عادة عندما يتم البحث عن دبوس في بطن كومة قش، يكون مصير البحث الفشل، إلا في سوق "الحرامية" في العاصمة عمّان، حيث هناك يكون مصير البحث عن دبوس في بطن كومة قش دائماً النجاح، ووارد جداً أن تجدون أشياء أكثر من رغبتكم للوصول إلى دبوس، المهم كن على ثقة أنكم ستخرجون من السوق راضون!
تشبه أكوام رفوف سوق الحرامية المتناثرة بطريقة عشوائية وخارجة عن قاموس الترتيب والتنظيم "على التكة" كما هو متعارف في أسواق منطقة وسط البلد في العاصمة عمّان، الزخارف المتشابكة والمتداخلة في التحف الشرقية التي جرت عليها كل الأزمان، والمعروضة بطريقة تشبه شخصية صاحب المحل المعروضة فيه تلك التحف، ذلك الرجل الذي شارف على الثمانين وكان رده لرصيف22 بعد أن طلبنا إجراء مقابلة معه أن أزاح وجهه إلى جهة اليسار وعدل كرسيه البلاستيك، واستند على يده وقال وهو يغمض عينيه: "أنا ما بحب الصحافة!".
جاءت مبادرة رصيف22 للحديث مع ذلك الرجل، بعد سيل النصائح التي رددها أصحاب محل في سوق الحرامية لإجراء مقابلة مع صاحب التحف الشرقية في آخر ممر السوق، على اعتبار أنه من أقدم تجار السوق وأكثرهم شاهداً على صحة أن السوق لم يأخذ لقب الحرامية لأنه يعرض بضائع مسروقة بل لأسباب أخرى، اختلفت باختلاف ما جاء في حديث تجار تحدثنا معهم.
وقبل المرور لما جاء من محاولات دحض "السمعة" التي جاءت على سوق الحرامية وفق ما جاء في حديث تجار، لا بد أن نمر أولاً عن الحديث عن هوية وروح سوق الحرامية في عمّان، فهو سوق عمره من عمر الأردن وكان يلقب في السابق بسوق "خان الخليلي" على غرار "خان الخليلي" في القاهرة، يقع في شارع الملك طلال في منطقة "وسط البلد"، ومن لا يعرف عنه مسبقاً كالسياح مثلاً، سيمرون من جانبه دون الالتفات إليه أوالتحمس لزيارته.
من يريدون زيارة سوق الحرامية يذهبون إليه بكامل إرادتهم الشخصية ويعملون حساب أنهم قد يتعثرون بقطعة خردة ما أو تلتصق أحذيتهم ببرغي في وسط الممر، أو حتى بصوبة كاز آيلة للسقوط على حافة طاولة
فرواد سوق الحرامية لا ينتظرون من تجاره أن يضعوا إعلانات على مدخل السوق، أو أن يشغلوا "سي دي" كما هو الحال في أغلب أسواق وسط البلد، ينادي فيه مناد بعبارات لاستقطاب الزوار فيها عروض حرق الأسعار أو عروض تتغنى بالبضائع، فمن يريدون زيارة سوق الحرامية يذهبون إليه بكامل إرادتهم الشخصية ويعملون حساب أنهم قد يتعثرون بقطعة خردة ما أو تلتصق أحذيتهم ببرغي في وسط الممر، أو حتى بصوبة كاز آيلة للسقوط على حافة طاولة.
تصلون شارع "الملك طلال" وتمرون من محلات العطارة وحسبة الخضروات، وتجدون أمامها درج متوسط يتجه نحو النزول، حيث يتواجد سوق الحرامية الذي يبدأ بنهاية الدرج وينتهي بمحل التحف الشرقية لذلك الرجل الكاره للصحافة، تتكاثر على يمينكم ويساركم كميات مهولة من قطع الخردة، وتجدون كل أنواع الكهربائيات منها القديم ومنها الحديث، مثل صوبة الكهرباء تلك حديثة الصنع والتي تبلغ قيمتها خارج سوق الحرامية خمسين ديناراً (سبعين دولاراً)، ويصل سعرها داخل السوق 12 ديناراً (17 دولاراً) المعروضة في محل التاجر خالد عبيد الذي تحدثنا معه.
لماذا سمي بسوق الحرامية؟ سألنا التاجر خالد، وأجاب: "سموه بالغلط"، مبرراً ذلك لأن أسعار الكهربائيات المعروضة في السوق رخيصة جداً، ويقول: "ما يباع في الخارج بتسعين دينار يباع هنا بعشرين، واسم السوق الحقيقي خان الخليلي، لكن الناس هي التي أسمته بسوق الحرامية نظراً لتفاوت الأسعار عن خارج السوق".
"أغنى ناس وسكان منطقة عمّان الغربية يأتون لسوق الحرامية، حتى سائحين يزورون السوق"؛ قالها التاجر خالد عبيد متباهياً وهو يجلس وسط محله الصغير جداً والمعبأ بالأدوات الكهربائية وكل تفاصيل قطع الأدوات الكهربائية والمصفوفة هنا وهناك تكاد تنفجر من ضيق المكان.
