شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
في بيتنا الجديد غرسنا شتلة حبقٍ أيضاً

في بيتنا الجديد غرسنا شتلة حبقٍ أيضاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 4 أبريل 202208:22 ص

في قلبي تنمو "حبقةٌ" كبيرة، تسللت إلى رئتي وأصبحتْ تعوق تنفَسي وتسبّب لي ضيقاً.

ولكن ما هو "الحبق" قبل كل شيء؟ الحبق، معروف أيضاً بالريحان، هو نبات من فصيلة الشفويات، أنواعه كثيرة، ذو رائحة قوية عطرة ويستخدم في الطهو وإعداد الشاي أو لغايات طبية.

أما الحبقة التي تسكن قلبي فهي مختلفة بعض الشيء، فبالرغم من كونها من النبات نفسه، إلّا أنّها ترتدي معاني وروائح مغايرة كل فترة. تسكنني ولا أسكنها.

في بيت جدتي القديم في دمشق، توجد تلك الحبقة الأثرية القديمة والثابتة كجدتي تماماً وكدمشق مدينة ولادتي. وكان لي في الشام أكثر من الياسمين، كان لي الحبق والريحان. ريحانة بيت جدتي عرفتني صغيراً شقياً يمرح تحت سماء صافية، بعيداً عن دخان الحرب. عرفتني طفلاً يبني بيوتاً من وسائد ويهدمها ليعيد بناءها، وكأنه يعرف مسبقاً أنّه لن يستقر في مكان واحد أبداً. كان عام 2012 محمّلاً بوداع دمشق وحبقها وياسمينها، عام الفرار من الحرب والاستقرار في مدينة آمنة.

كانت تدفن أمي أسناننا المتساقطة في الزريعة أو في التربة وتطلب من الله أن يبدلها بأسنان أفضل، وتقول: "روحي يا سن القطة وتعالي يا سن الغزال". وأمّا أسناني التي آمل ألا تشعروا بالاشمئزاز عند حديثي عنها، فقد كانت من نصيب زريعة الحبق

في بيتنا الجديد غرسنا شتلة حبقٍ أيضاً، وفي البيت نفسه بدأت أسناني اللبنية (المؤقتة) بالتساقط. كبرتُ قليلاً، ولكن أحلامي بقيت هي نفسها. كانت أمي تحتفظ بعادةٍ ورثتها من والدتها، التي بدورها ورثتها من أمها أيضاً. كانت تدفن أسناننا المتساقطة في الزريعة أو في التربة وتطلب من الله أن يبدلها بأسنان أفضل، وتقول: "روحي يا سن القطة وتعالي يا سن الغزال". وأمّا أسناني التي آمل ألا تشعروا بالاشمئزاز عند حديثي عنها، فقد كانت من نصيب زريعة الحبق، وهكذا تحولت الزريعة من مربيتي وراعية طفولتي إلى جنية الأسنان الخاصة بي، غير أن هذه الجنية لم تكن تعطي أية نقود في المقابل.

أشياء كثيرة قد تؤثر في طفولة شخص ما، وكما أقول دوماً: مهما تبدّلت الأماكن واختلفت البيئات التي قد نعيش فيها، يلبث الإحساس المدعو نوستالجيا سيد المواقف، وهو ما يبقينا قطعةً واحدة في ظلّ شتات العالم.

بعيداً عن المثاليات، ما هي النوستالجيا؟

النوستالجيا مجموعة من المشاعر النابعة من الحنين للعودة لفترة ما أو لمكان سابق، والكلمة Nostalgia مشتقة من كلمتين يونانيتين هما nostos تعني العودة للوطن و algos التي تعني الحزن والاشتياق والألم.

ويرى الباحثون أنّ النوستالجيا إحساس موحِّد، أي أنها إحساس يساعد على لم شتات النفس، وبخاصة أنّنا، كبشر، نعيش حالة من التبدّل باستمرار. كما أنّ النوستالجيا تخدم النفس البشرية كونها شعوراً يدعو للتمسك والرجوع إلى الصلات الاجتماعية مع أفراد معينين كالوالدين والأقارب والأصحاب. فهي تحافظ على الروابط الاجتماعية. وهنا يكمن جمال هذه المشاعر ومرارتها في آنٍ واحد، فقد لا يتمكن الانسان من عيش ذكرياته مجدداً، لفقدانه الأشخاص الذين كانوا معه.

وقد تكون النوستالجيا على شكل حنين لفترات معينة لم يعشها الفرد، كحنين بعض أفراد جيل الـ 2000 لفكرة العيش في التسعينيات أو لموسيقى فترة الثمانينيات وأفلامها، وقد ساهم الانترنت واليوتيوب وإمكانية الولوج لأشياء قديمة واستحضارها بنقرة زر في تغذية هذا النوع من الحنين.

والجدير بالذكر أنّه يمكن لشخص ما يمرّ بفترة جيدة أن يشعر بالحنين لشيء معيّن في الماضي ويتذكره إيجابياً، بينما يمكن للشخص نفسه أن يحن لنفس الشيء ويتذكره بطريقة سيئة بحيث يعزز من حزنه ومعاناته وكآبته.

ومن الطريف أن النوستالجيا كانت تُعتبر لفترة من الفترات مرضاً، أي مرض الشوق والحنين، إذ كان الجنود يعانون من حنين مفرط لبلدانهم وأهاليهم يمنعهم من أداء واجباتهم. وكان علاجهم الوحيد هو العودة لأوطانهم.

تعلمت أخيراً أن الحبق جيد جداً للطبخ، وأن وصفات عديدة من الباستا الإيطالية تتضمن الحبق أو الريحان كمكوّن أساسي. كذلك اكتشفت أنّ رائحة الحبق ممتازة لتغطية رائحة السجائر التي كنت أدخّنها من دون عِلم أبي

الحنين لدي مرتبط بالحبق إلى حدّ ما، ويتحوّل معناه كثيراً، بحيث يكبر عندما أكبر. وتعلمت أخيراً أن الحبق جيد جداً للطبخ، وأن وصفات عديدة من الباستا الإيطالية تتضمن الحبق أو الريحان كمكوّن أساسي. كذلك اكتشفت أنّ رائحة الحبق ممتازة لتغطية رائحة السجائر التي كنت أدخّنها من دون عِلم أبي. للحبق خاصيات فريدة، وأوجه كثيرة، وبالرغم من أنّ هذه النبتة تموت في الشتاء، إلّا أنّ مشاعر الحزن، التي تجعلنا ننظر إلى الوراء ونتفحّص حياتنا من الخارج، لا تموت ولا تختفي أبداً. الشتاء لا يمكنه أن يبرّد حرارة الحنين ودفء النوستالجيا. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard