بينما ينقسم الرأي العام في مصر بين تصديق التأكيدات الغربية عن قرب الاجتياح الروسي لأوكرانيا؛ ورؤية "خبراء استراتيجيين" يسوقون الأدلة على كون الاجتياح أمر مستبعد؛ كان طاهر السيد، الطالب في السنة الخامسة في كلية الطب في إحدى جامعات خاركوف الأوكرانية يبحث عن مخرج قبل بدء الحرب، إذ توالت تأكيدات زملائه الأوكرانيين أنها وشيكة.
سافر طارق إلى أوكرانيا قبل 5 سنوات ليبدأ دراسة الطب هناك، بعدما تعذر التحاقه بها في إحدى الجامعات الخاصة في مصر بسبب الارتفاع الشديد لمصروفات الجامعات المصرية مقارنة بمثيلتها في أوكرانيا ودول شرق أوروبا، ما جعل أوكرانيا وبولندا وغيرها من دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي السابق وجهة مفضلة لدى الطلاب المصريين في السنوات الاخيرة بعدما باتت تكاليف الدراسة الجامعية في مصر خارج قدرات معظم أسر الطبقة المتوسطة.
طاهر واحد من بضعة آلاف من الطلاب المصريين، الذين وجدوا أنفسهم فجأة عالقين في حرب لا يزال مداها الزمني غير معروف، إذ قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجر الخميس 24 شباط/ فبراير الجاري، أن يجتاح الجارة الصغيرة أوكرانيا الملاصقة لحدود بلاده جهة الجنوب الغربي، بعد وعود تفيد قرب انضمامها إلى حلف الناتو الذي أسس في نهاية أربعينيات القرن الماضي لمواجهة الاتحاد السوفيتي السابق واستمر بعد انهياره في مواجهة روسيا؛ وريثة الاتحاد المنهار.
بحسب طاهر فإن معظم أفراد الجالية المصرية في أوكرانيا، البالغ عددها نحو 5000 شخص، هم من الطلاب الذين انجذبوا وأسرهم إلى جودة التعليم وانخفاض تكاليفه بالمقارنة بمصر. هؤلاء الطلاب وجدوا أنفسهم معزولين من دون وسيلة للخروج الآمن من مناطق الحرب. وفي حين قامت دول أخرى منها دول عربية بإجلاء مواطنيها بترتيبات سريعة عبر سفاراتها في أوكرانيا والدول المجاورة لها؛ ظلت السلطات المصرية "تتابع التطورات" من دون اتخاذ تحرك على الأراضي الأوكرانية؛ مناشدة الرعايا المصريين بالبقاء في منازلهم والتأكد من الاحتفاظ بأوراق هوياتهم انتظاراً لخطة الإجلاء.
معظم أفراد الجالية المصرية في أوكرانيا، البالغ عددها نحو 5000 شخص، هم من الطلاب الذين انجذبوا وأسرهم إلى جودة التعليم وانخفاض تكاليفه بالمقارنة بمصر
تكاتف سريع
بعد نحو 48 ساعة من بدء القصف، أعلنت السفارة المصرية في بولندا استعدادها استقبال الرعايا المصريين من أوكرانيا معلنة عن أرقام هواتف للتواصل حال تمكن المصريين من الوصول إلى الحدود البولندية الأوكرانية.
لكن مبادرة السفارة المصرية في بولندا سبقها مبادرات فردية من مصريين مقيمين في الدول المجاورة لأوكرانيا الذين شاركوا عبر وسم "طلاب_مصر_في أوكرانيا" ونشروا أرقام هواتفهم وعرضوا استضافة العائلات والطلاب المصريين العالقين في أوكرانيا وتوفير المأوى والإعاشة لهم حتى تستقر الأوضاع أو حتى إعادتهم إلى مصر.
على الجانب الآخر بدأت تحركات السفارة المصرية في كييف – عاصمة أوكرانيا- بعد ساعات قليلة من بدء الهجمة الروسية على أوكرانيا، من خلال منشور على صفحتها الرسمية على فيسبوك، أهدت فيها تحياتها للمصريين في أوكرانيا وناشدتهم عدم الخروج من المنازل والاحتفاظ بمستندات إثبات الشخصية ومتابعة تعليمات السلطات الأوكرانية، معلنة أنها ستتواصل مع الجالية من خلال صفحتها على فيسبوك.
مساء الجمعة؛ كررت السفارة عبر صفحتها مناشدتها المواطنين المصريين العالقين البقاء في منازلهم، معلنة أنها بصدد التفاوض على مسار آمن لخروج المتواجدين في المنطقة الشرقية، وناشدت المتواجدين في المنطقة الغربية التوجه نحو الحدود البولندية من دون أن تعلن عن وجود مسار آمن يضمن ألا يتعرض من يحاولون الهروب للقصف المتواصل. فيما ناشدت المتواجدين في الجنوب والوسط استمرار البقاء في منازلهم.
رسائل الجالية المصرية الغاضبة على صفحة السفارة في كييف، كشفت عن السؤال الذي يشغل العالقين: كيف نصل إلى الحدود الأوكرانية وسط القصف. ومن دون حماية قد تكفلها تحركات البعثات الدبلوماسية؟
في منشورات متلاحقة تالية أعلنت السفارة عن نجاح السفارات المصرية في رومانيا وبولندا في التفاوض على فتح الحدود لعبور الجالية المصرية في أوكرانيا إلى البلدين.
لكن رسائل الجالية الغاضبة في التعليقات على منشورات السفارة، ترافقها المناشدات والاستغاثات المتتالية على صفحات تصدت لمساعدة الجالية منها Travel secrets club، كشفت عن السؤال الذي شغل المصريين العالقين في أوكرانيا ومن بينهم طاهر السيد ورفاقه من الطلاب، وهو سؤال: كيف نصل إلى الحدود الأوكرانية وسط القصف. ومن دون حماية قد تكفلها تحركات البعثات الدبلوماسية؟
بقي التساؤل معلقاً، في وقت بدأ فيه المصريون هناك في تكوين شبكة يساعدون من خلالها بعضهم البعض على استكشاف الطرق الآمنة للخروج والحركة من المدن المتناثرة نحو الحدود الأوكرانية مع الدول التي أبدت استعداداً لاستقبال الهاربين من الحرب، خاصة وأن الحياة في أوكرانيا بالنسبة لطلاب محدودي الإمكانيات باتت شبه مستحيلة. يقول طاهر لرصيف22: "الأسعار في ارتفاع مستمر. زجاجة المياه كان سعرها 20 هريفنا أوكراني، تحول سعرها خلال الأيام الثلاثة (منذ بدء القصف) إلى 100 هريفنا! أنا وصحابي اضطرينا نشترك في زجاجتين حتى يتوفر مال لشراء باقي احتياجاتنا ودفع تكاليف الهروب من الجحيم".
بحسب السيد، باتت "تكلفة الهروب من الجحيم" مئات الدولارات. فمع تعذر نجاح السفارة في التفاوض على مسار آمن لخروج المصريين نحو الحدود، نشطت "فرق" أوكرانية تقود الراغبين في الخروج من خلال طرق آمنة نحو الحدود البولندية مقابل 2000 دولار لتهريب الشباب الأربعة، وهي تكلفة باهظة مقارنة بإمكانياتهم، وفي ظل مستقبل مجهول لا يعرفون معه كيف يستكملون دراستهم بعد ما تحملته أسرهم من تكاليف حصولهم على شهاداتهم التي باتت مهددة في ظل الحرب.
لكن طاهر قلق بسبب المستقبل القريب: "أنا معنديش فكرة لما اوصل هناك (بولندا) هيحصل إيه؟ بس اخدنا القرار وربنا يسترها. أنا هرجع على مصر. وعرفت من الشباب الأوكراني أنه وقت ما نوصل للحدود بيتم تسليمنا لسلطة الحدود هناك ومنها هنروح على السفارة المصرية اللي هتتولى مسؤولية عودتنا من رومانيا".
باتت "تكلفة الهروب من الجحيم" مئات الدولارات. فمع تعذر نجاح السفارة في التفاوض على مسار آمن لخروج المصريين نحو الحدود، نشطت "فرق" أوكرانية تقود الراغبين في الخروج من خلال طرق آمنة نحو الحدود مقابل 2000 دولار
عالقون هنا... عالقون هناك
تعد أوكرانيا واحدة من أكثر الدول تعاملاً مع الجانب المصري، إذ يأتي السائحين الأوكرانيين في مقدمة الوفود السياحية التي وصلت إلى مصر في أعقاب عودة السياحة نسبياً إلى سابق عهدها ما قبل جائحة كورونا.
ووصلت رحلات الطيران إلى قرابة 41 رحلة طيران، من بينها 27 رحلة طيران إلى شرم الشيخ، و14 رحلة إلى الغردقة، حيث أعلنت السفارة الأوكرانية لدى القاهرة أن أكثر من 727 ألف أوكراني زاروا الأراضي المصرية بهدف السياحة ما يشكل 21% من مجموع السياح الأجانب الذين توافدوا إلى مصر عام 2020.
ومع إغلاق الاجواء الأوكرانية أمام الطيران بسبب الحرب، أعلنت بعض الفنادق المصرية عن تمديد إقامة الأوكرانيين العالقين في مصر لمدة ثلاثة أيام من دون مقابل، وحتى تتولى السفارة الأوكرانية في مصر توفيق أوضاعهم، ولا يوجد تقدير رسمي معلن لعدد الأوكرانيين العالقين في مصر.
على الجانب الآخر، يقول عصام أبو الدهب، نائب رئيس الجالية المصرية في أوكرانيا والمتحدث الرسمي باسم الجالية، لرصيف22، إن الجالية المصرية في أوكرانيا تضم نحو 5000 مصري، معظمهم من الطلاب، ومنهم عائلات مستقرة في أوكرانيا منذ نحو عقدين من الزمن، وساهم إقبال الطلاب المصريين على الدراسة في أوكرانيا في اتساع حجم الجالية هناك خلال السنوات الأخيرة.
يوضح أبو الدهب لرصيف22: "المصريين هنا بيشتغلوا في مجال الاستيراد والتصدير من وإلى مصر، أو أطباء أو طلبة في كليات الطب والهندسة والقانون الدولي". ويرى أبو الدهب أن العائلات التي كونت روابط فيما بينها منذ انتقلوا إلى البلاد قبل سقوط الاتحاد السوفيتي أو في أعقابه مباشرة، صاروا هم عماد الجالية وهم من يساعدون الوافدين الجدد في تحسس خطواتهم عند وصولهم إلى أوكرانيا، وهم من يساعدون الآن في دعم الطلاب المصريين "إحنا كجالية مصرية عملنا جوجل فورم، وبالنسبة للطلبة تحديداً لأن الناس الكبيرة يتدبروا أمرهم، وفي منهم كتير متواصلين مع السفارة. لكن إحنا كجالية مصرية مهتمين أكتر بالشباب الجديد اللي لسة ملحقش يعرف أكتر عن أوكرانيا".
الحكومة تصرح
أعلنت وزيرة الهجرة المصرية نبيلة مكرم عن تشكيل غرفة عمليات طارئة مخصصة لمتابعة موقف الجالية المصرية في أوكرانيا، على خلفية تطورات الأوضاع هناك.
وعلى الرغم من توالي الاستغاثات من أفراد الجالية العالقين منذ بداية الازمة فجر الخميس 24 شباط/ فبراير، ومناشداتهم الواضحة على صفحات السفارات المصرية في الخارج لتوفير سبل عودة آمنة إلى مصر؛ قالت الوزيرة في تصريحات رسمية يوم 25 شباط/ فبراير، إنه لا توجد طلبات من المصريين في أوكرانيا بالعودة إلى مصر.
وتعقيباً على تصريحات وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج، يقول أبو الدهب: "في ناس عايزين يرجعوا أولادهم وخايفين عليهم. لكن الحقيقة الاجلاء دلوقتي صعب، لازم تدخل من جهات عليا. الناس مرعوبين. وعمومًا لو في حل من الطرف المصري بشكل عاجل أحسن من التأخير، لأن دلوقتي مفيش إصابات في المقيمين المصريين في كل المدن، لكن الوضع ممكن يتغير. الاتجاهات الوحيدة المفتوحة عن طريق بولندا المجر سلوفاكيا".
متابعا: "الجالية متواصلة مع وزارة الهجرة وتتم مداخلات من بعض القنوات لتوصيل الصورة هنا لصناع القرار في مصر وأهالي الطلبة، طبعا إحنا طبعا مقدرين خوف الأهالي على أولادهم، خاصة أنهم وسط الحرب، فأكيد الوضع صعب. لكن إحنا مش هنسيبهم لمصير مجهول؛ وشكلنا غرفة عمليات لمتابعة كل المصريين في أوكرانيا".
تلك المخاوف تعكسها كلمات طاهر السيد: "أنا مش فارق معايا دلوقت ولا دراسة ولا مستقبل. أنا حياتي كلها في خطر. صوت أمي وهي بتعيط أغلى عندي من كل دا. هرجع وسط أهلي، ووقتها هفكر هعمل إيه الخطوة الجاية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...