بمزاج مختلف عن السائد، ورؤية مشاهد سريالية قلّ نظيرها، إلى جانب التَّمتُّع بنكهات وطعوم وروائح وألوان لم تخطر على بال "باتريك زوسكيند" و"سلفادور دالي" و"بابلو بيكاسو" و"هنري ماتيس" مجتمعين، مع إمكانية السَّفر عبر الزمن لما يزيد عن الستمائة عام، وإجراء دراسة مقارنة للعمارة والبيوت وأذواق ساكنيها عبر فترات مختلفة، ما عليكم سوى زيارة سوق باب سريجة في دمشق.

صحيح أن طول هذا السوق لا يتجاوز الستمائة متر، ومع تفرعاته لن يصل إلى أكثر من كيلومتر واحد، إلا أنه كافٍ لأن يسرقكم من ذواتكم وحاضركم وهمومكم، فما أن تقطعوا شارع "خالد بن الوليد" قادمين من "الفحّامة"، حتى تشعروا بأن صوت دعساتكم تغيَّر، لتكتشفوا أنكم الآن تجاوزتم حدّاً زمنياً ما، وصرتم تسير على حجارة بازلتية مزروعة على الطراز الروماني، تنظرون إلى الأعلى فترون سقف السوق المهترئ بين طرفي أبنية متهالكة بالمجمل، بيوتها ذات جدران طينية، ونوافذ خشبية "مغلقة باتساع"، وكأنها متروكة للنسيان، بعد أن هجرها أصحابها، بينما المحلات على طرفي السوق تشي بجَمال من نوع خاص.

تتوغلون قليلاً فتلفت أنظاركم لوحة "ماتيسية" مصنوعة من المخلل على واجهة أحد المحلات، أقل ما يُقال عنها، بطيف ألوانها وتداخل أصنافها، إنها من مُشهِّيات الحياة، وليس من متممات الطعام فقط.


لوحة أخرى تنتمي إلى مزاج الإسباني "لويس بونويل" ستصادفكم مع منظر اللحوم المفرودة على الواجهات، بما فيها المَقادِم والفشافيش والكروش والسجقات وورؤوس الأغنام، ربما تُسبب الغثيان للبعض، لكنها قادرة على إثارة الحليمات الذوقية والعصارات المعدية إلى أقصى حد لدى البعض الآخر.


أما إن كنتم من هواة المنمنمات التاريخية والجغرافية فما عليكم سوى بدكاكين "البزورية"، حيث اللوز الأمريكي بجوار الجوز الإيراني والفول السوداني، والشاي السيلاني إلى جانب الهبّول البلدي والقهوة التركية، وأيضاً تجدون في محلات بيع الزيتون، الأخضر العفريني بجانب نظيره اليوناني، والمشروش النابالي مقابل الأسود السلقيني، وغيرها، وكأننا أمام معرض من النكهات تتعزز مع رائحة الكعك والخبز الطازج القادمة من المخابز المتفرقة على طول السوق، والممتزجة مع رائحة "الحبوب"، وهي أكلة شعبية دمشقية تتكون من فول وحمص وعدس مطهوّة بدبس التمر، ويُرشّ عليها قرفة بعد السكب، بحيث تُصبح الكأس منها بمثابة مُقوٍّ عام في برد كانون الثاني، وتجعلكم كالأحصنة بحسب صاحب محل "بني المرجة" المتخصص ببيعها إلى جانب السحلب والتمر هندي والجلاب والعرق سوق.


سنتنبه ونحن نشرب تلك الكأس إلى أننا نقف بجانب جامع "السلخدية" بمئذنته الصغيرة الخشبية، وهو ليس سوى مصلى صغير، كتب على لافتته أن بناءه يعود إلى 640هـ، وعندما نسأل عن معنى الاسم، يحيلنا البعض إلى أن من بناه يعود إلى قرية "صلخد" في جبل العرب، بينما آخرون يقولون إنه اسم لفرس كان يقودها أحد الأمراء، يمر بها من الدرب السلطاني باتجاه جنوب دمشق، ورجَّح البعض أن يكون ذاك الأمير هو "غرس الدين خليل التيروزي" الذي سُميت الحارة المجاورة لذاك الجامع باسمه.

"كان التيروزي يفكر بأن العمال الذين سيبنون الجامع عليهم أن يستحموا كل يوم قبل المباشرة في عملهم، وأيضاً بعد إنجاز عملهم، لذلك أشار إلى ضرورة بناء الحمام قبل الجامع"

نلج فيه لنرى أن بدايته ضيقة لا يزيد عرضها عن المتر ونصف، لكن ما هي إلا بضعة عشرات من الأمتار حتى تتسع ويظهر في صدرها حمّام كبير مكتوب على بوابته "حمام التيروزي بناه الأمير خليل التيروزي حاجب الحجاب سنة 848هـ"، بينما لوحة التعريف الطرقية تفيد بأننا ضمن جادة "الدرب السلطاني"، وفعلاً تغيرت ملامح الأبنية وخصائصها العمرانية، فهذا الحمام إلى جانب جامع يحمل اسم الأمير ذاته، كلاهما مبني من الحجر الأبلق، وبأناقة ملحوظة.

لجأنا إلى مستثمر الحمام محمد خير التيناوي ليكشف لنا بعض المعلومات فقال: "عمر هذا الحمام يقارب الستمائة عام، حيث يعود لأواخر العصر المملوكي، ونحن كعائلة امتهنت إدارة حمامات السوق منذ عشرات السنين، حرصنا أثناء ترميم هذا الحمام للمحافظة على جميع مفرداته المعمارية بأقسامه الثلاثة؛ البراني الذي يضم أربع مقصورات، والوسطاني، والجواني الذي يضم أيضاً أربع مقصورات، إلى جانب البحرة وغرفة التكييس والتدليك، وغيرها. ويعود الفضل في ذلك إلى المهندس عصام العاني الذي أشرف على أعمال الترميم واستمرت ثلاث سنوات، وهو خريج بريطانيا من أصل عراقي".

أما عن كون بناء الحمام سابق لبناء الجامع فله قصة رواها لنا التيناوي: "كان التيروزي يفكر بأن العمال الذين سيبنون الجامع عليهم أن يستحموا كل يوم قبل المباشرة في عملهم، وأيضاً بعد إنجاز عملهم، لذلك أشار إلى ضرورة بناء الحمام قبل الجامع".

الجامع مختلف معمارياً

أما الجامع المبني عام 823هـ، والمفصول عن مئذنته بزقاق، فمختلف عن بقية جوامع دمشق معمارياً، فبحسب موقع وزارة الأوقاف السورية أن "من قاموا ببنائه تحرروا من قواعد الفن الأيوبي التي سادت العمارة الدمشقية أكثر من نصف قرن، فاتبعوا أصول فن المماليك الذي ازدهر في القاهرة واتخذوا عناصر جديدة في التخطيط والبناء والزخرفة، فهذا الجامع ليس له صحن واسع، ومبني بأحجار ذات لونين مختلفين، وله حرم جميل، ومنبره تزينه حشوات صغيرة حفرت بخط نسخي مملوكي جميل. أما المئذنة فتعتبر من أجمل مآذن دمشق، حيث أنها مربعة الشكل، على حين أن مآذن المماليك مضلعة".

زاوية الهنود ومضافة عرب

عدنا لاستكمال مشوارنا في شارع السوق الرئيسي حيث ترتصف محلات بيع السمك بجوار مُصلِّحي الأحذية، وبسطات الخضار والفواكه تحتل الأرصفة مثلها مثل بسطات شحاطيط النايلون وأحذية الأطفال وألبسة البالة، فنشعر بأننا ضمن ما يشبه حارة "كل مين إيدو إلو"؛ مؤسسة التجارة الداخلية بجانب "بيض مداجن صيدنايا" ذات الصفار الغامق، وروضات الأطفال ملاصقة لمكتب هلال الشام لإحياء التراث الشعبي وتأمين العراضات الشامية والسيف والترس وتأجير الخيم والقهوة المرة وكافة مستلزمات التماسي والأفراح، محامص البزر والفستق بجوار محلات النابلسية والحلو العربي ومطاعم الفول والفلافل، ملحمة العاشق بجوار جامع سيدنا عمر بن الخطاب.


وعلى بعد أمتار قليلة جامع عز الدين ومقابله حمام بالاسم ذاته بجانب عطورات وماكياجات "قطر الندى" و"عصرونية السيد" لبيع الأدوات المنزلية من الستانلس ستيل والبلاستيك، وسيلفت الانتباه مسجد "زاوية الهنود" الذي جاء في لوحته التعريفية بأن بناءه أعيد على روح المرحوم الشاب الإماراتي عمر حمد حمدان الشامسي عام 2002م، وهو مغلق الآن ولا معلومات عنه سوى ما ذكره محمد كرد علي في كتابه "خطط الشام... التاريخ السياسي والمدني في القطر الشامي" من أنه "بظاهر باب الأسباط، وهي قديمة كانت للفقراء الرفاعية، ثم نزل بها طائفة الهنود فعرفت بهم".

أخبرنا الشاب الأربعيني بأنه مع أخيه علي، حافظا على تقليد فتح المضافة يوماً في الأسبوع من أجل مناقشة أمور السوق والمشاكل التي قد تعترض أصحاب المحلات وأهالي الحي

وبالقرب من جادة التعديل تقودنا الطريق إلى مختار محلة باب سريجة، أبو سعيد، حيث يحتشد الناس من أجل تصديق معاملاتهم الخاصة بالمواليد الجديدة وسندات الإقامة وأوراق السفر وغيرها، لدرجة لم نستطع أن نكلمه حينها، لكننا أخذنا موعداً منه ليوم الثلاثاء حيث يجتمع "كباريّة" السوق وأبناء الحي في مضافة عبد الحميد الكيلاني أبو ظافر، مع وعد بالكثير من المعلومات عن تاريخية هذا السوق، وفعلاً عدنا في اليوم المذكور وبعد زواريب وانعطافات كثيرة، وبالقرب من مدرسة أبي فراس الحمداني، وجدنا ضالتنا؛ دخلنا إلى المضافة وإذ هي مجلس واسع أشبه بـ"خيمة عرب"، جدرانها مكتنزة بعدد كبير من الصور والوثائق التاريخية، وجلُّها لشخصيات من الثورة العربية الكبرى.

ضيافة الأهلا وسهلا كانت قهوة مرة كعادات العرب القديمة، وعلى رأس الحاضرين كان ظافر الكيلاني، الابن الأكبر لصاحب المضافة وحفيد محمد حجاز الكيلاني الذي استشهد مع إخوته محمود ورسلان وسعيد ومنير وعبد الغني في معارك الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، كما تشير الوثيقة الموقعة باسم قائدها العام سلطان باشا الأطرش.

تسميته بالسريجة فالمقصود بها "رحل الدابة"، وكما جاء في لسان العرب: "السَّرْجُ رحل الدابة، والجمع سُروج"

أخبرنا الشاب الأربعيني بأنه مع أخيه علي، حافظا على تقليد فتح المضافة يوماً في الأسبوع من أجل مناقشة أمور السوق والمشاكل التي قد تعترض أصحاب المحلات وأهالي الحي، أما عن تاريخية هذا الحي الدمشقي وسبب تسميته، فتشارك الحاضرون في تزويدنا بالكثير من المعلومات نوجزها بأن سوق باب السريجة يمتد من سور "المدينة القديمة" عند باب الجابية وحتى منطقة شارع خالد بن الوليد بالقرب من منطقة القنوات التاريخية شرقاً وغرباً، وهو شارع ضيق عرضه أربعة أمتار، وقديماً كان لكل سوق باب يتم إغلاقه وفتحه في أوقات محددة، وحالياً هذا الباب لم يعد موجوداً، وهو واحد من بوابات دمشق الأربع إلى جانب باب الصالحية وباب مصلى وباب الميدان، أما تسميته بالسريجة فالمقصود بها "رحل الدابة"، وكما جاء في لسان العرب: "السَّرْجُ رحل الدابة، والجمع سُروج".

ويعيد المؤرخون هذه المنطقة إلى العصر المملوكي فهي مبنية خارج السور وكانت بمثابة ضاحية راقية في الجهة الجنوبية الغربية، وأخذت تسميتها لتخصص حرفييها ومحلاتها بصنع القفف، التي كان يقبل على شرائها فلاحو غوطة دمشق فيضعون فيها منتجاتهم الزراعية، فضلاً عن أن هذا المكان، كان يؤدي وظيفة مهمة تخدم إمارة الشام وقواتها الميدانية، لأن فيه احتشد أكبر تجمع للصناع والحرفيين المهرة، لتجهيز آلة حرب الدولة العاملة في الميدان، والتي كانت تقدر بعدة آلاف رأس من الخيل والإبل، في دمشق وحدها، وكانت القرى والعشائر العربية، تقصد هذا السوق لتجهيز خيولها من كافة أصقاع بلاد الشام، وشمال العراق، ونجد والحجاز.

فهذا السوق ذو الجدران المتداعية الآن، كان في ما مضى ممراً لآلاف الفرسان بغية تجهيز خيولهم، ومن هنا انطلقت المؤازرة إلى جبل العرب للجهاد ضد الفرنسيين، وفي حماماته استراح الكثيرون ونفضوا عن أنفسهم عناء السفر، وفي مساجده صلّوا وابتهلوا، أما الآن وبعد أن انتهت وظيفته التاريخية كداعم لآلة الحرب، حافظ هذا السوق على تعاضده مع كل من يزورونه بطريقة أخرى، ففيه أطايب المأكل والمشرب وبأسعار هي الأرخص على مستوى دمشق وريفها، ما جعله من أكثر الأسواق ارتياداً لرحمته بالعباد، لاسيما بعدما أكلت الحرب الدائرة في سوريا منذ أحد عشر عاماً قدرتهم الشرائية.  

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard