أكاد أجزم أن إحدى النتائج المباشرة لهذه الحرب ستكون التحوّل أو الاندثار التام لقطاع كبير من المجتمع الأوكراني كان موالياً سابقاً لروسيا إما بسبب أصوله الروسية، أو لأنه من الناطقين بالروسية، أو لارتباطه بالمحور السياسي الذي مثّله الكرملين. لقد قضت الحرب على هذا الحنين إلى روسيا الكبرى "العظيمة" بكافة أسبابه.
لقد صنعت الدبابات الروسية التي أرسلها الزعيم الروسي الحديدي فلاديمير بوتين إلى أوكرانيا ما لم تقدر عليه الحكومات الموالية للغرب المتعاقبة في كييف. لقد جعل معظم الأوكرانيين -الذين يعانون الأمرّين اليوم- من كارهي روسيا ومن دون تفرقة بين الحكومة الروسية وشعبها "المخطوف".
لقد قضت الحرب على هذا الحنين إلى روسيا الكبرى "العظيمة" بكافة أسبابه.
جادل بوتين في خطاب الحرب في أنّ لينين صنع أوكرانيا. لنضع النقاش حول صحة هذا جانباً، ولنفترض أن لينين -الذي مات قبل تشكل أوكرانيا بحدودها الحالية- صنع "أوكرانيا ما" ككيان "إداري-قومي". فالحقيقة أنّ بوتين بحربه الدامية هذه، وتصرف الرئيس فلاديمير زيلينسكي، كما مقاومة الجيش الأوكراني للتوغل الروسي، قد ولّد ذلك الشعور القومي الذي ربما كان ينقص الأوكرانيين في مسيرة قيام وطنهم، كما الشعور بالفخر والانتماء والتهديد المشترك، وهي مشاعر تدفع الناس في أوكرانيا إلى الإيمان بواقعية وطنهم، تحديداً من المواطنين في الشرق والذين لطالما آمنوا بالانتماء إلى الوطن الأكبر روسيا التي جاءت اليوم لتقتلهم باسم السلام. إن كان لينين صانع أوكرانيا فإن بوتين هو الذي بعثها حيةً.
المفارقة الأخرى في هذه الحرب تتعلق بالخطاب الروسي في إعلامه الموجّه وسياسييه، وأخيراً رئيسهم بوتين، وأنها عملية تهدف "إلى القضاء على النازية التي عشعشت في كييف وتعمل على إبادة شعب الدونباس". لنترك جانباً سوريالية هذا الكلام الذي يهين العقول المستنيرة حول العالم، ليس فقط لأنه يستعصي على المرء تقبله بل أيضاً لأن وقاحته تتخطى كل الحدود. المتطرفون اليمينيون والقوميون موجودون في الكثير من أنحاء العالم، وفي الكثير من هذه الأنحاء حليفهم الرئيسي -يا للمفاجأة- هو الكرملين. لننظر إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا مثلاً وليس حصراً، ففي كل هذه البلدان يدعم الكرملين الحركات المتطرفة، مثل حزب "التجمع الوطني"، و"البديل لأجل ألمانيا"، و"الرابطة" الإيطالية.
بوتين بحربه الدامية هذه، وتصرف الرئيس فلاديمير زيلينسكي، كما مقاومة الجيش الأوكراني للتوغل الروسي، قد ولّد ذلك الشعور القومي الذي ربما كان ينقص الأوكرانيين في مسيرة قيام وطنهم، كما الشعور بالفخر والانتماء والتهديد المشترك
في المقابل، الحركات المتطرفة في أوكرانيا، إن وُجدت، هامشية ولم يصل أي من ممثليها إلى البرلمان، ناهيك عن أن الرئيس الحاكم في أوكرانيا يهودي ومن الناطقين بالروسية أساساً، لا بل يمكن عدّه جزءاً من ذاك "العالم الروسي" الذي تطبل له وتزمر الدعاية الروسية.
في الحقيقة، وبدلاً من "القضاء على النازية" المزعومة، تقوم الآلة العسكرية الروسية بتحويل الأبنية السكنية في المدن الأوكرانية إلى حطام وركام، مخلّفةً وراءها العشرات والمئات من القتلى والجرحى والمشردين. ولكنها في الوقت نفسه تعمل بنجاح على القضاء على هذه العلب السكنية السوفياتية البشعة. إنها تهدم البناء المعماري السوفياتي الممل والذي تعبق به الجمهوريات والمدن السوفياتية السابقة، محققةً في آن واحد هدفين: القضاء على الآثار السوفياتية والقضاء على العقلية السوفياتية -التي كانت لا تزال راسخةً لدى بعض الأوكرانيين- بعدما هالهم عنف الآلة العسكرية الروسية.
نتيجتها انتهاء أي دعامة للنظام الروسي في الأراضي الأوكرانية والتي كان لها تمثيل سياسي وثقافي واقتصادي حتى اللحظة الأخيرة قبل الحرب. نتيجتها الأكيدة قيام الوطن الأوكراني من ركام الحرب الروسية
مثال آخر على افتراق الأخوة السلاف بشكل تام بسبب هذه الحرب تتضح في هذه المشاهد التالية: نزوح نحو ثلاثة ملايين شخص من أوكرانيا إلى رومانيا، وبولندا، والمجر، وسلوفاكيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية والوسطى والغربية، فيما اختار أقل من 200 ألف اللجوء إلى روسيا وبيلاروسيا؛ وفيما تتناقل وسائل الإعلام مشاهد الدعم والترحيب في أوروبا، نحن لا نعرف الكثير عن وضع اللاجئين في روسيا نفسها. وحتى هنا بوصلة اللجوء تتحدث عن المشهد الانفصالي بين روسيا وأوكرانيا.
نتيجة هذه الحرب المؤكدة هي الخروج التام لروسيا، والثقافة الروسية، واللغة الروسية، والعالم الروسي من أوكرانيا. نتيجتها انتهاء أي دعامة للنظام الروسي في الأراضي الأوكرانية والتي كان لها تمثيل سياسي وثقافي واقتصادي حتى اللحظة الأخيرة قبل الحرب. نتيجتها الأكيدة قيام الوطن الأوكراني من ركام الحرب الروسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون