في قلب مدينة الرويبة (على بعد 22 كلم شرق العاصمة الجزائرية ) تقع مكتبة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 20 متراً، كانت ولا زالت تباع فيها الكتب والمجلات القديمة، وشكَّلت، منذ افتتاحها في التسعينيات، قبلة للمثقفين والطلبة وعشاق الكتب في الجزائر.
فقدت هذه المكتبة التي كنت أتردد عليها رفقة والدتي لاقتناء معاجم اللغة العربية والفرنسية معاً وهجها وبريقها، فرفوف الكتب شبه خالية، أما الكتب الموجودة فكانت تحت أنقاض الغبار، تنتظر من ينتشلها منه.
الملفتُ للانتباه أن قطاعاً عريضاً من المكتبات التي كانت مُخصصة في وقت سابق لبيع الكتب، غيرت نشاطها التجاري، وتحولت إلى مطاعم ومحلات للأكل السريع.
هل تندثر تجارة الكتاب في الجزائر ؟
يقول لنا العم محمد، الذي قضى معظم حياته في خدمة الكتب داخل مكتبته الصغيرة، إن "تجارة الكتاب في الجزائر اندثرت، لذلك حاد كثيرون عنها، وهجروها نحو مهن أخرى، رغم تعلقهم الشديد بها".
تحدث العم وهو يحن إلى الماضي الجميل، عندما كانت مكتبته الصغيرة تعجُ بالطلبة والروائيين والشعراء، الذين كانوا يقصدونه يومياً بحثاً عن آخر الإصدارات، وحتى الكتب والمجلات القديمة.
"لم يكن جسدي يعرف الراحة، ولا يهدأ لي بال حتى أوفّر لهم ما يريدونه، كان هناك مجتمع قارئ يقدّس الكتاب، أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع كثيراً، صرت لا أفارق كرسي الخشبي، أتحسر على عمرٍ مضى، وزمان ولَى وانقضى".
ويضيف: "حتى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، شهدت حركة البيع ازدهاراً كبيراً، ولكن بعد ذلك توقفت حركة البيع والشراء، وأوصدت العديد من المكتبات أبوابها، وتراجعت مساحات وفضاءات القراءة".
كان هناك مجتمع قارئ يقدّس الكتاب في الجزائر، أما اليوم تغيرت الأوضاع كثيراً، أوصدت المكتبات أبوابها وتراجعت فضاءات القراءة
أطلقت المنظمة الجزائرية لناشري الكتب، مراراً وتكراراً نداءات استغاثة، وجهتها إلى كل الهيئات والمسؤولين عن قطاع الثقافة والسياسية الثقافية في البلاد. وترى المنظمة أن وضع النشر في الجزائر أصبح مُقلقاً للغاية، بعد إفلاس دور نشر عريقة وانصراف مطابع الكتب إلى نشاطات مطبعية بعيدة عن الكتاب، فالوضع بالنسبة للمنظمة "حرج"، وهو مستمر منذ عام 2016 إلى يومنا هذا دون أن تحرك السلطات ساكناً.
موت سريري
"سوق الكتاب في الجزائر يُعاني من موت سريري"، هكذا تصف نور الهدى، مديرة دار "كوهينور" للنشر والتوزيع بمحافظة سيدي بلعباس (محافظة جزائرية تقع غرب الجزائر)، وتضيف نور الهدى قائلةً أن وضعية الناشرين "مزرية" و "مأساوية" بسبب الكساد والجمود الذي ألقى بظلاله على سوق الكتاب.
صناعة الكتاب المطبوع مهددة في الجزائر بسبب النشر الالكتروني وغلاء أسعار الورق وتكاليف النشر
"تقف وراء هذه الوضعية عدة أسباب، أبرزها انخفاض القدرة الشرائية للمواطن الجزائري، وتراجع الاهتمام بالنسخة الورقية، والتوجه نحو النسخة الإلكترونية، بالأخص بعد ارتفاع سعر الورق، وتهاوي قيمة العملة المحلية".
تذكر مديرة دار "كوهينور" للنشر والتوزيع أيضاً إشكالية غلاء الورق، وتكاليف الطباعة، فتكلفتها غالية جداً، وهو ما يؤثر على سعر الكتاب الذي يتراوح بين 600 دينار (4.26 دولار) و 2000 دينار (14 دولار) للنسخة الواحدة، ناهيك عن تكلفة التوزيع بين المحافظات، فالكتاب الواحد يكلف دار النشر 1000 دينار جزائري (7 دولار).
وتتحدث نور الهدى عن العراقيل الإدارية المفروضة على عملية طبع الكتب، أبرزها عملية تسليم الأرقام، التي ترمز لحقوق النشر والتأليف، "بالرغم من أننا على مقربة من افتتاح أبواب معرض الجزائر الدولي للكتاب، الذي يمثل فضاءً هاماً للترويج للكتب الجديدة، وتحصيل هامش ربح معتبر".
ومن بين الحلول التي تقترحها مديرة نشر "كوهينور" للنشر والتوزيع، تفعيل دعم الدولة الغائب، وتشجيع دور النشر المحلية خلال معرض الجزائر الدولي للكتب.
أصدر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قراراً يقضي بإعفاء كل دور النشر المشاركة في الطبعة الخامسة والعشرين للصالون الدولي للكتاب بالجزائر، من تكاليف كراء الأجنحة، في محاولة منه لتطوير الإنتاج الثقافي لا سيما الكتاب وتشجيعاً للقراءة.
وتهفو نفوس عشاق الكتب في الجزائر شوقاً لمُعانقة الكتب في معرض الجزائر الدولي للكتاب، المقرر تنظيمه نهاية الشهر الجاري بعد توقف دام سنتين كاملتين بسبب تداعيات تفشي جائحة كورونا.
توزيع محدود
"الحصول على كتاب حلم صعب المنال، لأن الكتب التي تُصدر لا تُوزع، وإن وزعت فتوزيعها يكون محدوداً، ولا حل أمام القارئ الجزائري سوى معرض الجزائر الدولي للكتاب"، يقول لنا الروائي والأكاديمي عبد القادر ضيف الله.
تكمن الأسباب، وفقاً للأكاديمي الجزائري ضيف الله، في "غياب صناعة متكاملة للكتاب انطلاقاً من إخراجه إلى توزيعه ومن ثم اقتنائه، وبالتالي فهناك حلقات مقطوعة في عملية الصناعة، لهذا فحتى إلكترونياً قد لا نجد الكتاب إلا باستجدائه من كاتبه".
وتشاركه الروائية الجزائرية عائشة بنور الرأي، وتقول لنا: "نحن نفتقد للمجلات العربية الهامة التي تنشر يومياً، ولا نملك حتى مجلة فما بالك بالكتاب".
وتشير عائشة بنور إلى وجود عدة أسباب لتوجه الكتاب إلى النشر خارج البلاد، أبرزها التعريف بالكتاب، وأيضاً تحمل دور النشر مسؤولية التوزيع والترويج للكتاب عكس ما هو معمول به في الداخل.
"الحصول على الكتاب حلم، الكتب التي تصدر لا توزع، وإن وزعت فتوزيعها محدود، وقد لا نجد الكتاب إلا باستجدائه من كاتبه"
السؤال ذاته طرحناهُ على الكاتب والناقد الجزائري، الدكتور حبيب مونسي، ليجيب: "ندرة الكتاب تتعلق أساساً بسياسة النشر في البلد، وكيفية تسييرها وطرق اعتماد دار النشر للكتب التي يجب نشرها، فهذه أسباب مشتركة في ضعف حضور الكتاب الجزائري في المكتبات، ولجوء بعض الكتاب للنشر خارج الوطن لوجود سيولة في النشر والتوزيع، وبلوغ الكتاب للقارئ في الوطني العربي".
"دور النشر في الجزائر تجاهد من أجل البقاء والاستمرار وليس أمامها إلا ما تقدمه وزارة الثقافة من مشاريع لطبع بعض الأعمال، كما أنها تجاهد من حيث المادة الطباعية، من ورق وآلات وغيرها، وهي مادة تفرض تكاليف باهظة، لا يستطيع تحملها المؤلف والناشر الذي يراهن على جودة الكتاب وإمكانية بيعه".
الكتاب الإلكتروني
يلفت البروفيسور حبيب مونسي النظر إلى دور التكنولوجيا في عملية القراءة، فهو يرى أن التحور من الورقي إلى الإلكتروني بمثابة "ضرورة وقتية" تفرضها التكنولوجيا.
يوضح مونسي: "الكتاب الإلكتروني يتميز بالقدرة على الحضور في كل هاتف وكل جهاز، كما يتمتع بسهولة الوصول إليه تنزيلاً وجمعاً، فهو حاضر في كل مكان وزمان عكس الورقي، ويستجيب للقراءة والاقتباس والاستشهاد".
يتيح الكتاب الالكتروني للقارئ متابعة كوكبة من النصوص المساعدة أثناء فعل القراءة
يرى مونسي أن هذه السهولة التي يتمتع بها الكتاب الإلكتروني تجعل القراءة فعلاً مختلفاً عما ألفناه من طقوسها المعتادة، كما أن وسائل القراءة الإلكترونية من لوحات رقمية وأجهزة أصبحت أكثر طواعية واتساعاً وجاذبية، فهي تقدم خدماتها المتنوعة للقارئ، الذي لن يجد نفسه منفرداً مع الكتاب الورقي، وهو في أمس الحاجة إلى قاموس أو إلى محتوى شارح.
"اليوم نقرأ النص الإلكتروني ومعه كوكبة من النصوص المساعدة تتحرك في الخلفية للقارئ، الذي هو في أمس الحاجة إليها، وعكس الندرة التي يعاني منها الكتاب الورقي في الجزائر، تتميز الكتب الإلكترونية بالكثرة التي تعيق القراءة وتشتت الانتباه ".
وتشير الأرقام التي تصدر بين الحين والآخر حول نسبة المقروئية في الجزائر أنها "سلبية"، إذ كشف تحقيق حديث أن نسبة القراءة لا تتخطى عتبة 6.8%، وهو رقم ضعيف للغاية، يبرز بوضوح تفشي ظاهرة العزوف عن القراءة في مجتمع يتجاوز عدد سكانه 44 مليون نسمة.
وأقر رئيس المركز العالمي للاستشارات الاقتصادية والاستطلاع، عبد الله بدعيدة، خلال افتتاح منتدى أكاديمي حول "واقع وآفاق المقروئية في الجزائر" عام 2021، بوجود أزمة "مقروئية" في الجزائر، و"غياب شبه كلي" في علاقة الجزائريين بالإنتاج الثقافي.
الجزائريون الذين لا يقرؤون بشكل تام، تقدر نسبتهم بحوالي 56,86% أي ما يتجاوز نصف المجتمع، ووصف عبد بدعيدة هذا الرقم بـ"الضخم"، الذي يدعو إلى الحراك في بلد أخرج سابقاً علماء ومثقفين ومفكرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين