في الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية، أعادت بعض القنوات التلفزيونية والمواقع نشر مشاهد سابقة للمظاهرات والمجازر وغيرها، وبشكل ساخر بعض القرارات المتكررة التي أعلن عنها النظام السوري خلال أعوام الحرب، وبدورها استعادت ذاكرتي العديد من المشاهد المؤلمة وشعوراً قاتماً يتجاوز الخوف محشوراً بين تلافيفها. استمر عقلي لأيام في التنقل بين صورة وأخرى، في مشاهد منفصلة ومشتركة في الشعور، "صوت وقع الانفجار الأول في حلب"، و"أصوات الطائرات، ومحاولاتنا لتوقع مكان الطائرة، ومكان وقوع القذيفة"، و"تمركز أفراد عائلتي وزائرينا في الغرفة الأكثر أماناً في المنزل؛ حسب تقديراتنا غير الدقيقة أو غير المجدية، سعياً إلى الشعور بالقليل من السيطرة على بقائنا أحياء، فحقيقةً لا مكان لا يمكن للقذائف اختراقه"، و"أُسر متفرقة نراقبها من شرفة منزلنا، حاملين حقائب صغيرةً تحوي ما استطاعوا دسّه فيها تحت رهبة الموت، يعبرون من الأحياء المجاورة مُنذرين باقتراب الخطر منّا". اللحظات الأكثر رعباً يصعب الحديث عنها، وإن جازف أحدنا بمحاولة وصفها، سيُغفل الكثير من التفاصيل، لا تيهاً منه عنها، بل غرقاً فيها إلى درجة عدم رؤيتها كحدثٍ خارجي يمكن التعبير عنه.
ذكريات الحرب لا تمضي ولا تُنسى، بالنسبة إلى أولئك الذين عايشوها، لا الذين شاهدوا صورها على التلفاز أو استمعوا إلى أخبارها تُقصّ على الألسنة.
ذكريات الحرب لا تمضي ولا تُنسى، بالنسبة إلى أولئك الذين عايشوها، لا الذين شاهدوا صورها على التلفاز أو استمعوا إلى أخبارها تُقصّ على الألسنة. ذكريات الحرب أشبه بذكريات الطفولة الأولى، مهما كنّا غير واعين لها، تشكّلنا من الداخل و"تقشط" بقسوة جدران أماننا العاطفي، إلى حين ندرك ذلك، ومن ثم نحاول التشافي منها ما تبقى من سنوات حياتنا، فعلاقة الإنسان بوطنه كعلاقته بوالديه، تمثل نظرته إلى ذاته وإحساسه بها، وحريّ بنا القول إن الإنسان، في حالات كهذه، غالباً ما يعجز عن فهم نفسه بعيداً عن فهم أحداث الحرب.
كيف تبدو الحرب من الخارج؟
ما يقضيه الإنسان في الحروب يبقى عصيّاً على الشعور عند سواه، مهما ازداد الاهتمام الخارجي والصخب الإعلامي بالأحداث. لحظة خروجي من مدينتي حلب، قبل سنوات، أدركت جهل السوريين ذاتهم، القاطنين في مناطق لم تصلها الأحداث بعد، بمعنى القصف والتهجير، ولم تكن الفوراق بيننا سطحيةً، نحن من نعيش في وطن واحد. كان فهمنا للواقع مختلفاً تماماً، ومخاوفنا من الأحداث غير متقاربة، واستمرار الحياة بشكلها السابق على بعد أميال قليلة من منزلي بدا لي أمراً مستنكراً وغير منطقي، في حين لم أكن بالنسبة إلى الآخرين سوى ضيفة ثقيلة في مناطقهم الآمنة، وفي أفضل الأحوال نازحةً أو لاجئةً تجيب على بعض التساؤلات الفضولية، تتلوها كلمات التعاطف المعتادة والجافة: "الحمد لله عسلامتكم، الله يعينكم، شي بيزعل..."، ما لم يشعرني يوماً بالتحسن.
اليوم بعد عيشي سنوات في ألمانيا، وبالرغم من اختباري سابقاً تجربة الحرب، أشعر بأني أقف في الطرف الآخر بعيون معلّقة على الوطن، أتتبع الأخبار يومياً وبشكل مكثف، في محاولة لفهم ما يعايشه أصدقائي المتبقون في الداخل السوري في ظل تطور الظروف الاقتصادية والأمنية نحو الأسوأ، وارتفاع نسب الفقر والجوع، مدركةً استحالة وصولي إلى حقيقة الشعور كاملاً، وإسقاطي الكثير من التفاصيل المؤلمة في أثناء تركيب المشهد السوري اليومي في مخيلتي، وعدم كفاءة تعابيري في إظهار الاستياء الذي يرافقني لعجزي عن التأثير.
لحظة خروجي من مدينتي حلب، قبل سنوات، أدركت جهل السوريين ذاتهم، القاطنين في مناطق لم تصلها الأحداث بعد، بمعنى القصف والتهجير، ولم تكن الفوراق بيننا سطحيةً، نحن من نعيش في وطن واحد. كان فهمنا للواقع مختلفاً تماماً، ومخاوفنا من الأحداث غير متقاربة
حين أعيد الحديث بعد أحد عشر عاماً عن الثورة، يرمقني البعض بنظرات مستنكرة: "ثورة؟ وين صارت هالثورة؟"، سؤال لا يبدو غريباً بعد كل الأحداث التي تتالت على السوريين. سؤال يصعب عليّ شخصياً الإجابة عنه، يبدو لي الأمل بانتصار الثورة قائماً على أفكار لم أعد أؤمن بها منذ زمن بعيد، فهل يبدو عالمنا اليوم عالماً ينتصر فيه الخير؟ هل تبدي أي من الدول القادرة على حسم القرار استعدادها لتبني ثورتنا؟ بيد أن أسباب الثورة لا زالت واضحةً وصارخةً، وتجاهلها مخيف بقدر ما هو معيب، لأن تجاهل أسباب الثورة يعني تجاهل واقع السوريين وحاضرهم، وماضيهم ومستقبلهم، والموافقة على الاعتقالات والدمار والمجازر، التي ستتكرر حتماً ببقاء الأسد في النظام.
بالرغم من يأسي مما تعكسه الأحداث مؤخراً في العالم، وما تبشر به من كوارث في المستقبل، لا زلت أتتبع أخبار السوريين الناشطين في الخارج بالقليل من الأمل، وأستمع إلى آرائهم عن الأوضاع الحالية وخططهم، وأتشبث بكلمات المتفائلين منهم، فأصواتهم هي الصدى الوحيد القادر على رسم نهاية تصلح للثورة، فربما لم يسمع العالم إلى الآن ما يكفي عن واقعنا، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا لم نسلم نحن اللاجئين السوريين من المقارنات، وتم اتهامنا بأننا لاجئون مزيفون، وهاربون من الدفاع عن أوطاننا، وغيرها من الأفكار السخيفة، فهل حقاً يجهل الأوروبيون واقعنا إلى هذا الحد؟
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا لم نسلم نحن اللاجئين السوريين من المقارنات، وتم اتهامنا بأننا لاجئون مزيفون، وهاربون من الدفاع عن أوطاننا، وغيرها من الأفكار السخيفة، فهل حقاً يجهل الأوروبيون واقعنا إلى هذا الحد؟
نحن السوريين نتشارك مع الأوكرانيين المشاعر والتجربة إلى حدٍ كبير، مع فارقين، أحدهما يتعلق باختلاف التعاطف الدولي الإنساني، ما لم يكن غير متوقع على أيّ حال، أما الآخر فيحتاج إلى زمن لشرحه لغير السوريين (وبعض السوريين أيضاً)، زمن يمكن فيه الاطلاع على تاريخ النظام السوري وتربية "عقلية القطيع"، وما يحدث خلف جدران السجون والمعتقلات. ومع ذلك فإن جميع هذه الأحداث في تفاصيلها تكرار لماضٍ مستمر في بلادنا، ولا تفرّق الحروب في تأثيرها بين الشعوب، ولا يستمر ضجيج الحرب إلا داخل رؤوس الأطفال الذين كانت ألعابهم الوحيدة على الأرض عنيفةً، وماضيهم مدمّى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون