شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"رومانتيكا"...أحلام زكي فطين عبد الوهاب العاجزة وشخصياته المعذبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 28 مارس 202202:57 م

تُشتق كلمة "رومانتيكا" من المذهب الرومانتيكي، الثائر على الواقع وقيوده المادية، والمحلق في رحاب الخيال والعاطفة، ظهر هذا المذهب رداً على فتور المدرسة الكلاسيكية وعقلانيتها، مُعلياً من شأن المشاعر الإنسانية والأحلام الذاتية، ويحث الفنان على البوح بما يعتريه من نزاعات وتناقضات، داعياً إياه إلى التمرد على كل ما يحد حريته.

رحل زكي فطين عبد الوهاب تاركاً وراءه أحلاماً لم تتحقق، وسيناريوهات لم تنته

يساعدنا الاشتقاق السابق على الولوج إلى عالم فيلم "رومانتيكا" لزكي فطين عبد الوهاب، الذي توفي مؤخراً في مارس/آذار 2022، وقراءة شخصياته المحمّلة بأحلام كبيرة وصغيرة لا يمكن تحققها في واقع متأزم، شخصيات تحاول العثور على طريق النجاح، دون بوصلة هادية، فتتحرك في شوارع المدينة بخفة ترفعها عن الأرض قليلاً، وتقرّبها من فضاء المخيلة حيث كل شيء ممكن.

يحكي الفيلم عن مخرج يسعى إلى صناعة عمل سينمائي عن "الخرتية" الذين يرافقون السياح وينخرطون معهم في أنشطة متنوعة مقابل المال. تتقاطع حكاية المخرج الشخصية مع قصص موضوعاته بشكل ما، لتبدّدَ أحلام الجميع في النهاية عندما تصطدم بقسوة الحياة، هذه الموضوعة تمسّ عموماً عدد من أفلام التسعينيات، التي اهتمت بالتعبير عن جيل يبحث عن نفسه في بلد اجتاحته العولمة بكافة مظاهرها.

الكمال مأساة خاصة

قبل أن يصنع زكي فطين عبد الوهاب "رومانتيكا"، فيلمه الوحيد، عام 1996، عمل مساعد مخرج وممثلاً في أفلام يوسف شاهين ويسري نصر الله، ويبدو أنه تأثر بجرأتهما في الحديث عن الذات وتعريتها على الشاشة، فمنذ الظهور الأول لشخصية حسن (ممدوح عبد العليم) في الفيلم، ينشأ ارتباط بينه وبين زكي، ويصبح تجسيداً مرئياً لآماله وهمومه وصراعته مع الحياة.

يُطل حسن علينا من بيته الفوضوي ذي الأثاث المتهالك، محاطاً بصور فوتوغرافية لعائلته الفنية العريقة، تستعرض الكاميرا الوجوه ثم تتوقف عنده، ليظهر كأنه أسير لهذا الماضي الذي يحيط به، ضائع وسطه، وبحاجة إلى الخروج من تحت سطوته.

يمتلك حسن فكرة مشروع سينمائي عن "الخرتية"، ويسعى إلى تحويله إلى نص قابل للتنفيذ، وتحل مشكلة الإنتاج بفضل والدته دون أن يعرف، لكن تبقى أزمة الكتابة. كلما حاول الاقتراب هو وابن عمه (شريف منير) من هذا العالم وشخوصه، غرقا أكثر في تفاصيله وخباياه وتورطا في مشكلاته أيضاً.

يعجز حسن عن تحقيق رؤيته الإخراجية المتمثلة في إقناع هؤلاء الخرتية بتأدية أدوارهم على الشاشة، ويخفق في صياغة أفكاره على الورق خاصة مع انشغاله برغباته الجنسية وعلاقة الحب المرتبكة مع صباح (لوسي)، ليكتئب قرب النهاية، ثم يعاود المحاولة، لكنه لا يصل إلى نتيجة ترضيه، فيمزق ما كتبه.


مثقف فنان يبذل مجهوداً يستنزفه لكتابة سيناريو، ثم ما يلبث أن يمزق الورق في النهاية، وينشغل برغباته الجنسية، وشخصياته الحالمة بالسفر وهوليوود، لكنها عاجزة، ومشوّهة... هل اقترب زكي فطين عبد الوهاب من أجواء وسط البلد الحقيقية؟ 

الكآبة والألم واليأس مشاعر ملازمة للرومانتيكيين، تعصف بأرواحهم وتزيد من رغباتهم في الانطواء على النفس، وحسن رومانتيكي معذب بإرثه العائلي ورغبته في إثبات ذاته. أفكاره متخبطة وروحه قلقة. يترك عواطفه تقوده، فتؤثر على قراراته الإبداعية وتجعله عرضة للاستغلال طول الوقت. يبحث عن الكمال في فيلمه ولا يقبل بغيره، لكن هذا الكمال يصبح مأساة حياته. 


مسيرة زكي

تحمل مسيرة زكي الملامح السابقة نفسها وتمر بمنعطفات مشابهة، فقد ظل سنوات طويلة يطمح لأن يكون أكثر من مجرد نجل فطين عبد الوهاب وليلى مراد، يتعثر في إيجاد نقطة الانطلاق، ويهديه القدر إلى معهد السينما، ليعمل مساعداً لمخرجين بعيدين تماماً عن الكوميديا التي اشتهر بها والده. ويخوض في عالم التمثيل عدة مرات، رغم أنه لا يرى نفسه سوى مخرج، وعندما تأتيه الفرصة أخيراً، لا يكمل فيلمه بسبب خلافات إنتاجية، كما سنوضح لاحقاً.

أشاد النقاد بـ"رومانتيكا"، فاز بعدة جوائز مهمة، لكن زكي توقف بعده عن الإخراج، صرح لاحقاً أنه مخرج فاشل، ليختار التركيز على التمثيل والكتابة، إذ قال في حوارات متفرقة إنه يعمل على سيناريوهات جديدة، مثل " آخر رومانسى بنفسجى"، إلا أنها لم تخرج إلى النور أبداً، لكنه كرّم بعدها من قبل المركز الكاثوليكي، تقديراً لمشواره الفني، مع ذلك نراه يشكك في أحقيته بهذا التكريم، وكأنه لم يتوقف لحظة عن محاسبة نفسه والمقارنة بين حلمه بالكمال وإنجازاته. 

الخرتية: الهم العام

نشأ زكي في بيت رواده من عمالقة الفن في مصر، إذ كان يجلس معهم ويبادلهم أطراف الحديث ببساطة، لم تبهره الشهرة وأضواؤها، بل أغراه كل ما هو مختلف عن هذا العالم، إذ وجد في مقاهي وسط البلد الصاخبة فرصة للاحتكاك بأناس لا يشبهون بيئته، أناس ساعدوه على رؤية وجوه المدينة المتعددة، والتقاط خيوط بعض حكاياتها المبعثرة، فكان فيلمه عن حكاية لم يلتفت أحد لشخوصها، رغم أنهم موجودون أمام أعيننا طوال الوقت.

يفتتح زكي الفيلم بلقطات طويلة للمارة في شوارع وسط البلد ليلاً، تكدسات أمام المحلات التجارية وحبال إنارة تتلألأ بين المباني وسيارات متزاحمة في الطرقات، يقطع بين اللقطات على وجوه الخرتية الذين يسبق ظهور كل منهم إشارة حمراء تنبهنا لهم وتسترعي أنظارنا، يتبع ذلك بمشهد قصير يبدأ بكلمة Danger (خطر) مكتوبة على الحائط، قبل أن ينتقل لاستعراض مجموعة منهم في جلسة معبأة بالدخان، وكأنه يحذر من تهميش المجتمع لهم والتعالي على واقعهم.


يقدم لنا الفيلم نماذج متباينة لمهنة تبدو سهلة ومسلية من بعيد، لكن نمط الحياة الذي تفرضه على أصحابها يورطهم في ممارسات وسلوكيات مهلكة، إذ يتفنن بعضهم في حيل النصب على الأجانب، ويغرقون جميعاً في عالم كل اللذات الحسية فيه مباحة حتى يصبح من الصعب وضع الحدود.

الكسب السريع جذاب في البداية، خاصة مع الطروف المادية الصعبة التي يختبرها الخرتيّة، لكنها مهنة تحوي فرصة للتعامل مع الغرباء والانفتاح على ثقافات متنوعة، لكن لا أمان في هذه المهنة الخطرة؛ يصفها بيسو (هاني دسوقي) بالإنجليزية بأنها عمل شاق، أما باولو (مصطفى شعبان)، فيؤكد أن نهايتها سيئة وضحاياها كثر.

"الجحيم هم الآخرون يا زينب" 

يصبح حلم الهجرة أمل البعض، في سعي لعيش حياة أكثر راحةً وأقل اضطراباً من الواقع الحالي، هذا الخيار يتبناه سيد سكارفيس (أشرف عبد الباقي) الشاب الذي تعلق بالسينما الأمريكية وحلمها الزائف ويريد السفر إلى هوليوود ليصير نجماً مشهوراً.   

يخلق سيد عالماً خيالياً داخل رأسه يعيش فيه، عاجزاً عن مسايرة الواقع ومتطلباته، مفتوناً بفيلم (سائق التاكسي) Taxi Driver لمارتن سكورسيزي، إلى حد مشاهدته يومياً كأنه طقس لا يمكن تفويته، ربما لشعوره بوجود تشابه بينه وبين ترافيس بيكل (روبرت دي نيرو) الذي يعيش في أقصى العالم، إذ تتجاهل المدينة كلاهما، كأنهما غير موجودين، والأهم، كلاهما يطمح إلى البطولة؛ ترافيس بمدلولها الشعبي وسيد بمعناها السينمائي، وتحت تأثير مشهد مذبحة القواد في الفيلم الأمريكي، يهدد سيد بالقتل السائح الألماني الذي قاده إلى علاقة مثلية، في محاولة لتأمين تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة، وعندما لا يؤخذ تهديده على محمل الجد، يقتل سيد السائح الألماني، طامحاً بتحقيق الشهرة التي استحوذت على عقله ولوثته.

يتفنن بعضهم في حيل النصب على الأجانب، ويغرقون جميعاً في عالم تباح فيه ممارسة كل الملذات الحسية، حتى يصبح من الصعب وضع الحدود، والحب لا مكان له، فـ"الجحيم هم الآخرون يا زينب"... فيلم "رومانتيكا" لزكي فطين عبد الوهاب

الحب حلم لا مكان له في هذه المدينة، مهما حاول الإنسان أن يحميه من بطشها. يتجسد ذلك في الشخصية التي يؤديها علاء ولي الدين، التي لا نعرف اسمها، ربما ليتماهى معها شباب كثيرون بسهولة، إذ نراه يتحدث دوماً ممسكاً بالتليفون ليتحدث مع حبيبته زينب، يعدها بإنه سيحسّن من مظهره، وسيجد طريقه في الحياة قريباً. يخبرها في مكالمة أخرى أنه ليس فاشلاً لكن المجتمع لا يترك له أي فرصة ليحقق ذاته، ويلخص أزمته ببلاغة مستعيناً بعبارة الفيلسوف سارتر: "الجحيم هو الآخرون، يا زينب". في النهاية وبعد تعرضه للضرب والإهانة في القسم خلال تحقيقات مقتل السائح الألماني، يكتب جواباً ينهى علاقته بها، ويؤكد فيه إن دموعها مزيفة وخالية من المشاعر، ثم يطلب منها أن تتذكره دوماً، وكأنه مقدم على إنهاء حياته كلها.

الجميع في فيلم "رومانتيكا" بحاجة لكتم مشاعرهم، وقتل الحب داخلهم

لا يتمكن حسن أيضاً من إقناع صباح بالقبول به،  رغم أن تعابير وجهها تكشف عن مشاعرها تجاهه، هي أكثر واقعية وبراغماتيّة، وترغب بالارتباط بشخص قوي يقدم لها فرصة أفضل في الحياة. باختصار، الجميع في "رومانتيكا" بحاجة إلى كتم مشاعرهم وقتل الحب، أو كما يقول مغني المقهي في أحد مشاهد الفيلم: "أحاسيسي، بحاول إني أنسى أحاسيسي".

الماضي أكثر جاذبية من الحاضر المليء بالصعوبات والانتكاسات، سواء على المستوى الشخصي (حياة حسن في مقابل حياة عائلته الفنية الناجحة)، أو المستوى العام (الخرتية الذين يشتغلون بمجال يعتمد على حضارة الأجداد وإرثهم العظيم، ويعيشون واقع محبط وقاهر لأحلامهم يخلق شعوراً بالاغتراب عن المجتمع). 


 

الخيال يسبق الواقع

الاعتماد على فكرة الفيلم داخل الفيلم منح الحكاية بعداً واقعياً، وعزز الانتقال من العالم السينمائي إلى الحياة اليومية، لكن "رومانتيكا" لم يكسر الإيهام فقط، وإنما حمل في طياته نبوءةً لمستقبل صناعه، إذ يختلف حسن مع منتجه خلال التحقيقات ويفشل في استكمال فيلمه، ليبدو الأمر أشبه بتعليق على الخلافات التي نشبت بين زكي فطين عبد الوهاب والمنتجة مي مسحال على "علب الخام"، حين أصر زكي على تصوير مشاهد معينة اعتبرها جوهرية في فيلمه، لكن طلبه قوبل بالرفض، فانزعج وترك العمل الذي لم ينته بعد.

قررت المنتجة حينها تشكيل لجنة مكونة من مخرجين كبار، هم صلاح أبو سيف ورضوان الكاشف ومحمد خان وأسامة فوزي، إلى جانب الناقد السينمائي سمير فريد، للتوصل إلى قرار حول استكمال الفيلم بالتعاون مع مخرج آخر أو الاكتفاء بالمادة المتوفرة لتنفيذ المونتاج.

"تطوعت بوقتي للاشتراك في هذه اللجنة التي شكلتها المنتجة حتى لا تقاضي المخرج، وتطوعت بالعمل مع المونتير أحمد داوود لتنفيذ ما استقرت عليه اللجنة، وهو محاولة لإتمام الفيلم بالمواد التي صورها المخرج من دون تصوير المشاهد الناقصة بواسطة مخرج آخر، كما كانت تريد المنتجة، ثم عرض الفيلم وفاز بأكثر من جائزة محلية تسلمها المخرج بنفسه"، هذا ما كتبه سمير فريد في مقال يحكي فيه ما حدث إثر نزاع بينه وبين زكي على إنتاج مسلسل تليفزيوني عن ليلى مراد في 2009.

كان لهذه الواقعة أثر نفسي كبير على زكي، دفعه للابتعاد فترة عن المناخ السينمائي في مصر، والتوجه إلى العمل كمساعد مخرج ومنتج منفذ لأفلام أجنبية، انسحب الأمر على ممدوح عبد العليم الذي تأذى أيضاً بسبب هذه الأزمة، إذ يحكي أنه انتظر استئناف تصوير المشاهد الناقصة، ومن ضمنها المشهد الرئيسي في الفيلم، لمدة عام كامل، خلال هذه المدة ظل محتفظاً بلحيته واعتذر عن المشاركة في أدوار أخرى على أمل إتمام عمله. في النهاية، عُرض "رومانتيكا" دون هذه المشاهد، وضاع وقته هباءً.

ممدوح عبد العليم: "وأنا أحلق ذقني، كنت أحلق السينما معها"

عزم ممدوح على هجر السينما بعد هذا الموقف، يقول: "وأنا أحلق ذقني، كنت أحلق السينما معها. وقررت بكامل إرادتي الابتعاد عنها... ما حدث إهانة للفيلم، كيف يُعرض دون مشهده الرئيسي! لو شاهد الجمهور الفيلم كاملاً، كان سيحبه أكثر"، الملفت أن ممدوح لم يقدم سوى فيلم "فل الفل" بعدها، ويعترف أنه قبله على مضض وندم على المشاركة فيه.

المفارقة أن لوسي أيضاً التي تألقت في أدوار مميزة خلال النصف الأول من التسعينيات، خفت ظهورها في السينما بعد هذا الفيلم، ربما لانطلاق موجة المضحكين الجدد، وانتشار القنوات الفضائية المهتمة بالإنتاج التلفزيوني، أو لغضبها مما حدث في كواليس العمل.

يمكننا التفكير كثيراً في المشاهد التي حزن زكي فطين عبد الوهاب على عدم تصويرها، وأدت إلى تخليه نهائياً عن مشروع عمره. لكن نتساءل، هل كان تنفيذها سيغير مصير المخرج والممثلين الذين يتمتعون بموهبة حقيقية؟ هل كان الفيلم سيحقق قاعدة جماهيرية أكبر بفضلها؟ وهل كانت "علب الخام" تستحق كل هذه الخسارة؟

كلها تساؤلات مطروحة بلا إجابات حاسمة، لكن المؤكد هو أن "رومانتيكا" في صورته الحالية فيلم مهم يعلق في الذاكرة وينفذ إلى القلب مباشرة. ربما لأن الزمن تغير، لكن الأحلام لا تزال صعبة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image