محتجزة في الغرفة مع ابنتي أغلب الوقت. تستخدمُ ذراعيّ، أذني وفمي، عينيّ وصدري ريثما تنضج حواسها وينمو جسدها الضئيل.
أوقات خروجي من الغرفة تشبه فواصل يخطفها سبّاح لالتقاط الأنفاس. حركتي بالخارج سريعة ومتوترة. أضعُ حلّة على النار ليغلي ماؤها، بينما أفرز الملابس لتشغيل الغسالة. أغسل الرز وأتركه ليصفو ماؤه بينما أنشر الملابس. أضع صينية الكوسا باللحم في الفرن، وبينما تنضج، أغسل أدوات الطهو.
أفعل هذا كلّه وأذناي معلّقتان على باب غرفتها مستعدة لتلبية النداء في أية لحظة. ثمّ أنسحب حتى لا تستيقظ، ونبدأ أنا وزوجي حديثنا بالهمس والإشارات.
قبل أيام كنت أحدّث زوجي همساً أثناء تناولنا للطعام، إذ ذكّرني أنّنا بمأمن خارج الغرفة، وأنّه يُمكنني أن أرفع صوتي قليلاً.
بتُّ أشتاق لغرفة الجلوس المطلّة على حديقة منزلي. اعتدتُ الجلوس فيها نهاراً بصحبة كتاب وكوب دافئ من النسكافيه أو فنجان قهوة. أمرّ بها الآن كمن يمرّ بمدينته البعيدة، ويلقي سلاماً من قطار مسرع.
بتُّ أشتاق لغرفة الجلوس المطلّة على حديقة منزلي. اعتدتُ الجلوس فيها نهاراً بصحبة كتاب وكوب دافئ من النسكافيه أو فنجان قهوة. أمرّ بها الآن كمن يمرّ بمدينته البعيدة، ويلقي سلاماً من قطار مسرع
باتت إنجازاتي تتمثل في إنهاء مشاهدة فيلم بدأت أنا وزوجي بمشاهدته منذ ثلاث ليالٍ، أو إكمال قراءة الفقرة التي توقفت عندها في كتاب، أو طهو وجبة طعام دون شم رائحة "شياط"، أو تناول وجبة غداء مع زوجي لا بالتناوب لمراقبة الصغيرة.
أعدتُ مشاهدة فيلم "Waitress" في شهور الحمل، وهو من أفلامي المفضلة. كنت في السابق كبطلة الفيلم غير مهتمة بوجود طفل لي، وراغبة في الزواج لأتشارك الحياة مع من أحب فقط.
كانت البطلة متزوجة وترغب بالانفصال، تدخّر من راتبها لتستقلّ مادياً إلى أن اكتشف زوجها الأمر، فاضطرت للكذب وأوضحت أنها تدخر المال لشراء مهد لطفلهما.
في عيد ميلادها، اشترت لها صديقاتها بعض الهدايا، منها دفتر للكتابة لتدوّن رسائل لطفلتها كي تنشأ علاقة حميمية بينهما، إذ لاحظن كراهيتها لفكرة الحمل والأمومة.
كانت أولى رسائلها لطفلتها مليئة بالكره والغضب لأنها استولت على كلّ أموالها وآمالها بالاستقلال مادياً عن زوجها، لدى شراء ذلك المهد.
كتبت لابنتي، التي لم ترَ العالم بعد، بعض الرسائل. أردتُ أن أتواصل معها قبل ولادتها رداً على زياراتها لي في الأحلام.
ثم توالت الرسائل وتنوعت من ذكريات وأحداث يومية. كتبت عن ألذّ فطيرة أعدّتها، وعن الأسماء التي كانت تُطلقها على الفطائر وهي طفلة صغيرة مع والدتها. وكتبت عن المكالمات الطويلة مع طبيبها وعشيقها.
صدقُ الرسائل تمكّن من خلق خيط وصال حقيقي وقوي بينهما، كالحبل السرّي.
أحببتُ فكرة الرسائل بين البطلة وابنتها. وكتبت لابنتي، التي لم ترَ العالم بعد، بعض الرسائل. أردتُ أن أتواصل معها قبل ولادتها رداً على زياراتها لي في الأحلام.
حدثتُها عن لقائي الأول بأبيها، عن "حدوتة" ما قبل النوم التي اخترعناها معاً لنسردها عليها حين تكبر قليلاً، عن فستان شاهدناه يوماً فتمنّينا رؤيته عليها، عن طير الكروان الذي أحب.
سألتُها عن الأغنيات التي فضّلتها من بين ما سمعت، فيوم علمت أن ما أسمع وأدندن به، وهي بداخلي، قد يُشكّلها، أصابتني دهشة مثيرة وغامضة.
أخذت أتخيّل الفتاة التي تتشكّل من آيات قرآنية بصوت مصطفى إسماعيل ومحمد رفعت مع ألحان الشيخ إمام بصوته الخشن في "الهوى غلاب". أتخيّل الفتاة التي تتشكّل من صرخات داليدا الفاضحة بالألم والاحتياج في "je suis malade"، ووهج الشغف المثير والعنفوان لبويكا الإسبانية في "Por el Amorde Amar"، وأناقة صوت عبد الوهاب الموجعة مع خفة محمد قنديل المحفزة على الرقص بدلال، وغواية أسمهان الناعسة وفحش الغناء الشعبي القديم المصحوب بالغمزات ورنات الخلخال، وخشونة جورج وسوف السكرانة.
حدّثتُها عن حلمي الأول بها الذي عرّفني بوجودها قبل أنْ أجري أيّة اختبارات. صحوتُ مبتسمةً ورحت أتحسّس بطني بنعومة، وفهمت حينها أنّني تحولت من طائر لجذر ينغرس في الأرض، لتنبت الصغيرة وتنمو. لم أهتم بقصقصة جناحيّ، فقط تمنيت أن تتفتح الأزهار البيضاء تلك وتُظهر وجه ابنتي بعد أن مسّني الشوق لها.
في الفيلم، كان مشهد رؤية البطلة لابنتها بعد الولادة من أجمل المشاهد. في تلك اللحظة، كان هناك خلاف بين زوجها وعشيقها الطبيب. اختارت مخرجة الفيلم أن يكون الخلاف صامتاً، وكأنّها قامت بالضغط على زرّ "الريموت" ليكون المشهد بلا صوت. نشاهد فقط الحركة وصراع الأيدي والأقدام، والكلمات تتقاذف بينهما كخلفية صامتة ومشوشة، بينما تسرح البطلة في وجه طفلتها وعينيها، وكأنّها وقعت في الحب من أول نظرة، ودخلت في عالم آخر، عالم الأمومة.
صحوتُ مبتسمةً ورحت أتحسّس بطني بنعومة، وفهمت حينها أنّني تحولت من طائر لجذر ينغرس في الأرض، لتنبت الصغيرة وتنمو. لم أهتم بقصقصة جناحيّ، فقط تمنيت أن تتفتح الأزهار البيضاء تلك وتُظهر وجه ابنتي بعد أن مسّني الشوق لها
بعد الولادة، كنتُ تحت تأثير الحقنة المسكّنة لساعات. ظللتُ أطلبُ من أبيها أن يأتيني بها، أرفع رأسي قليلاً لأراها وأعود للنوم. كنت أحاول حفظ ملامح وجهها دفعة واحدة، ولكن التخدير كان يمنعني من رؤيتها بشكلٍ واضح. كنتُ أسمع الأحاديث حولي مشوّشة، كلّ ما فهمته هو أنّها فتاة جميلة، وضحكات متناثرة حولي تطلب رؤيتها مجدداً. ولكن لن يسرقها منّي أحد.
أسميناها ليلى، وها هي لا تفارقني للحظة، فطوال كتابة هذا النصّ كانت محمولة على جسدي ورأسها الصغير مستريحاً على كتفي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...