عمر محل التاجر خالد ستون عاماً، الذي أكمل بحسب قوله مسيرة والده في العمل في سوق الحرامية، وختم حديثه معنا بتأكيده على هذا السوق تحديداً سيبقى "رفيق الفقراء مهما غلت الأسعار، وإذا ما (اشتهى) فقير أن يشتري خلاط مولينكس لزوجته في عيد ميلادها سيلقى ذلك في سوق الحرامية بالسعر الذي (يشتهيه)".
على بعد محلين، تحدثنا مع أحد رواد سوق الحرامية كان يجلس داخل محل تباع فيه كهربائيات وقطع كهربائيات، ينظر إلى صاحب المحل وهو يصلح صوبته، سألناه عن سبب ارتياده للسوق وقال: "أنا عمري 62 عام، ووالدي كان يأتي إلى السوق أيضاً، أثق بأبو فراس (صاحب المحل) ودائماً أزوره لغايات تصليح أجهزة منزلي الكهربائية".
من يصفن دقائق قليلة وهو يقف على أول الدرج المؤدي إلى السوق المعتم لغياب مرور أشعة الشمس منه، يشتم رائحة عمّانية أصيلة ومتفردة، لم تفلح كل هبات رياح التغيير على مدار 100 عام من سرقتها
وقبل أن يدخل في حديثه عن أسعار السوق المميزة، قاطعه التاجر أبو فراس وقالها باللهجة الشامية : "بكفي أنه اليد العاملة هون أطرى من الي برّا" وعن معنى "أطرى" سألناه ماذا يقصد بها وفسر قائلاً: "إحنا هون فنيين أشطر من مهندسين الكهرباء، ويدنا شغيلة وطرية بالأسعار مو مثل الأسعار الي برا الي ما بتخاف الله!".
ونفى أبو فراس نفياً مطلقاً عمّا يشاع عن تسمية سوق الحرامية لأن البضائع فيه مسروقة، وعزا تلك التسمية وفق روايته: "سمي بالحرامية، لأن الحرامي كان يدخل أول السوق ويسرق من البضائع ويهرب من آخر مدخل في الممر"، وأشر بإصبعه لآخر الممر وقال: "أصلاً سكروا المدخل الذي كان يهرب منه الحراميين".
وختم رافعاً يديه: "إحنا ما دخلنا فيهم، وهذا السوق عريق ونظيف ويكفي إنه عمره من عمر عمّان".
وفي الجهة المقابلة لمحل أبو فراس غضب تاجر يقف أمام كومة من قطع الخردة عندما طلب رصيف22 إجراء مقابلة معه، وقال بلهجة مصرية ممزوجة باللهجة الأردنية: "سأقول لك باختصار سوق الحرامية مش للبضائع المسروقة، يمكن عشان مرة إجا عليه حرامي وصاروا الناس ينادوا عليه حرامي حرامي سموه سوق الحرامية"، وختم وهو يضرب ضربات خفيفة بيده على كومة الخردة: "لا تقوليلي سوق مانغو، وسوق البخارية وسوق سنيورة، هاد السوق أساس منطقة وسط البلد!".
"لا تصدقيهم!" باغتنا رجل ستيني في ممر السوق وهو يحمل كيس يظهر من طرفه أنه مصفف شعر "سشوار"، ومن الواضح أنه استمع لحديثنا مع تجار سوق الحرامية، ولفت انتباهه أنهم نفوا سبب تسمية السوق بالحرامية، وقال مبادراً: "كل الأردنيين يعلمون أن أغلب بضائع هذا السوق مسروقة، لكن مشكلتنا أننا لا نعترف بالحقيقة، ودخيلك يا عمي شو المشكلة إنه نشتري بضاعة رخيصة كثير عن السوق برا؟".
وعزا الرجل الذي قال أن اسمه أبو مهدي أحد أسباب عدم الاعتراف بالسبب الحقيقي لاسم السوق بقوله: "عشان احنا كزبائن للسوق لا نشعر بالذنب أننا اشترينا قطعة كهربائية على الأغلب أنها مسروقة"، وأضاف: "يكفي أن هذا السوق صديق الفقراء، وبفش قلبهم!".
وختم ضاحكاً: "إذا الحكومة نفسها بتسرقنا... كلها حرامية يابا!".
وفي نهاية جولتنا لـ"رود تريب" في سوق "الحرامية"، صادفنا شاب يبدو أنه لم يتمم ال 18 من عمره، وسألناه عن سبب مجيئه للسوق، أجاب مسرعاً: "سمعت إنه ببيعوا هون آيفون 11 بخمسين دينار".
اختلفت الروايات عن سبب التصاق تهمة الحرامية لسوق الحرامية، كما جاء على ألسنة من قابلناهم، لكن بالرغم من تلك التباينات إلا أن من يصفن دقائق قليلة وهو يقف على أول الدرج المؤدي إلى السوق المعتم لغياب مرور أشعة الشمس منه، يشتم رائحة عمّانية أصيلة ومتفردة، لم تفلح كل هبات رياح التغيير على مدار 100 عام من سرقتها!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع